تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما فصل طالوت بالجنود}، فسار في حر شديد... {قال إن الله} عز وجل {مبتليكم بنهر} بين الأردن وفلسطين، {فمن شرب منه فليس مني}: ليس معي على عدوي، {ومن لم يطعمه فإنه مني}، فإنه معي على عدوي، ثم استثنى، فقال: {إلا من اغترف غرفة بيده}... ووصلوا إلى النهر من مفازة، وأصابهم العطش، فلما رأى الناس الماء ابتدروا فوقعوا فيه، {فشربوا منه إلا قليلا منهم}. {فلما جاوزه}، أي جاوز النهر {هو}، يعني طالوت، {والذين آمنوا معه}، وكلهم مؤمنون...
{قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}، فرد عليهم {قال الذين يظنون}، يعني الذين يعلمون {أنهم ملاقوا الله}، لأنهم قد طابت أنفسهم بالموت،
{كم من فئة}: جند {قليلة} عددهم، {غلبت فئة كثيرة} عددهم {بإذن الله والله مع الصابرين} في النصر على عدوهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
في هذا الخبر من الله تعالى ذكره متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره. ومعنى الكلام: إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين، فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فصدقوا عند ذلك نبيهم، وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم، وأذعنوا له بذلك. يدل على ذلك قوله:"فَلَمّا فَصلَ طالُوتُ بالجُنُودِ" وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له، لأنه لم يكن ممن يقدرون على إكراههم على ذلك فيظنّ به أنه حملهم على ذلك كرها.
"فَصَلَ": شخَص بالجند ورحل بهم. وأصل الفصل: القطع، يقال منه: فصل الرجل من موضع كذا وكذا، يعني به قطع ذلك، فجاوزه شاخصا إلى غيره.
وقيل: إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل، لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته، أو كبير لهرمه، أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه... فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا قال: "إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ "يقول: إن الله مختبركم بنهر، ليعلم كيف طاعتكم له.
وقد دللنا على أن معنى الابتلاء: الاختبار.
وقيل: إن طالوت قال: "إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ" لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوّهم، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوّهم نهرا، فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله: "إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ"... والنهر الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به قيل: هو نهر بين الأردنّ وفلسطين.
وقال آخرون: بل هو نهر فلسطين. "فمَنْ شَربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْه فإنّهُ مِنّي إلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ": فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت أنه قال لجنوده إذ شكوا إليه العطش، فأخبر أن الله مبتليهم بنهر، ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر، هو أن من شرب من مائه فليس هو منه، يعني بذلك أنه ليس من أهل ولايته وطاعته، ولا من المؤمنين بالله وبلقائه. ويدلّ على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره: "فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ" فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا. ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوّهم من جالوت وجنوده بقوله: "قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ"، وأخبرهم أنه من لم يطعمه، يعني من لم يطعم الماء من ذلك النهر، والهاء في قوله: "فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ" وفي قوله: "وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ" عائدة على النهر، والمعنى لمائه. ومعنى قوله: "لَمْ يَطْعَمْهُ": لم يذقه، يعني: ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني، يقول: هو من أهل ولايتي وطاعتي والمؤمنين بالله وبلقائه. ثم استثنى من قوله: "ومَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ" المغترفين بأيديهم غرفة، فقال: ومن لم يطعم ماء ذلك النهر إلا غرفة يغترفها بيده فإنه مني.
ثم اختلفت القرّاء في قراءة قوله: "إلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ"؛ فقرأه عامة قراء أهل المدينة والبصرة: «غَرْفَةً» بنصب الغين من الغرفة، بمعنى الغرفة الواحدة، من قولك: اغترفت غَرفة، والغَرْفَة هي الفعل بعينه من الاغتراف. وقرأه آخرون بالضم، بمعنى: الماء الذي يصير في كفّ المغترف، فالغُرْفة الاسم، والغَرْفة المصدر. وأعجب القراءتين في ذلك إليّ ضمّ الغين في الغرفة بمعنى: إلا من اغترف كفا من ماء، لاختلاف غرفة إذا فتحت غينها، وما هي له مصدر وذلك أن مصدر اغترف اغترافة، وإنما غَرْفة مصدر غَرَفْت، فلما كانت غَرفة مخالفة مصدر اغترف، كانت الغُرفة التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا أشبه منها بالغَرفة التي هي بمعنى الفعل. وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء، فكان من شرب منه عطش، ومن اغترف غُرفة روي.
"فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْم بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ": فلما جاوز النهر طالوت. والهاء في «جاوزه» عائدة على النهر، وهو كناية اسم طالوت. "وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ": وجاوز النهر معه الذين آمنوا. "قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ". ثم اختلف في عدّة من جاوز النهر معه يومئذ ومن قال منهم لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فقال بعضهم: كانت عدتهم عدة أهل بدر ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً...
وقال آخرون: بل جاوز معه النهر أربعة آلاف، وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق حين لقوا جالوت. وأولى القولين في ذلك بالصواب: أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير. ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه، وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق، وهم الذين قالوا: "لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ" ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم، وهم أهل الثبات على الإيمان، فقالوا: "كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ واللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ".
