يدل الكلام على أن الذين انتشلوه جعلوه بين أيدي فرعون وامرأته فرقت له امرأة فرعون وصرفت فرعون عن قتله بعد أن هم به لأنه علم أن الطفل ليس من أبناء القبط بلون جلوته وملامح وجهه ، وعلم أنه لم يكن حمله النيل من مكان بعيد لظهوره أنه لم يطل مكث تابوته في الماء ولا اضطرابه بكثرة التنقل ، فعلم أن وقعه في التابوت لقصد إنجائه من الذبح . وكان ذلك وقت انتشاله من الماء وإخراجه من التابوت . وكانت امرأة فرعون امرأة ملهمة للخير وقدّر الله نجاة موسى بسببها . وقد قال الله تعالى في شأنها { وضرب الله مثلاً للذين ءامنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ] ، وهي لم تر عداوة موسى لآل فرعون ولا حزنت منه لأنها انقرضت قبل بعثة موسى .
و { امرأة فرعون } سميت آسية كما في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون » ويفيد قولها ذلك أن فرعون حين رآه استحسنه ثم خالجه الخوف من عاقبة أمره فلذلك أنذرته امرأته بقولها { قرة عين لي ولك لا تقتلوه } .
وارتفع { قرة عين } على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذا الطفل . وحذفه لأنه دل عليه حضوره بين أيديهم وهو على حذف مضاف ، أي هو سبب قرة عين لي ولك .
و ( قرة العين ) كناية عن السرور وهي كناية ناشئة عن ضدها وهو سُخْنة العين التي هي أثر البكاء اللازم للأسف والحزن ، فلما كُني عن الحزن بسخنة العين في قولهم في الدعاء بالسوء : أسخن الله عينه . وقول الراجز :
أوه أديم عرضه وأسخن *** بعينه بعد هجوع الأعين
أتبعوا ذلك بأن كنّوا عن السرور بضد هذه الكناية فقالوا : قرة عين ، وأقر الله عينه ، فحكى القرآن ما في لغة امرأة فرعون من دلالة على معنى المسرّة الحاصلة للنفس ببليغ ما كنّى به العرب عن ذلك وهو { قرة عين } ، ومن لطائفه في الآية أن المسرة المعنية هي مسرة حاصلة من مرأى محاسن الطفل كما قال تعالى { وألقيت عليك محبة مني } [ طه : 39 ] .
ويجوز أن يكون قوله { قرة عين } قسماً كما يقال : أيمن الله . فإن العرب يقسمون بذلك ، أي أقسم بما تقرّ به عيني . وفي الحديث الصحيح : أن أبا بكر الصديق استضاف نفراً وتأخر عن وقت عشائهم ثم حضر ، وفيه قصة إلى أن قال الراوي : فجعلوا لا يأكلون لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر منها . فقال أبو بكر لامرأته : يا أخت بني فراس ما هذا ؟ فقالت : وقُرّة عيني إنها الآن أكثر من قبل .
فتكون امرأة فرعون أقسمت على فرعون بما فيه قرة عينها ، وقرة عينه أن لا يقتل موسى ، ويكون رفع { قرة عينٍ } على الابتداء وخبره محذوفاً ، وهو حذف كثير في نص اليمين مثل : لعمرك . وابتدأت بنفسها في { قرة عين لي } قبل ذكر فرعون إدلالاً عليه لمكانتها عنده أرادت أن تبتدره بذلك حتى لا يصدر عنه الأمر بقتل الطفل .
وضمير الجمع في قولها { لا تقتلوه } يجوز أن يراد به فرعون نزّلته منزلة الجماعة على وجه التعظيم كما في قوله { قال رب ارجعون } [ المؤمنون : 99 ] . ويجوز أن يراد به خطاب فرعون داخلاً فيه أهل دولته هامان والكهنة الذين ألقوا في نفس فرعون أن فتى من إسرائيل يفسد عليه مملكته . وهذا أحسن لأن فيه تمهيداً لإجابة سُؤْلها حين أسندت معظم القتل لأهل الدولة وجعلت لفرعون منه حظ الواحد من الجماعة فكأنها تعرّض بأن ذلك ينبغي أن لا يكون عن رأيه فتهوِّن عليه عدوله في هذا الطفل عما تقرر من قتل الأطفال . وقيل { لا تقتلوه } التفات عن خطاب فرعون إلى خطاب الموكّلين بقتل أطفال إسرائيل كقوله { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك } [ يوسف : 29 ] .
