77- ألم تنظر يا محمد فتعجب إلى الذين رغبوا في القتال قبل أن يجئ الإذن به فقيل لهم : لم يأت وقت القتال ، فكفوا أيديكم عنه ، واحرصوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فلما فرض اللَّه عليهم القتال إذا طائفة منهم يخافون الناس كخوف اللَّه أو أشد وقالوا مستغربين : لِمَ كتبت علينا القتال ؟ متوهمين أن في فرضية القتال تعجيلاً لآجالهم ولذلك قالوا : هلاًّ أخرتنا إلى زمن قريب نستمتع فيه بما في الدنيا ؟ فقل لهم : تقدموا للقتال ولو أدى إلى استشهادكم ، فمتاع الدنيا مهما عَظُمَ قليل بجوار متاع الآخرة ، والآخرة خير وأعظم لمن اتقى اللَّه وستجزون على أعمالكم في الدنيا ولا تنقصون من الجزاء شيئا مهما صغر .
تهيّأ المقام للتذكير بحال فريق من المسلمين اختلف أولُ حاله وآخرهُ ، فاستطرد هنا التعجيب من شأنهم على طريقة الاعتراض في أثناء الحثِّ على الجهاد ، وهؤلاء فريق يودّون أن يؤذن لهم بالقتال فلمّا كتب عليهم القتال في إبّانه جبنوا . وقد علم معنى حرصهم على القتال قبل أن يعرض عليهم من قوله : { قيل لهم كفّوا أيديكم } ، لأنّ كفّ اليد مراد ، منه ترك القتال ، كما قال : { وهو الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة } [ الفتح : 24 ] .
والجملة معترضة بين جملة { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } [ النساء : 75 ] والجملِ التي بعدها وبين جملة { فليقاتِلْ في سبيل الله } [ النساء : 74 ] الآية اقتضت اعتراضها مناسبة العبرة بحال هذا الفريق وتقلّبها ، فالذين قيل لهم ذلك هم جميع المسلمين ، وسبب القول لهم هو سؤال فريق منهم ، ومحلّ التعجيب إنّما هو حال ذلك الفريق من المسلمين . ومعنى { كُتب عليهم القتال } أنّه كتب عليكم في عموم المسلمين القادرين . وقد دلّت ( إذا ) الفجائية على أنّ هذا الفريق لم يكن تترقّب منهم هذه الحالة ، لأنّهم كانوا يظهرون من الحريصين على القتال . قال جمهور المفسّرين : إنّ هاته الآية نزلت في طائفة من المسلمين كانوا لقوا بمكة من المشركين أذى شديداً ، فقالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم « يا رسول الله كنّا في عزّ ونحن مشركون فلمّا آمنّا صرنا أذلّة » واستأذنوه في قتال المشركين ، فقال لهم : " أنّي أمرت بالعفو ف{ كُفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } " فلمّا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وفُرض الجهاد جبن فريق من جملة الذين استأذنوه في القتال ، ففيهم نزلت الآية .
والمرويّ عن ابن عباس أنّ من هؤلاء عبد الرحمان بن عوف ، وسعد بن أبي وقّاص ، والمقداد بن الأسود ، وقدامة بن مظعون ، وأصحابهم ، وعلى هذا فقوله : { كخشية الله أو أشدّ خشية } مسوق مساق التوبيخ لهم حيث رغبوا تأخير العمل بأمر الله بالجهاد لخوفهم من بأس المشركين ، فالتشبيه جار على طريقة المبالغة لأنّ حمل هذا الكلام على ظاهر الإخبار لا يلائم حالَهم من فضيلة الإيمان والهجرة .