فإن ظنّ ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم، ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة، لأن الله تعالى ذكره قال: "فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ" فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان، على ما رُوي به الخبر عن البراء بن عازب، ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان لما خصّ الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان، أعنى فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر، وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، عن المؤمنين بالمجاوزة، لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر، وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين. والذي يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك قول الله تعالى ذكره: "فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْم بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الّذِين يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ" فأوجب الله تعالى ذكره أن الذين يظنون أنهم ملاقو الله هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر: "كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ" دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله، وأن الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله هم الذين قالوا: "لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ" وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله أو شكّ فيه.
"قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةِ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ".
اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين، أعني القائلين: "لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ" والقائلين: "كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ" من هما؟ فقال بعضهم: الفريق الذين قالوا: "لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ" هم أهل كفر بالله ونفاق، وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده، لأنهم انصرفوا عن طالوت، ومن ثبت معه لقتال عدوّ الله جالوت ومن معه، وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر. وقال آخرون: كلا الفريقين كان أهل إيمان، ولم يكن منهم أحد شرب من المَاء إلا غُرفة، بل كانوا جميعا أهل طاعة، ولكن بعضهم كان أصحّ يقينا من بعض، وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا: "كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ" والاَخرون كانوا أضعف يقينا، وهم الذين قالُوا: "لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ".
وأولى القولين في تأويل الآية ما ذكرنا آنفا.
"قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ": قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقوا الله.
وأما الفئة؛ فإنهم الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه، وهو مثل الرهط والنفر. "وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ": والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته، وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادّين عن سبيله، المخالفين منهاج دينه. وكذلك يقال لكل معين رجلاً على غيره هو معه بمعنى هو معه بالعون له والنصرة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإشارة من هذه الآية أن الله سبحانه ابتلى الخَلْق بصحبة الخلْق وبالدنيا وبالنَّفس، ومن كانت صحبته مع هذه الأشياء على حدِّ الاضطرار بمقدار القوام، وما لا بد منه نجا وسَلِمَ...
{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ}: كذلك الخواص في كل وقت يقل عددهم ولكن يجل قدرهم. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}: فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فَدَاخَلَهم شيء من رعب البشرية، فربط الله على قلوبهم بما ذكَرهم من نصرة الحق سبحانه لأوليائه إذا شاء. {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}: لا بهم ولكن بإذن الله، بمشيئته وعونه ونصرته، والله مع الصابرين بالنصرة والتأييد والقوة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله: {فليس مني} أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان...
وفي قوله تعالى: {ومن لم يطعمه} سد للذرائع لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم. ولهذه المبالغات لم يأت الكلام، ومن لم يشرب منه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: فأتاهم التابوت على الصفة المذكورة فأطاعوا نبيهم فيه فملكوه وانتدبوا معه فخرج بهم إلى العدو وفصل بالجنود من محل السكن، عطف عليه قوله: {فلما فصل} من الفصل وهو انقطاع بعض من كل، وأصله: فصل نفسه أو جنده -أو نحو ذلك، ولكنه كثر حذف المفعول للعلم به فصار يستعمل استعمال اللازم {طالوت} أي الذي ملكوه {بالجنود} أي التي اختارها وخرجوا للقاء من سألوا لقاءه لكفره بالله مع ما قد أحرقهم به من أنواع القهر. قال الحرالي: وهو جمع جند وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع {قال} أي ملكهم {إن الله} أي الذي لا أعظم منه وأنتم خارجون في مرضاته {مبتليكم بنهر} من الماء الذي جعله سبحانه وتعالى حياة لكل شيء، فضربه مثلاً للدنيا التي من ركن إليها ذل ومن صدف عنها عز.
قال الحرالي: فأظهر الله على لسانه ما أنبأ به نبيّهم في قوله {وزاده بسطة في العلم} [البقرة: 247]... {فمن شرب منه} أي ملأ بطنه {فليس مني} أي كمن انغمس في الدنيا فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون {ومن لم يطعمه فإنه مني} كمن عزف عنها بكليته ثم تلا هذه الدرجة العلية التي قد قدمت للعناية بها بما يليها من الاقتصاد فقال مستثنياً من {فمن شرب}: {إلا من اغترف} أي تكلف الغرف {غرفة بيده} ففي قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها أخذة ما أخذت من قليل أو كثير، وفي الضم إعلام بملئها، والغرف بالفتح الأخذ بكلية اليد، والغرفة الفعلة الواحدة منه، وبالضم اسم ما حوته الغرفة، فكان في المغترفين من استوفى الغرفة ومنهم من لم يستوف... وقال: فكان فيه إيذان بتصنيفهم ثلاثة أصناف: من لم يطعمه البتة وأولئك الذين ثبتوا وظنوا أنهم ملاقو الله، ومن شرب منهم وأولئك الذين افتتنوا وانقطعوا عن الجهاد في سبيل الله ومن اغترف غرفة وهم الذين ثبتوا وتزلزلوا حتى ثبتهم الذين لم يطعموا.