فموقع جملة { قرة عين لي ولك } موقع التمهيد والمقدمة للعرض . وموقع جملة { لا تقتلوه } موقع التفريع عن المقدمة ولذلك فصلت عنها .
وأما جملة { عسى أن ينفعنا } فهي في موقع العلة لمضمون جملة { لا تقتلوه } فاتصالها بها كاتصال جملة { قرة عين لي ولك } بها ، ولكن نظم الكلام قضى بهذا الترتيب البليغ بأن جعل الوازع الطبيعي عن القتل وهو وازع المحبة هو المقدِّمة لأنه أشدّ تعلقاً بالنفس فهو يشبه المعلوم البديهي . وجعل الوازع العقلي بعد النهي علةً لاحتياجه إلى الفكر ، فتكون مهلة التفكير بعد سماع النهي الممهد بالوازع الطبيعي فلا يخشى جماح السامع من النهي ورفضه إياه .
ويتضمن قولها { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } إزالة ما خامر نفس فرعون من خشية فساد ملكه على يد فتى إسرائيلي بأن هذا الطفل لا يكون هو المخوف منه لأنه لما انضم في أهلهم وسيكون ربيَّهم فإنه يرجى منه نفعهم وأن يكون لهم كالولد . فأقنعت فرعون بقياس على الأحوال المجربة في علاقة التربية والمعاشرة والتبني والإحسان ، وإن الخير لا يأتي بالشر . ولذلك وقع بعده الاعتراض بقوله تعالى { وهم لا يشعرون } أي وفرعون وقومه لا يعلمون خفي إرادة الله من الانتقام من أمة القبط بسبب موسى . ولعل الله حقق لامرأة فرعون رجاءها فكان موسى قرة عين لها ولزوجها ، فلما هلكا وجاء فرعون آخر بعدهما كان ما قدّره الله من نصر بني إسرائيل .
واختير { يشعرون } هنا لأنه من العلم الخفي ، أي لا يعلمون هذا الأمر الخفي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالت امرأت فرعون} واسمها آسية بنت مزاحم، عليها السلام: {قرت عين لي ولك لا تقتلوه}... {عسى أن ينفعنا} فنصيب منه خيرا {أو نتخذه ولدا} يقول الله عز وجل: {وهم لا يشعرون} أن هلاكهم في سببه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَقالَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ" له هذا "قُرةُ عَيْنٍ لي ولَكَ "يا فرعون... وقوله: "لا تَقْتُلُوهُ" مسألة من امرأة فرعون أن لا يقتله...
وقوله: "وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وهم لا يشعرون هلاكهم على يده... وقال آخرون: بل معنى ذلك: "وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" بما هو كائن من أمرهم وأمره...وقال آخرون: بل معنى قوله "وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" بنو إسرائيل لا يشعرون أنّا التقطناه...
والصواب من القول في ذلك، قول من قال: معنى ذلك: وفرعون وآله لا يشعرون بما هو كائن من هلاكهم على يديه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات به لأنه عُقَيب قوله: "وَقالَتِ امْرأةُ فِرْعَوْنَ قُرّةُ عَيْنٍ لي ولَكَ، لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا" وإذا كان ذلك عقبه، فهو بأن يكون بيانا عن القول الذي هو عقبه أحقّ من أن يكون بيانا عن غيره.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: أنه بردها بالسرور، مأخوذ من القر وهو البرد.
