وقوله { إلا أن يشاء الله } في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، ويحسنه الإيجاز ، تقديره : إلا أن تقول إلا أن يشاء الله ، أو إلا أن تقول إن شاء الله ، فالمعنى إلا أن تذكر مشيئة الله ، فليس { إلا أن يشاء الله } من القول الذي نهي عنه وقالت فرقة : قوله { إلا أن يشاء الله } استثناء من قوله { ولا تقولن } وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه ، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى{[7783]} ، وقوله { واذكر ربك إذا نسيت } قال ابن عباس والحسن معناه ، والإشارة به إلى الاستثناء أي ولتستثن بعد مدة ، إذا نسيت الاستثناء أولاً لتخرج من جملة من لم يعلق فعله بمشيئة الله ، وقال عكرمة : المعنى واذكر ربك إذا غضبت ، وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين ، والآية ليست في الأيمان ، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين ، ولكن من حيث تكلم الناس فيها ، ينبغي أن نذكر شيئاً من ذلك ، أما مالك رحمه الله وجميع أصحابه ، فيما علمت ، وكثير من العلماء ، فيقولون لا ينفع الاستثناء ويسقط الكفّارة إلا أن يكون متصلاً باليمين ، وقال عطاء له أن يستثني في قدر حلب الناقة الغزيرة ، وقال قتادة إن استثنى قبل أن يقول أو يتكلم فله ثنياه ، وقال ابن حنبل له الاستثناء ما دام في ذلك الأمر ، وقاله ابن راهويه ، وقال طاوس والحسن ينفع الاستثناء ما دام الحالف في مجلسه ، وقال ابن جبير ينفع الاستثناء بعد أربعة أشهر فقط ، وقال ابن عباس ينفع الاستثناء ولو بعد سنة ، وقال مجاهد بعد سنتين ، وقال أبو العالية ينفع أبداً ، واختلف الناس في التأويل على ابن عباس ، فقال الطبري وغيره إنما أراد ابن عباس أنه ينفع في أن يحصل الحالف في رتبة المستثنين بعد سنة من حلفه ، وأما الكفارة فلا تسقط عنه ، قال الطبري ولا أعلم أحداً يقول ينفع الاستثناء بعد مدة ، يقول بسقوط الكفارة ، قال ويرد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيراً منها فليكفر وليأت الذي هو خير »{[7784]} فلو كان الاستثناء يسقط الكفارة لكان أخف على الأمة ، ولم يكن لذكر الكفارة فائدة ، وقال الزهراوي : إنما تكلم ابن عباس في أن الاستثناء بعد سنة لمن قال أنا أفعل كذا . . . لا لحالف أراد حل يمينه ، وذهبت فرقة من الفقهاء إلى أن مذهب ابن عباس سقوط الكفارة وألزموا كل من يقول ينفع الاستثناء بعد مدة ، إسقاط الكفارة ، وردوا على القول بعد إلزامه ، وليس الاستثناء إلا في اليمين بالله ، لا يكون في طلاق ونحوه ، ولا في مشي إلى مكة ، هذا قول مالك وجماعة ، وقال الشافعي وأصحاب الرأي وطاوس وحماد الاستثناء في ذلك جائز ، وليس في اليمين الغموس{[7785]} استثناء ينفع ، ولا يكون الاستثناء بالقول ، وإنما يكون قولاً ونطقاً ، وقوله { وقل عسى } الآية ، قال محمد الكوفي المفسر : إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن ، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء ، وقال الجمهور هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص ، وقرأ الجمهور «يهديني » بإثبات الياء ، وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ، وقرأ طلحة من مصرف دون ياء في الوصل ، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ، والإشارة بهذا إلى الاستدراك الذي يقع من ناسي الاستثناء . وقال الزجاج المعنى عسى أن ييسر الله من الأدلة على نبوتي أقرب من دليل أصحاب الكهف .
قال القاضي أبو محمد : وما قدمته أصوب ، أي عسى أن يرشدني فيما أستقبل من أمري وهذه الآية مخاطبة للنبي عليه السلام ، وهي بعد تعم جميع أمته ، لأنه حكم يتردد الناس بكثرة وقوعه والله الموفق .
قوله : { إلا أن يشاء الله } استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله . وفي كيفية نظمه اختلاف للمفسرين ، فمقتضى كلام الزمخشري أنه من بقية جملة النهي ، أي هو استثناء من حكم النهي ، أي لا تقولن : إني فاعل الخ . . . إلا أن يشاء الله أن تقوله . ومشيئة الله تُعلم من إذنه بذلك ، فصار المعنى : إلا أن يأذن الله لك بأن تقوله . وعليه فالمصدر المسبك من { أن يشاء الله } مستثنى من عموم المنهيات وهو من كلام الله تعالى ، ومفعول { يشاء الله } محذوف دل عليْه ما قبله كما هو شأن فِعل المشيئة والتقدير : إلا قولاً شاءه الله فأنت غير منهي عن أن تقوله .
ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفراء أنه مستثنى من جملة { إني فاعل ذلك غداً } ، فيكون مستثنى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه ، أيْ إلا قولاً مقترناً ب ( إن شاء الله ) فيكون المصدر المنسبك من ( أن ) والفعل في محل نصب على نزع الخافض وهو باء الملابسة . والتقدير : إلا ب ( إن يشاء الله ) أي بما يدل على ذكر مشيئة الله ، لأن ملابسة القول لحقيقة المشيئة محال ، فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ ( إن شاء الله ) ونحوهِ ، فالمراد بالمشيئة إذن الله له .
وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبيء صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات :
الأولى : أنه أجاب سؤله ، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين .
الثانية : أنه علمه علماً عظيماً من أدب النبوءة .
الثالثة : أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناساً لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه ، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله ، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرّم . ومثاله ما في الصحيح : أن حكيم بن حزام قال : " سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : يا حكيم إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلوةٌ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى . قال حكيم : يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأُ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا " . فعلم حكيم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ليس القصد منه منعه من سُؤْله وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل ، فلذلك أقسم حكيم : أن لا يأخذ عن أحد غير رسول الله شيئاً ، ولم يقل : لا أسألك بعد هذه المرة شيئاً .
فنظم الآية أن اللام في قوله : { لشيء } ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة ، أي لا تقولن : إني فاعل كذا لأجل شيء تَعِدُ به ، فاللام بمنزلة ( في ) .
و « شيء » اسم متوغل في التنكير يفسره المقام ، أي لشيء تريد أن تفعله .
والإشارة بقوله : { ذلك } عائدة إلى « شيء » . أي أني فاعل الإخبار بأمر يسألونه .
و { غداً } مستعمل في المستقبل مجازاً . وليست كلمة ( غداً ) مراداً بها اليوم الذي يلي يَومه ، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل ، كما يستعمل اليومُ بمعنى زمان الحال ، والأمسُ بمعنى زمن الماضي . وقد جمعها قول زهير :
وأعلمُ عِلم اليوم والأمس قبله *** ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ
وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل دون ما كان من الكلام إنشاءً مثل الأيمان ، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها ، فقال جمهورهم : يكون ذكر { إلا أن يشاء الله } حَلاً لعقد اليمين يُسقط وجوب الكفارة . ولعلهم أخذوه من معنى ( شيء ) في قوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك } الخ : بحيث إذا أُعقبت اليمينُ بقول ( إلا أن يشاء الله ) ونحوه لم يلزم البر في اليمين . وروى ابن القاسم وأشهب وابنُ عبد الحكم عن مالك أن قوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل } الخ . . إنما قُصد بذلك ذكر الله عند السهو وليس باستثناء . يعني أن حكم الثنيا في الأيمان لا يؤخذ من هذه الآية بل هو مما ثبت بالسنّة . ولذلك لم يخالف مالك في إعمال الثنيا في اليمين ، وهي قول ( إن شاء الله ) . وهذا قول أبي حنيفة والشافعي .
عطف على النهي ، أي لا تَعِدْ بوعد فإن نسيتَ فقلت : إني فاعل ، فاذكر ربك ، أي اذكر ما نهاك عنه .
والمراد بالذكر التدارك وهو هنا مشتق من الذُكر بضم الذال ، وهو كناية عن لازم التذكر ، وهو الامتثال ، كما قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه : « أفْضَلُ من ذكر الله باللسان ذِكْرُ الله عند أمره ونهيه » .
وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير المخاطب دون اسم الجلالة العَلَم من كمال الملاطفة ما لا يخفى .
وحُذف مفعول { نسيت } لظهوره من المقام ، أي إذا نسيت النهي فقلت : إني فاعل . وبعض الذين أعْملوا آية { إلا أن يشاء الله } في حل الأيمان بذكر الاستثناء بمشيئة الله جعلوا قوله : { واذكر ربك إذا نسيت } ترخيصاً في تدارك الثنيا عند تذكر ذلك ، فمنهم من لم يحد ذلك بمدة . وعن ابن عباس : لا تحديد بمدة بل ولو طال ما بين اليمين والثنيا . والجمهور على أن قوله : { واذكر ربك إذا نسيت } لا دلالة فيه على جواز تأخير الثنيا ، واستدلوا بأن السنّة وردت بخلافه .
{ وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا }
لما أبر الله وعَد نبيه صلى الله عليه وسلم الذي وعده المشركين أن يبين لهم أمر أهل الكهف فأوحاه إليه وأوقفهم عليْه ، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجارَاتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذن من الله ، وأمَره أن يذكر نهي ربه . ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يُسأل منه بيانُه دون أن يأذنه الله به ، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بُعث للاشتغال بمثل ذلك ، وأنه يرجو أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة ، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم . والمعنى : وقل لهم عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً .
فجملة { وقل عسى أن يهدين } الخ . . . معطوفة على جملة { فلا تمار فيهم } [ الكهف : 22 ] . ويجوز أن تكون جملة وقل عسى أن يهدين ربي } عطفاً على جملة { واذكر ربك إذا نسيت } ، أي اذكر أمره ونهيه وقل في نفسك : عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً ، أي ادع الله بهذا .
وانتصب { رشداً } على تمييز نسبة التفضيل من قوله : { لأقرب من هذا } . ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول مطلق مبين لنوع فعل { أن يهدين } لأن الرشد نوع من الهداية .
ف { عسى } مستعملة في الرجاء تأدباً ، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف بقرينة وقوع هذا الكلام معترضاً في أثنائها .
ويجوز أن يكون المعنى : وارجُ من الله أن يهديك فيُذكرك أن لا تَعِد وعداً ببيان شيء دون إذن الله .
والرّشَد بفتحتين : الهدى والخير . وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى في هذه السورة { وهيء لنا من أمرنا رشداً } [ الكهف : 10 ] .