ولما كان قصص بني إسرائيل مثالاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر ابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها، فكانت جيوشهم بحكم هذا الإيحاء الاعتباري إذا مروا بنهر أموال الناس وبلادهم وزروعهم وأقطارهم في سبيلهم إلى غزوهم، فمن أصاب من أموال الناس ما لم ينله الإذن من الله انقطع عن ذلك الجيش ولو حضره. فما كان في بني إسرائيل عياناً يكون وقوعه في هذه الأمة استبصاراً سترة لها وفضيحة لأولئك، ومن لم يصب منها شيئاً بتاً كان أهل ثبت ذلك الجيش الثابت المثبت. قيل لعلي رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين! ما بال فرسك لم يكب بك قط؟ قال: ما وطئت به زرع مسلم قط. ومن أصاب ما له فيه ضرورة من منزل ينزله أو غلبة عادة تقع منه ويوده أن لا يقع فهؤلاء يقبلون التثبيت من الذين تورعوا كل الورع.
فملاك هذا الدين الزهد في القلب والورع في التناول باليد، قال صلى الله عليه وسلم:"إنما تنصرون بضعفائكم" وفي إلاحة هذا التمثيل والاعتبار أن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد الثابتين من أصحاب طالوت الذين بعددهم كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد المرسلين من كثرة عدد النبيين.
قال: وفي إفراد اليد إيذان بأنها غرفة اليد اليمنى لأنها اليد الخاصة للتعريف، ففي اعتباره أن الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين لاشتمال اليدين على جانبي الخير والشر...
فعرض لهم النهر كما أخبرهم به {فشربوا منه} مجاوزين حد الاقتصاد {إلاّ قليلاً منهم} فأطاعوا فأرواهم الله وقوى قلوبهم، ومن عصى في شربه غلبه العطش وضعف عن اللقاء فبقي على شاطئ النهر... ولما ذكر فتنتهم بالنهر أتبعه فتنة اللقاء ببحر الجيش وما فيه من عظيم الخطر المزلزل للقلوب حثاً على سؤال العافية وتعريفاً بعظيم رتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم يوم عرض نفسه الشريفة على أهل الطائف ومسه منهم من عظيم الأذى ما مسه: (إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ولكن رحمتك أوسع لي!) فقال سبحانه وتعالى: {فلما جاوزه} أي النهر من غير شرب، من المجاوزة مفاعلة من الجواز وهو العبور من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى {هو والذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان وجاوزوا {معه} وتراءت الفئتان {قالوا} أي معظمهم. قال الحرالي: رد الضمير مرداً عاماً إيذاناً بكثرة الذين اغترفوا وقلة الذين لم يطعموا كما آذن ضمير شربوا بكثرة الذين شربوا منه... {لا طاقة} مما منه الطوق وهو ما استقل به الفاعل ولم يعجزه
{لنا اليوم} أي على ما نحن فيه من الحال {بجالوت وجنوده} لما هم فيه من القوة والكثرة.
قال الحرالي: ففيه من نحو قولهم {ولم يؤت سعة من المال} اعتماداً على أن النصر بعدة مال أو قوة، وليس إلا بنصر الله، ثم قال: فإذا نوظر هذا الإنباء منهم والطلب أي كما يأتي في {ربنا أفرغ} بما تولى الله من أمر هذه الأمة في جيشهم الممثول لهذا الجيش في سورة الأنفال من نحو قوله {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} [الأنفال: 11]- الآيات، علم عظيم فضل الله على هذه الأمة واستشعر بما يكون لها في خاتمتها مما هو أعظم نبأ وأكمل عياناً فلله الحمد على ما أعظم من فضله ولطفه...
ولما أخبر عنهم بهذا القول نبه على أنه لا ينبغي أن يصدر ممن يظن أن أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام ولا ينقص بالجرأة والإقدام وأنه يلقى الله فيجازيه على عمله وأن النصر من الله لا بالقوة والعدد فقال: {قال الذين يظنون} أي يعلمون ولكنه عبر بالظن لما ذكر {أنهم ملاقوا الله} أي الذي له الجلال والإكرام إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من الله والرجاء له الظن لأنه يوجب فرار العقل مما يظن أنه يكرهه سبحانه وتعالى إنقاذاً لنفسه من الهلاك بذلك كما أسرف هؤلاء في الشرب لظن الهلاك بعدمه ورجعوا لظن الهلاك باللقاء؛ ويجوز أن يكون الظن على بابه ويأول اللقاء بالحالة الحسنة {كم من فئة قليلة} كما كان في هذه الأمة في يوم بدر {غلبت فئة كثيرة} ثم نبه على أن سبب النصر الطاعة والذكر لله بقوله: {بإذن الله} أي بتمكين الذي لا كفوء له، فلا ينبغي لمن علم ذلك أن يفتر عن ذكره ويرضى بقضائه. ثم بين أن ملاك ذلك كله الصبر بقوله: {والله} أي الملك الأعظم {مع الصابرين *} ولا يخذل من كان معه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
علم من السياق أن الغرض الأول من طلب القوم نصب الملك عليهم هو أن يتولى قيادتهم للقتال في سبيل الله ويثأر من أولئك الوثنيين الذين أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، فكان المتوقع بعد بيان نصب الملك أن يذكر ما كان من شأنه في القتال وذلك ما بينه تعالى ذكره بقوله: {فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده}...