الثاني: أنه قر فيها دمعها فلم يخرج بالحزن، مأخوذ من قر في المكان إذا أقام فيه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر تعالى عن آخر أمرهم معه، تخفيفاً على السامع بجمع طرفي القصة إجمالاً وتشويقاً إلى تفصيل ذلك الإجمال، وتعجيلاً بالتعريف بخطائهم ليكون جهلهم الذي هو أصل شقائهم مكتنفاً لأول الكلام وآخره، أخبر عما قيل عند التقاطه فقال عاطفاً على {فالتقطه}: {وقالت امرأة فرعون} أي لفرعون لما أخرجته من التابوت، وهي التي قضى الله أن يكون لها سعادة، وهي آسية بنت مزاحم...
ولما أثبت له أنه ممن تقر به العيون، أنتج ذلك استبقاءه، ولذلك نهت عن قتله وخافت أن تقول: لا تقتله، فيجيبها حاملاً له على الحقيقة ثم يأمر بقتله، ويكون مخلصاً له عن الوقوع في إخلاف الوعد، فجمعت قائلة: {لا تقتلوه} أي أنت بنفسك ولا أحد ممن تأمره بذلك، ثم عللت ذلك أو استأنفت فقالت: {عسى} أي يمكن، وهو جدير وخليق {أن ينفعنا} أي لما أتخيل فيه من النجابة ولو كان له أبوان معروفان {أو نتخذه ولداً} إن لم يعرف له أبوان، فيكون نفعه أكثر، فإنه أهل لأن يتشرف به الملوك.
ولما كان هذا كله فعل من لا يعلم، فلا يصح كونه إلهاً، صرح بذلك تسفيهاً لمن أطاعه في ادعاء ذلك فقال: {وهم} أي تراجعوا هذا القول والحال أنهم {لا يشعرون} أي لا شعور لهم أصلاً، لأن من لا يكون له علم إلا بالاكتساب فهو كذلك، فكيف إذا كان لا يهذب نفسه باكتسابه، فكيف إذا كان مطبوعاً على قلبه وإذا كانوا كذلك فلا شعور لهم بما يؤول إليه أمرهم معه من الأمور الهائلة المؤدية إلى هلاك المفسدين ليعلموا لذلك أعماله من الاحتراز منه بما ينجيهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي: لا يخلو، إما أن يكون بمنزلة الخدم، الذين يسعون في نفعنا وخدمتنا، أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك، نجعله ولدا لنا، ونكرمه، ونجله. فقدَّر اللّه تعالى، أنه نفع امرأة فرعون، التي قالت تلك المقالة، فإنه لما صار قرة عين لها، وأحبته حبا شديدا، فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق حتى كبر ونبأه اللّه وأرسله، فبادرت إلى الإسلام والإيمان به، رضي اللّه عنها وأرضاها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته، بعد ما اقتحمت به عليه حصنه. لقد حمته بالمحبة. ذلك الستار الرقيق الشفيف. لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال. حمته بالحب الحاني في قلب امرأة. وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره.. وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف! (قرة عين لي ولك).. وهو الذي تدفع به يد القدرة إليهم ليكون لهم -فيما عدا المرأة- عدوا وحزنا! (لا تقتلوه).. وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده! (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا).. وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلا! (وهم لا يشعرون).. فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم وهم لا يشعرون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و (قرة العين) كناية عن السرور وهي كناية ناشئة عن ضدها وهو سُخْنة العين التي هي أثر البكاء اللازم للأسف والحزن، فلما كُني عن الحزن بسخنة العين في قولهم في الدعاء بالسوء: أسخن الله عينه... أتبعوا ذلك بأن كنّوا عن السرور بضد هذه الكناية فقالوا: قرة عين، وأقر الله عينه، فحكى القرآن ما في لغة امرأة فرعون من دلالة على معنى المسرّة الحاصلة للنفس ببليغ ما كنّى به العرب عن ذلك وهو {قرة عين}، ومن لطائفه في الآية أن المسرة المعنية هي مسرة حاصلة من مرأى محاسن الطفل كما قال تعالى {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39].