وقال السديّ : « الذين قيل لهم كفّوا أيديكم » قوم أسلموا قبل أن يفرض القتال وسألوا أن يُفرض عليهم القتال فلمّا فرض القتال إذا فريق يخشون الناس . واختلف المفسّرون في المعنيّ بالفريق من قوله تعالى : { إذا فريق منهم يخشون الناس } فقيل : هم فريق من الذين استأذنوا في مكة في أن يقاتلوا المشركين ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والكلبي ، وهو ظاهر الآية ، ولعلّ الذي حَوّل عزمهم أنّهم صاروا في أمن وسلامة من الإذلال والأذى ، فزال عنهم الاضطرار للدفاع عن أنفسهم .
وحكى القرطبي : أنّه قيل : إنّ هذا الفريق هم المنافقون . وعلى هذا الوجه يتعيّن تأويل نظم الآية بأن المسلمين الذين استأذنوا في قتل المشركين وهم في مكة أنّهم لمّا هاجروا إلى المدينة كررّوا الرغبة في قتال المشركين ، وأعاد النبي صلى الله عليه وسلم تهدئتهم زماناً ، وأنّ المنافقين تظاهروا بالرغبة في ذلك تمويهاً للنفاق ، فلمّا كتب القتال على المسلمين جبن المنافقون ، وهذا هو الملائم للإخبار عنهم بأنّهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ . وتأويل وصفهم بقوله { منهم } : أي من الذين قيل لهم : كفّوا أيديكم ، وهذا على غموضه هو الذي ينسجم مع أسلوب بقية الكلام في قوله : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله } وما بعده ، كما سيأتي ، أمّا على قول السدّي فلا حاجة إلى تأويل الآية .
فالاستفهام في قوله : { ألم تر } للتعجيب ، وقد تقدّمت نظائره . والمتعجّب منهم ليسوا هم جميع الذين قيل لهم في مكة : كُفّوا أيديكم ، بل فريق آخر من صفتهم أنّهم يخْشَوْن الناس كخشية الله . وإنّما عُلّق التعجيب بجميع الذين قيل لهم باعتبار أنّ فريقاً منهم حالُهم كما وصف ، فالتقدير : ألم تر إلى فريق من الذين قيل لهم : كفّوا أيديكم .
والقول في تركيب قوله : { كخشية الله أو أشدّ خشية } كالقول في نظيره ، وهو قوله تعالى : { فاذكروا الله كذكِركم آباءكم أو أشدّ ذكراً } في سورة البقرة ( 200 ) .
وقولهم : { ربّنا لم كتبت علينا القتال } إنّما هو قولهم في نفوسهم على معنى عدم الاهتداء لحكمة تعليل الأمر بالقتال وظنِّهم أنّ ذلك بلوى . ( والأجلُ القريب ) مدّة متأخّرة ريثما يتمّ استعدادهم ، مثل قوله : { فيقول ربّ لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصدّق } [ المنافقون : 10 ] . وقيل : المراد من ( الأجل ) العمر ، . بمعنى لولا أخرّتنا إلى أن تنقضي آجالنا دون قتال ، فيصير تمنّيا لانتفاء فرض القتال ، وهذا بعيد لعدم ملاءمته لسياق الكلام ، إذ ليس الموت في القتال غير الموت بالأجل ، ولعدم ملاءمته لوصفه بقريب ، لأنّ أجل المرء لا يعرف أقريب هو أم بعيد إلاّ إذا أريد تقليل الحياة كلّها . وعلى كلا الوجهين فالقتال المشار إليه هنا هو أوّل قتال أمروا به ، والآية ذكّرتهم بذلك في وقت نزولها حين التهيُّؤ للأمر بفتح مكة . وقال السديّ : أريد بالفريق بعض من قبائل العرب دخلوا في الإسلام حديثاً قبل أن يكون القتال من فرائضه وكانوا يتمنّون أن يقاتلوا فلّما كتب عليهم القتال جبُنوا لضعف إيمانهم ، ويكون القتال الذين خافوه هو غزو مكة ، وذلك أنّهم خشوا بأس المشركين .