فالابتلاء سيكون على ثلاث مراتب: مرتبة من يشرب فيروى لا يبالي بالأمر وحكمه أن يتبرأ منه، ومرتبة من يأخذ بيده غرفة يبل بها ريقه وهو مقبول في الجملة، ومرتبة من لا يذوقه البتة وهو الولي النصير الذي يوثق باتحاده، ويعول على جهاده...
قال تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا منهم} ذلك أن القوم كانوا قد فسد بأسهم وتزلزل إيمانهم، واعتادوا العصيان فسهل عليهم عصيانهم، وشق عليهم مخالفة الشهوة وإن كان فيها هوانهم، ولم يبق فيهم من أهل الصدق في الإيمان والغيرة على الملة والأمة إلا نفر قليل {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: 13) والعدد القليل من أهل العزائم، يفعل ما لا يفعل الكثير من ذوي المآثم، كما يعلم من قوله تعالى: {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه} أي فلما جاوز النهر طالوت هو والذين آمنوا معه {قالوا} أي الجنود وهم أولئك الذين شربوا منه إلا قليلا منهم {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} [ف] الطاقة: أدنى درجات القوة... وجالوت هو أشهر أبطال أعدائهم الفلسطينيين... والعبارة تشعر بأن جنود الفلسطينيين كانوا أكثر من الإسرائيليين. أي قال جمهور الجنود ليس لنا أدنى شيء من جنس الطاقة بلقاء جالوت وجنوده...
ومن بديع إيجاز القرآن أن يحذف شيء ويأتي في السياق بما يدل عليه، وأن يذكر القوم بوصف غير ما دل عليه الكلام أو يجعله في مكان الضمير لإفادة أن هذا الوصف المذكور هو سبب في الفعل أو الوصف الذي سيق الكلام لتقريره، كما وصف الذين لم يشربوا بالإيمان مرة وباعتقاد لقاء الله تعالى مرة أخرى، فأعلمنا أن هذا الإيمان والاعتقاد هما سبب طاعة القائد وترك الشرك، وسبب الشجاعة والإقدام على لقاء العدو الذي يفوقهم عددا...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: لما تملَّك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال عدوهم، فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرا وجما غفيرا، امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني} فهو عاص ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته
{ومن لم يطعمه} أي: لم يشرب منه فإنه مني {إلا من اغترف غرفة بيده} فلا جناح عليه في ذلك، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان، فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلا على الله، وتضرعا واستكانة وتبرؤا من حولهم وقوتهم، وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم،
فلهذا قال تعالى: {فلما جاوزه} أي: النهر {هو} أي: طالوت {والذين آمنوا معه} وهم الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا... قلتهم وكثرة أعدائهم، قالوا أي: قال كثير منهم {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} لكثرتهم وعَددهم وعُددهم
{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} أي: يستيقنون ذلك، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} أي: بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، {والله مع الصابرين} بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق.. والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص يترك هنا فجوة بين المشهدين. فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود: {فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهر. فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني -إلا من اغترف غرفة بيده. فشربوا منه إلا قليلا منهم}.. هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل.. إنه مقدم على معركة؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة. وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة. هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة. الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء.. فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه، وصموده وصبره: صموده أولا للرغبات والشهوات، وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب.. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش. ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه، ويؤثر العافية.. وصحت فراسته: (فشربوا منه إلا قليلا منهم).. شربوا وارتووا. فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم. انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم. وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة. [ف] الجيوش ليست بالعدد الضخم، ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الجازمة، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق. ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي؛ ولا بد من التجربة العملية، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها. ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى.. بل مضى في طريقه. وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت- إلى حد -ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد: {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}.. لقد صاروا قلة. وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته: بقيادة جالوت. إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم. ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته. إنها التجربة الحاسمة. تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور. وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم، فاتصلت بالله قلوبهم؛ وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم! وهنا برزت الفئة المؤمنة. الفئة القليلة المختارة. والفئة ذات الموازين الربانية: {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. والله مع الصابرين}.. هكذا. (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة).. بهذا التكثير. فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله. القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار. ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة. قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين. وهم يكلون هذا النصر لله: {بإذن الله}.. ويعللونه بعلته الحقيقية: {والله مع الصابرين} فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
و لما خرج طالوت بجند بني إسرائيل قال لهم: إن الله مبتليكم أي مختبركم "بنهر "وهو بالفتح والسكون لغتان فيه، والنهر: المجرى الواسع الذي يجري فيه الماء، مأخوذ من نهر الأرض بمعنى شقها شقا واسعا.
و ما نوع الابتلاء؟ أهو ابتلاء لمعرفة مقدار طاعة جنده؛ لأنهم بايعوه وما أرادوا، وقبلوا ملكه وما كادوا يفعلون، فأراد قبل أن يخوض غمار الحرب أن يعرف من أذعن ورضي فيقاتل به؛ لأنه يكون كنفسه، ومن كان في قلبه ذرة من التمرد أو عدم الإذعان القلبي، فإنه ليس له به حاجة. والنصرة في الجيش باتحاد القلوب والقوة المعنوية، وحسن الطاعة للقيادة، فجند قليل متحدة أهواؤهم ينتصرون بعون الله. على ذلك جمهور المفسرين.
