الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّۚ قُلِ ٱللَّهُ يَهۡدِي لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ} (35)

قوله تعالى : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } : قد تقدم في أول هذا الموضوع أنَّ " هَدَى " يتعدَّى إلى اثنين ثانيهما : إمَّا باللام أو بإلى ، وقد يُحْذَفُ الحرفُ تخفيفاً . وقد جُمع بين التعديتين هنا بحرف الجر فَعَدَّى الأول والثالث ب " إلى " والثاني باللام ، وحُذِف المفعولُ الأول من الأفعال الثلاثة ، والتقدير : هل مِنْ شركائكم مَنْ يَهْدي غيره إلى الحق قل اللَّهُ يَهْدي مَنْ يشاء للحق ، أفَمَنْ يهدي غيرَه إلى الحق . وزعم الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري أنَّ " يهدي " الأولَ قاصرٌ ، وأنه بمعنى اهتدى . وفيه نظر ، لأن مُقابلَه وهو { قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } متعدٍّ . وقد أنكر المبرد أيضاً مقالة الكسائي والفراء وقال : " لا نَعْرِفُ هَدَى بمعنى اهتدى " قلت : الكسائي والفراء أَثْبتاه بما نقلاه ، ولكن إنما ضَعُف ذلك هنا لِما ذَكَرْت لك من مقابلته بالمتعدي ، وقد تقدَّم أن التعديةَ ب " إلى " أو اللام من باب التفنُّن في البلاغة ، ولذلك قال الزمخشري : " يقال : هَدَاه للحق وإلى الحق ، فجمع بين اللغتين " . وقال غيره : " إنما عَدَّى المسندَ إلى الله باللام/ لأنها أَدَلُّ في بابها على المعنى المرادِ من " إلى " ؛ إذ أصلُها لإِفادةِ المُلْك ، فكأن الهداية مملوكة لله تعالى " وفيه نظر ، لأن المراد بقوله : { أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } هو الله تعالى مع تَعدِّي الفعلِ المسند إليه ب " إلى " .

قوله : { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ } خبرٌ لقوله : " أَفَمَنْ يَهْدي " و " أَنْ " في موضعِ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الخافض ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، وتقديرُ هذا كله : " أَفَمَنْ يهْدي إلى الحقّ أَحَقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يَهْدي " . ذكر ذلك مكي ابن أبي طالب ، فجعل " أحقّ " هنا على بابها من كونها للتفضيل . وقد منع الشيخ كونَها هنا للتفضيل فقال : " وأحق " ليست للتفضيل ، بل المعنى : حقيقٌ بأن يُتَّبع " . وجوَّز مكي أيضاً في المسألة وجهين آخرين أحدهما : أن تكون " مَنْ " مبتدأ أيضاً ، و " أنْ " في محلِّ رفع بدلاً منها بدلَ اشتمال ، و " أحقُّ " خبرٌ على ما كان . والثاني : أن يكون " أن يُتَّبع " في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و " أحقُّ " خبرُه مقدَّم عليه . وهذه الجملةُ خبر ل " مَنْ يَهْدي " ، فَتَحَصَّل في المسألة ثلاثة أوجه .

قوله : { أَمَّن لاَّ يَهِدِّي } نسقٌ على " أفمن " ، وجاء هنا على الأفصحِ مِنْ حيث إنَّه قد فُصِل بين " أم " وما عُطِفَتْ عليه بالخبر كقولك : " زيدٌ قائم أم عمرو " ومثله : *** { أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ } [ الفرقان : 15 ] . وهذا بخلاف قوله تعالى : { أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 109 ] وسيأتي هذا في موضعه .

وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسر ياء " يهدي " وهائه . وحفص بكسر الهاء دون الياء . فأمَّا كسر الهاء فلالتقاء الساكنين ، وذلك أن أصلَه يَهْتدي ، فلما قُصِد إدغامُه سكنَتْ التاء ، والهاءُ قبلَها ساكنة فكُسِرَتْ الهاءُ لالتقاء الساكنين . وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر . وقال أبو حاتم في قراءة حفص " هي لغة سُفْلَى مُضَر " ، ونَقَل عن سيبويه أنه لا يُجيز " يِهْدي " ويجيز " تِهْدي ونِهْدي وإهدي " ، قال : " لأن الكسرةَ تَثْقُل في الياء " ، قلت : يعني أنه يُجيز كَسْرَ حرفِ المضارعة من هذا النحو نحو : تِهْدي ونِهدي وإهدي إذ لا ثِقَلَ في ذلك ، ولم يُجِزْهُ في الياء لثقل الحركةِ المجانسةِ لها عليها . وهذا فيه غَضٌّ من قراءة أبي بكر ، ولكنه قد تواتَرَ قراءةً فهو مقبول .