وقولهم : { ربّنا لم كتبت علينا القتال } يحتمل أن يكون قولاً في نفوسهم ، ويحتمل أنّه مع ذلك قول بأفواههم ، ويبدو هو المتعيّن إذا كان المراد بالفريق فريق المنافقين ؛ فهم يقولون : ربّنا لم كتبت علينا القتال بألسنتهم علناً ليوقعوا الوهن في قلوب المستعدّينَ له وهم لا يعتقدون أنّ الله كتب عليهم القتال ، وقال ابن جرير عن مجاهد : نزلت في اليهود ، وعليه تكون الآية مثالاً ضربه الله للمسلمين الذين أوجب عليهم القتال ، تحذيراً لهم في الوقوع في مثل ذلك ، فيكون على طريقة قوله :
{ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيء لهم ابعث لنا ملكاً } الآية في سورة البقرة ( 246 ) .
والرؤية بَصَرية ، وهي على بعض الوجوه المرويَّة بصرية حقيقية ، وعلى بعضها بصرية تنزيلية ، للمبالغة في اشتهار ذلك .
وانتصب { خشية } على التمييز لنسبة { أشد } ، كما تقدّم في قوله تعالى : { كذكركم آباءكم أو أشدّ ذِكراً } وقد مرّ ما فيه في سورة البقرة ( 200 ) .
والجواب بقوله : { قل متاع الدنيا قليل } جواب عن قولهم : { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } سواء كان قولهم لسانياً وهو بيّن ، أم كان نفسياً ، ليعلموا أنّ الله أطْلَع رسوله على ما تضمره نفوسهم ، أي أنّ التأخير لا يفيد والتعلُّق بالتأخير لاستبقاء الحياة لا يوازي حظّ الآخرة ، وبذلك يبطل ما أرَادوا من الفتنة بقولهم : { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } .
وموقع قوله : { ولا تظلمون فتيلاً } موقع زيادة التوبيخ الذي اقتضاه قوله : { قل متاع الدنيا قليل } ، أي ولا تنقصون شيئاً من أعماركم المكتوبة ، فلا وجه للخوف وطلب تأخير فرض القتال ؛ وعلى تفسير الأجل في : { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } بأجل العُمر ، وهو الوجه المستبعد ، يكون معنى { ولا تظلمون فتيلاً } تغليطهم في اعتقادهم أنّ القتل يعجّل الأجل ، فيقتضي أن يكون ذلك عقيدة للمؤمنين إن كانوا هم المخاطبين قبل رسوخ تفاصيل عقائد الإسلام فيهم ، أو أنّ ذلك عقيدة المنافقين إن كانوا هم المخاطبين .
وقيل معنى نفي الظلم هنا أنّهم لا يظلمون بنقص ثواب جهادهم ، فيكون موقعه موقع التشجيع لإزالة الخوف ، ويكون نصبه على النيابة عن المفعول المطلق . وقيل : معناه أنّهم لا يظلمون بنقص أقلّ زمن من آجالهم ، ويجيء على هذا التفسير أن يجعل { تظلمون } بمعنى تنقصون ، كقوله تعالى : { ولم تَظْلِمْ منه شيئاً } [ الكهف : 33 ] ، أي كلتا الجنتين من أكلها ، ويكون { فتيلا } مفعولاً به ، أي لا تنقصون من أعماركم ساعة ، فلا موجب للجبن .
وقرأ الجمهور : { ولا تظلمون } بتاء الخطاب على أنّه أمِر الرسول أن يقوله لهم . وقرأه ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وروْح عن يعقوب ، وخلف بياء الغيبة على أن يكون ممّا أخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلّغه إليهم .
والفتيل تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { بل الله يزكّي من يشاء ولا يظلمون فتيلا } [ النساء : 49 ] .
جملة : { أينما تكونوا يدرككم الموت } يجوز أن تكون من تمام القول المحكي بقوله : { قل متاع الدنيا قليل } .
وإنّما لم تعطف على جملة : { متاع الدنيا قليل } لاختلاف الغرضين ، لأنّ جملة { متاع الدنيا قليل } وما عطف عليها تغليط لهم في طلب التأخير إلى أجل قريب ،