و يصح أن يكون المراد بابتلاء الله لهم أنهم يفصل بينهم وبين أعدائهم نهر، وقد وصلوا إليه مجهدين من العطش والتعب، فخشي أنهم إن مكثوا حوله، وملئوا مزاداتهم وبطونهم واستراحوا واستجموا، أحس بهم أعداؤهم، فاجتازوا النهر إليهم، وأبعدوهم عنه، فأراد طالوت أن يأخذ عدوه بالجولة الأولى المفاجئة، فيجتاز النهر قبل أن يحسوا به، وإن اجتازوه صار النهر في قبضتهم يشربون منه ما شاءوا من غير حاجة إلى التزود، وكانوا هم على الماء، وعدوهم أسفل منه.
هذا احتمال قريب لا ينافيه نسق القرآن الكريم، ويتحقق فيه معنى الابتلاء الشديد؛ لأن كونهم بجوار الماء بعد جهد وعطش، ولا يأخذون منه إلا غرفات تذهب بالعطش من غير شبع وتزود منه، هذا بلا شك ابتلاء من الله، ويتحقق فيه أيضا معنى الاختبار للطاعة، وهو يتفق مع الخطط الحربية، لأن الفجاءة في الحروب سلاح يقتل ويفرق الجمع، ثم فيه اختبار لعزائمهم وقوة إرادتهم فوق اختبار طاعتهم...
"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" اجتاز طالوت النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب، ولم ينالوا من الماء إلا ما يدفع العطش المميت. ولقد عبر سبحانه عن أولئك الصابرين الطائعين المدركين بقوله تعالى: [والذين آمنوا معه] للإشارة إلى أن الإيمان بالله والإذعان له سبحانه هو السبب في طلبهم العزة، وتحملهم المشاق في سبيلها، والصبر على المتاعب لنيلها، والطاعة لمن اصطفاه الله وليا لأمرهم، ومدبرا لشئونهم، وقائدا لهم في ميدان العزة والكرامة.
والضمير في قوله تعالى: [قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده] يحتمل أن يعود على بعض الذين اجتازوا النهر، ويحتمل أن يعود على الذين استناموا للراحة ولم يجتازوا النهر.
وعلى الأول يكون المعنى: إن الذين اجتازوا النهر، وهم الطائعون الصابرون المعتزمون كانوا فريقين: فريق هاله العدو وكثرته، فاعتراهم الخوف، وقالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت (وهو قائد جيش العدو) وجنوده، وفريق آخر لم تأخذ فؤاده الكثيرة ولم يذهب قلبه شعاعا، وهم الذين قال سبحانه وتعالى عنهم: "قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله".
و كأنه على هذا التخريج يكون بنو إسرائيل مراتب ثلاثة: أولاها وأدناها: أولئك الذين ارتضوا بالعصيان وخالفوا أمر قائدهم، والثانية: أولئك الذين اجتازوا النهر وأطاعوا، ولكن هالتهم الكثرة الكاثرة، وحسبوها الكارثة، والمرتبة العليا هم أولئك الذين آمنوا بلقاء الله تعالى، وفضلوا الباقية على الفانية، وباعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى.
و على أن الضمير في "قالوا" يعود على الذين لم يجتازوا النهر، يكون المعنى: إن الذين استناموا للراحة، وآثروا العصيان تقاولوا فيما بينهم وقالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، أي أننا في حاجة إلى الراحة اليوم وإذا نلنا حظنا من الاستجمام والماء فقد يكون اللقاء. وأما الفريق الذين اجتازوا النهر، فقد وجدوا أنفسهم قلة قليلة أمام جموع كثيرة، وقد تخلف من إخوانهم الأكثرون، وقعدوا في الضفة الأخرى مخالفين، ولكنهم مطمئنون إلى نصر الله وتأييده وقد آمنوا بالآخرة فطلبوا الموت لينالوا الحياة، كما قال الصديق خليفة رسول الله: (اطلب الموت توهب لك الحياة) وقالوا: [كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله].
و معنى لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده: لا قدرة لنا اليوم على ملاقاة جالوت وجنوده، ولو بتحمل أقصى المشقة، إذ الطاقة معناها أقصى ما يبذل من مشقة لحمل الأمر، وإذا انتفى ذلك فمعناه أن الأمر مستحيل بالنسبة لقدرهم، وهذا هو ما يصوره الضعف والاستخذاء، واستمرار الذلة والضعة والهوان. و لأن القائلين لذلك القول فيهم هذه الصفات، نرجح أن الضمير يعود على الذين لم يجتازوا النهر ورضوا بالمقام مع العصيان.
فهذا قول الذين عصوا وذلوا، أما قول الآخرين فقد حكاه الله تعالى بقوله: [قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله] الظن هنا بمعنى العلم القطعي الجازم؛ لأن شأن المؤمن أن يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر إيمانا قاطعا جازما لا شك فيه، وإنما عبر عن العلم اليقيني في هذا المقام بلفظ الظن بسببين:
أحدهما: أن اليوم الآخر مغيب غير محسوس.