وقرأ أبو عمرو وقالون عن نافع بفتح الياء واختلاس فتحة الهاء وتَشْديد الدال ، وذلك أنهما لَمَّا ثقَّلا الفتحة لإِدغام اختلسا الفتحة تنبيهاً على أن الهاءَ ليس أصلُها الحركةَ بل السكون . وقرأ ابن كثير وابن عامر وورش بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل . وقد رُوي عن أبي عمرو وقالون اختلاسُ كسرةِ الهاءِ على أصل التقاء الساكين ، والاختلاس للتنبيه على أنَّ أصلَ الهاءِ السكون كما تقدم .

وقرأ أهلُ المدينة خلاورشاً بفتح الياء وسكون الهاء وتشديدِ الدال . وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمعُ بين الساكنين . قال المبرد : " مَنْ رام هذا لا بد أن يُحَرِّكَ حركةً خفيَّة " . وقال أبو جعفر النحاس : " لا يقدر أحدٌ أن يَنْطِقَ به " ، قلت : وقد قال في " التيسير " : " والنصُّ عن قالون بالإِسكان " ، قلت : ولا بُعْدَ في ذلك فقد تقدَّم أن بعضَ القُرَّاء يَقْرأ { نِعِمَّا } [ النساء : 58 ] و { لاَ تَعْدُواْ } [ النساء : 154 ] بالجمع بين الساكنين ، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة في قوله : { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } [ البقرة : 20 ] ، وسيأتي لك مثلُ هذا في { يَخِصِّمُونَ } [ يس : 49 ] .

وقرأ الأخَوان " يَهْدي " بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيفِ الدال مِنْ هَدَى يَهْدي وفيه قولان ، أحدهما : أنَّ " هَدَى " بمعنى اهتدى . والثاني : أنه متعدٍّ ، ومفعولُه محذوف كما تقدَّم تحريره . وقد تقدم قول الكسائي والفراء في ذلك ورَدَّ المبرد عليهما . وقال ابن عطية : " والذي أقوال : قراءةُ حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى : أَمْ مَنْ لا يهدي أحداً إلا أن يُهدى ذلك الأحدُ بهداية الله ، وأمَّا على غيرِها مِنَ القراءات التي مقتضاها " أم لا يَهْتدي إلا أن يُهدَى " فيتجه المعنى على ما تقدَّم " ثم قال : " وقيل : تمَّ الكلامُ عند قوله : " أم مَنْ لا يَهِدِّي ، أي : لا يَهِدِّي غيره " .

ثم قال : { إِلاَّ أَن يُهْدَى } استثناءٌ منقطع ، أي : لكنه يحتاج إلى أن يُهْدَى كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أَنْ يُسْمع ، أي : لكنه يحتاج إلى أن يَسمع " . انتهى . ويجوز أن يكونَ استثناءً متصلاً ، لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابليةُ الهدايةِ بخلافِ الأصنام . ويجوز أن يكونَ استثناء من تمامِ المفعول له ، أي : لا يهدي لشيءٍ من الأشياءِ إلا لأَجْل أن يُهْدَى بغيره .

وقوله : { فَمَا لَكُمْ } مبتدأ وخبر . ومعنى الاستفهام هنا الإِنكارُ والتعجبُ ، أي : أيُّ شيءٍ لكم في اتخاذ هؤلاء إذ كانوا عاجزين عن هدايةِ أنفسهم فكيف يمكن أن يَهْدُوا غيرَهم ؟ وقد تقدَّم أن بعضَ النحويين نصَّ على أن مثل هذا التركيبِ لا يتمُّ إلا بحالٍ بعده ، نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } [ المائدة : 84 ] إلى غير ذلك ، وهنا لا يمكن أن تُقَدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً لأنها استفهامية ، والاستفهامية لا تقع حالاً . وقوله : " كيف تحكمون " استفهامٌ آخرُ ، أي : كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أنداداً وشركاء ؟ .