و ثانيهما: أن الظن يتضمن معنى الرجاء، ورجاء لقاء الله سبحانه وتعالى راضيا عن فعل العبد يدفعه إلى العمل والجهاد في سبيله، وبيع النفس في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.
و وصف أولئك الثابتين الصابرين الذين أرادوا العزة فافتدوها بأنفسهم وأعظموا الفداء بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، بيان للباعث القوي الدافع للرضا بالفداء، والصبر على البلاء، وذلك لأن الإيمان بلقاء الله يجعل المرء يستهين بكل ما ينزل به في الدنيا؛ لأنه مهما يكن مقداره، تعب ضئيل في مقابل نعيم مقيم يوم القيامة، ولأنه مهما يكن ما يلقاه من عنت في الدنيا لا يعد شيئا مذكورا في نظير لقاء الله تعالى راضيا عنه، متقبلا لأعماله، فذلك الرضوان دونه الدنيا كلها بحذافيرها.
و إذا كان المؤمن بلقاء الله المستشعر لعظمته يستهين بكل ما في الدنيا ومن فيها، فهو مستهين بعدوه مهما تكن كثرته، ولذلك قالوا: [كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله] الفئة: الجماعة المتعاونة المتساندة التي يفئ بعضها إلى بعض، ويظاهر بعضها بعضا، والمعنى كم من مرات كثيرة غلبت جماعة متعاضدة قليلة العدد جماعة كثيرة العدد، لقوة إيمانهم بالله وبحقهم.
و في هذا إشارة إلى أن من أسباب النصر ألا يؤخذ الخصم بقوة خصمه بأكثر من أن يستعد له ويأخذ الأهبة للقائه، أما إن هاله أمره فإنه لا محالة مغلوب؛ لأن القوة المعنوية ذخيرة فوق العدة والسلاح، ولا تكون القوة المعنوية لقوم يرهبون لقاء عدو الله وعدوهم، بعد أن اتخذوا الأهبة، واختار الله سبحانه وتعالى لهم القيادة الرشيدة، ذات الرأي السديد، والمنهج الحميد.
[والله مع الصابرين] ختم الله سبحانه وتعالى الآيات التي تفيد الاستعداد للقتال بتهيئة النفوس، واتخاذ سلاح المفاجأة أول سلاح يرفع ضد الأعداء ببيان سلاح آخر هو أمضى الأسلحة التي تغالب الزمان، وتناضل الحدثان، وهو الصبر، فقال تعالى: [والله مع الصابرين] أي أن على الذين يتقدمون للجهاد في سبيل الله أن يدرعوا الصبر، ويجعلوه أخص صفاتهم، ويستمسكوا به، فإن الله سبحانه وتعالى مع الصابرين. والمصاحبة الكريمة التي أفاض الله بها على الصابرين فقال: [والله مع الصابرين] هي مصاحبة النصرة والتأييد والتوفيق. فالله جل جلاله، وعظمت قدرته مع الصابرين، ومن كان الله معه فهو منصور، فإنه هو نعم المولى ونعم النصير.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وهذه الآية تشير إلى وجوب اختيار الرؤساء لمرؤوسيهم، وقادة الجيوش لعساكرهم، وتنبه إلى أن السر كل السر كامن في طاعة القيادة العليا وامتثال أوامرها الرشيدة، دون تردد ولا اعتراض، فهذا هو مفتاح النجاح والنصر في مختلف المعارك وفي مختلف العصور. والاختبار الذي تشير إليه الآية هو في حد ذاته اختبار بسيط ومهم في نفس الوقت، فالمحارب الذي انكب على النهر يشرب من مائه حتى يمتلئ وهو في طريقه مباشرة إلى الميدان، محكوم عليه مسبقا بالهزيمة والخسران، إذ هو محارب فاقد للصبر، غير قادر على الاحتمال، قد أثقله العرق وأبطأ به اللهث، وقد أعطى الدليل قبل دخول المعركة وهو في طريقه إليها على أنه لا يعير لأوامر قائده الأعلى أدنى اهتمام، بل إنه يعصي هذه الأوامر دون تردد ولا إحجام، فهل يعتمد على مثل هذا في الحصول على النصر، أم أنه عامل أساسي من عوامل الهزيمة؟... وعلى العكس من ذلك المحارب المتحلي بروح الامتثال، والملتزم لطاعة قائده في كل الظروف، فهذا المحارب الذي امتثل أمر ملكه وقائده طالوت، ولم يسمح لنفسه إلا بغرفة من الماء اغترفها بيده من النهر، دون أن يرتوي ولا أن يمتلئ، كان أقدر على مجابهة العدو، وأشد احتمالا لهول المعركة، وهذا المحارب الصابر ومن ماثله من المحاربين المتحلين بروح الامتثال والطاعة لقيادتهم، هم الذين تحملوا عبء المعركة، ووصفتهم الآية الكريمة أصدق وصف وأقواه تأثيرا، فقالت عنهم في صيغة إعجاب وثناء ما جعلهم أسوة لمن بعدهم: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
"فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ" وانطلق طالوت، وهذا هو اسم الملك الذي عيّنه النبيّ، ومضى معه جنوده. {قَالَ إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} وبدأت التجربة بين القائد وجنوده، فقد أعلن لهم أنَّ اللّه قد ابتلاهم وامتحنهم ـ ليختبر انقيادهم بالنهر الذي يمرّون به، {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} فعليهم أن لا يشربوا منه إلاَّ بمقدار غرفة مهما بلغ عطشهم. وسقط الأكثرون في الامتحان، ووهنت عزائمهم، ودبّ الضعف فيهم، ووقف المؤمنون المخلصون، ليكون النصر لهم في نهاية المطاف. إيحاءات ودروس: تلك هي خلاصة القصة؛
فما الذي نستوحيه منها لحركة الدعوة إلى اللّه في الحياة، وما الذي نستفيده منها من نقاط توضيحية للواقع الذي كان يعيشه هؤلاء القوم آنذاك؟. هذا درس للعاملين في سبيل اللّه أن يقفوا موقف الحذر من كثير من المتحمسين والمندفعين الذين يطرحون الشعارات الحادّة، ويعلنون ـ في حماسٍ زائد ـ استعدادهم للجهاد والقتال في ما إذا حصلت لهم القيادة الحكيمة الصالحة، وهم يظنّون أو يأملون في أنفسهم أن لا تحصل. إنَّ علينا أن نستفيد من هذه القصة، بالطريقة التي يمكننا ـ فيها ـ التفاهم معهم، من أجل اكتشاف ما هم عليه من جدّية وتصميم، لتتميز العناصر المخلصة من العناصر المزيفة، سواء في وضعهم أمام التجربة العملية في ما يريدون، أو في إدارة الحوار معهم في بعض القضايا التي توضح لنا الفرق بين الجوانب المرتبطة بالذات وبين الجوانب المرتبطة بالعقيدة.
إنَّ قضية النصر والهزيمة ليست بالقلة والكثرة، بل هي بالإيمان والتخطيط والتنظيم، والأخذ بأسباب القوّة؛ ما يجعل النصر في جانب القلة المؤمنة المنظمة، على الكثرة التي تفقد الإيمان والتنظيم والتخطيط، انطلاقاً من الشعار الذي طرحه هؤلاء المؤمنون الذين واجهوا المعركة بقلوبٍ مؤمنة واثقة باللّه: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، الأمر الذي يجعل العاملين في موقع الثقة، مهما كانت قوّة الخصوم كبيرة.
إنَّ قيمة الحوار في هذه القصة، هو أننا استطعنا أن نتمثّل كلّ المشاعر والأجواء التي كان يعيشها هؤلاء من خلال مواقفهم القلقة في جانب، والثابتة في جانب آخر؛ مما لا يتسنى لنا معرفته لو كانت القضية تعيش في إطار التقرير العادي للقصة.
إنه الفرق بين أن يُحكى لك الموقف من خلال الآخرين، أو ينقل لك الموقف بنفسه وتتمثّله بنفسك، أن يبقى المؤمن المجاهد في موقف الاستعانة باللّه، والشعور بالحاجة إليه في ما يحصل عليه من قوّة، وما يحتاج إليه من مواقف الصبر والصمود والثبات، وما يتطلّع إليه من نصر لاعتقاده بأنَّ النصر من عند اللّه أولاً وأخيراً، فلا يدفعه الشعور بالقوّة إلى الغرور والتعالي ونسيان اللّه، ولا يمنعه الشعور بالضعف من التماسك إزاء قوّة اللّه، كما يحصل لكثيرين من الذين ينسون اللّه في مواقف الحرب والسلم، فينسيهم أنفسهم، فيخيّل إليهم أنهم على شيء، وليسوا بشيء.
إنه الفرق بين المؤمن الذي يشعر بالقوّة الروحية والمعنوية التي تمتد من الأرض إلى السَّماء فلا تقف عند حد، فيتحوّل إلى قوّة تدمّر كلّ قوّة تقف أمامها؛ وبين غير المؤمن الذي يستمد قوّته من الأرض، ومما يحوطه من إمكانيات محدودة، فيبقى حيث هو في إطار محدود.
إنَّ إيتاء اللّه الملك لمن يشاء، لا يعني رضى اللّه عن كلّ هؤلاء الذين يملكون زمام الأمور في الحياة، فإنَّ فيهم الكافرين والظالمين والمنحرفين، بل قد يعني خضوع الحوادث في الكون لمشيئة اللّه التي قد تتعلّق بالأشياء بطريقة مباشرة، كما في الأمور التي يحدثها اللّه من خلال إرادته التكوينية المباشرة، كما في خلقه للكون في ابتداء الخلق. وقد تتعلّق بالأشياء بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال القوانين العامة التي أودعها في حدوث الأشياء وحركة المجتمعات وسير التاريخ، انطلاقاً من حكمته النوعية في ما يصلح أمر الحياة ويبنيها على أساس متين. وقد جعل إرادة الإنسان، فرداً أو جماعة، قانوناً طبيعياً يحرّك الحياة في اتجاه النمو والتطوّر والاستقامة أو الانحراف. وفي ضوء ذلك، لا مانع من أن نلتزم بأنَّ اللّه لا يرضى عن ملك كثير من الأشخاص في ما يمارسونه من أعمال الكفر والانحراف، ولذلك نهاهم عنها أشدّ النهي؛ ولكنَّه ـ في الوقت نفسه ـ ليس بعيداً عن سلطة اللّه وإرادته في الكون، فإنَّ من الممكن للّه أن ينزع ملكه قهراً بإرادته التكوينية، ولكن حكمته اقتضت أن يملي للإنسان في ما يعيش وما يعمل، ليقرر مصيره بإرادته واختياره.
إنَّ الآية تؤكد بأنَّ الإخراج من الديار والأموال يشكِّل عدواناً على الإنسان الفرد والمجتمع، وذلك لو قام بها إنسان فرد أو جماعة، وبذلك يعتبر مبرراً للدخول في قتال ضدّ المعتدي، بحيث يعتبر ذلك شرعياً عند اللّه. وهذا ما نستظهره من خلال التركيز على هذا المبرر، ما يعطينا الفكرة الواضحة بتقرير النبيّ لهم على ذلك. ولا بُدَّ لنا، في هذا المجال، من أن نحدّد الموضوع في نطاق الإيمان الذي يتعرّض لعدوان الكفر، كما حدث في المبررات التي سبقت الإذن للمسلمين بالقتال، لأنهم {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللّه وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّه كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللّه مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. ربما نستوحي من هذه الفقرة من الآية، أنَّ هناك قانوناً طبيعياً فطرياً في حركة الحياة الاجتماعية التي يعيشها النّاس، في ما أودعه اللّه في الحياة من قوانين تنظّم لها سيرها، وتدفع بها إلى المجالات الكبيرة التي تحقّق لها أهدافها العليا... وخلاصته: إنَّ كلّ إنسان منا يعمل في اتجاه الأشياء التي يألفها ويريدها ويؤمن بها، وفي اتجاه مقاومة الأشياء التي يكرهها ويرفضها أو يكفر بها، لأنها تعطله عن الحصول على ما يريد... وربما يتحقّق ذلك في الأفكار، وربما يتحقّق في الأشياء العامة، وقد يحصل في القوى التي تحيط به. فإذا لاحظ أنَّ هناك فكراً يقاوم فكره، أو شيئاً يواجه بعض الأشياء التي يحبّها، أو قوّة تريد أن تصادم قوّته فتصرعها وتهزمها... فإنه يبادر إلى الوقوف أمام تلك الأفكار والأشياء والقوى، ليحمي فكره وأشياءه وقوّته... وهكذا تسير الحياة في أجواء الصراع، فيتولد من ذلك الفكر المتنوّع المتحرّك، والقوّة المتجدّدة بما تملك من أساليب الحرب وأدواتها، والأوضاع المختلفة المحيطة بالأشياء في وجوهها المختلفة...
إنَّ اللّه يريد أن يشير إلى هذا القانون الفطري الذي سارت عليه الحياة، ولا تزال تسير، في حركتها الاجتماعية؛ فيقرر لنا قيمة هذا القانون ودوره في إصلاح الحياة؛ فلولاه لفسدت الأرض، لأنَّ الإنسان الذي يبلغ مقداراً كبيراً من القوّة، يستطيع من خلاله أن يفرض رأيه وموقفه وذاته على الآخرين، لا بُدَّ له من ممارسة السيطرة عليهم من خلال قوّته. فإذا وقفوا منه موقفاً سلبياً ضعيفاً وتركوه يفعل ما يشاء، كانت النتيجة أن يمتد في قوّته وفساده، ولا يفسح المجال للخير وللحقّ أن ينمو أو يعيش.
ولما كان اللّه يريد للحياة أن تزدهر وتصلح، كان الصراع في عملية دفع النّاس بعضهم ببعض يفسح المجال لقوى الخير أن تؤكد وجودها، ولو في نهاية المطاف، عندما تتحرّك نحو أهدافها لتقاوم كلّ الموانع والقوى التي تقف ضدّ الأهداف، فيحصل من خلاله ما يصلح الأرض من قوى جديدة تنشأ بفعل الصراع، وأفكار كبيرة تندفع من خلال النزاع، وخطوات عملية تنطلق في حياة النّاس؛ وتلك هي قصة الصراع، في ما يريد أن يوحيه لنا القرآن الكريم؛ فهو لا يمثّل مزاجاً للتحكم وللسيطرة، وإنما يمثّل دفع سيطرة الشر على الخير، والحقّ على الباطل، والعدل على الظلم والطغيان... من أجل أن تعيش الأرض في بعض مراحلها، أو المرحلة الأخيرة منها، الجوّ الإنساني المنفتح الذي يحصل فيه الإنسان على ما يوجب له الطمأنينة والراحة والكرامة... وتلك هي قصة الدوافع الفطرية التي أودعها اللّه في تكوين الفرد والمجتمع. فهي التي تقود الإنسان إلى ما يبني له حياته ويصلحها ويرفع مستواها في جميع مجالاتها، وذلك هو فضل اللّه على العالمين.