قوله تعالى : { فدلاهما بغرور } ، أي : خدعهما ، يقال : ما زال إبليس يدل فلانا بالغرور ، يعني : ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف باطل من القول ، وقيل : حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية ، ولا يكون التدلي إلا من علو إلى أسفل والتدلية : إرسال الدلو في البئر ، يقال : تدلى بنفسه ودعا غيره ، وقال الأزهري : أصله من تدلية العطشان في البئر ليروى من الماء ، ولا يجد الماء فيكون تدلى بالغرور عن إظهار النصح مع إبطان الغش .
قوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } ، قال الكلبي : فلما أكلا منها ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة ، والعقوبة أن بدت { ظهرت لهما سوآتهما } عوراتهما ، وتهافت عنهما لباسهما ، حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه ، وكانا لا يريان ذلك ، قال وهب : كان لباسهما من النور ، وقال قتادة : كان ظفراً ألبسهما الله من الظفر لباساً ، فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما فاستحيا .
قوله تعالى : { وطفقا } ، أقبلا وجعلا .
قوله تعالى : { يخصفان } ، يرقعان ويلزقان ويصلان .
قوله تعالى : { عليهما من ورق الجنة } ، وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب . قال الزجاج : يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما . وروي عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كان آدم رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق ، كثير شعر الرأس ، فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته ، وكان لا يراها ، فانطلق هارباً في الجنة ، فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره ، فقال لها : أرسليني ، قالت : لست بمرسلتك ، فناداه ربه : يا آدم أتفر مني ؟ قال : لا يا رب ، ولكن استحييتك .
قوله تعالى : { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } ، يعني : عن الأكل منها .
قوله تعالى : { وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } ، أي : بين العداوة ، وقال محمد بن قيس : ناداه ربه يا آدم أكلت منها وقد نهيتك ؟ قال : رب أطعمتني حواء ، قال لحواء : لم أطعمتيه ؟ قالت : أمرتني الحية ، قال للحية : لم أمرتيها ؟ قالت : أمرني إبليس ، فقال الله تعالى : أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين كل شهر ، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على بطنك ووجهك ، وسيشدخ رأسك من لقيك ، وأما أنت يا إبليس فملعون مدحور .
تفريع على جملة : { فوسوس لهما الشّيطان } [ الأعراف : 20 ] وما عطف عليها .
ومعنى { فدلاّهما } أقدمهما ففَعلا فِعلاً يطمعان به في نفع فخابَا فيه ، وأصل دلَّى ، تمثيل حال من يطلب شيئاً من مظنّته فلا يجده بحال من يُدَلِّي دَلوه أو رجليه في البئر ليسْتقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال : دَلَّى فلانٌ ، يقال دلّى كما يقال أدلى .
والباء للملابسة أي دلاهما ملابِساً للغُرور أي لاستيلاء الغرور عليه إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعاً بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته ، وعلى هذا القياس يقال دَلاّه بغرور إذا أوقعه في الطّمع فيما لا نفع فيه ، كما في هذه الآية وقول أبي جُندب الهُذلي ( هو ابن مُرّة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلامياً كان قد أخذ قوله كمن يدلّى بالغرور من القرآن ، وإلاّ كان مثلاً مستعملاً من قبل ) :
أحُصّ فلا أجيرُ ومَنْ أجِرْه *** فليس كمَنْ يدلّى بالغرور
وعلى هذا الاستعمال ففعل دَلّى يستعمل قاصراً ، ويستعمل متعدّياً إذا جعل غيره مدَلِّيَاً ، هذا ما يؤخذ من كلام أهل اللّغة في هذا اللّفظ ، وفيه تفسيرات أخرى لا جدوى في ذكرها .
ودلّ قوله : { فدلهما بغرور } على أنّهما فعلا ما وسوس لهما الشّيطان ، فأكلا من الشّجرة ، فقوله : { فلما ذاقا الشجرة } ترتيب على دَلاَهما بغرور فحذفت الجملة واستُغني عنها بإيراد الاسم الظّاهر في جملة شرط لَمَّا ، والتّقدير : فأكلا منها ، كما ورد مصرّحاً به في سورة البقرة ، فلمّا ذاقاها بدت لهما سوآتهما .
والذّوق إدراك طعم المأكول أو المشروب باللّسان ، وهو يحصل عند ابتداء الأكل أو الشّرب ، ودلت هذه الآية على أن بُدُوّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراك طعم الشّجرة ، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل المخالفة ، فزادت هذه الآية على آية البقرة .
وهذه أوّلُ وسوسة صدرت عن الشّيطان . وأوّل تضليل منه للإنسان .
وقد أفادت ( لما ) توقيت بدوّ سوآتهما بوقت ذوقهما الشّجرة ، لأنّ ( لما ) حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره ، فهي لمجرّد توقيت مضمون جوابها بزمان وجود شرطها ، وهذا مَعنى قولهم : حرف وُجودٍ لِوُجُودٍ ( فاللاّم في قولهم لوجود بمعنى ( عند ) ولذلك قال بعضهم هي ظرف بمعنى حين ، يريد باعتبار أصلها ، وإذ قد التزموا فيها تقديم ما يدل على الوقت لا على الموقت ، شابهت أدوات الشّرط فقالوا حرف وجود لوجود كما قالوا في ( لو ) حرف امتناععٍ لامْتناعٍ ، وفي ( لَولا ) حرف امتناع لوجود ، ولكن اللاّم في عبارة النّحاة في تفسير معنى لو ولولا ، هي لام التّعليل ، بخلافها في عبارتهم في ( لما ) لأنّ ( لما ) لا دلالة لها على سَبَب ، ألا ترى قوله تعالى : { فلما نَجّاكم إلى البر أعرضتم } [ الإسراء : 67 ] إذ ليس الإنجاء بسبب للإعراض ، ولكن لَمَّا كان بين السّبب والمسبّب تقارن كثر في شرط ( لما ) وجوابها معنى السَّببية دون اطراد ، فقوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } لا يدلّ على أكثر من حصول ظهور السوْآت عند ذوق الشّجرة ، أي أنّ الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت ، ولكن هذا التّقارن هو لكون الأمرين مسبّبين عن سبب واحد ، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشّيطان فيهما ، فسبب الإقدام على المخالفة للتّعاليم الصّالحة ، والشّعورَ بالنقيصة : فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم ، وسلامة الفطرة ، شبيهين بالملائكة لا يُقدمان على مفسدة ولا مَضرة ، ولا يُعرضان عن نصح ناصح عَلِمَا صدقَه ، إلى خبر مخبر يشكّان في صدقه ، ويتوقّعان غروره ، ولا يشعران بالسوء في الأفعال ، ولا في ذَرائِعها ومقارناتها . لأنّ الله خلقهما في عالم ملَكي . ثمّ تطوّرت عقليَّتهما إلى طور التّصرّف في تغيير الوجدان . فتكّون فيهما فعل ما نُهيا عنه . ونشأ من ذلك التّطوّر الشّعورُ بالسّوء للغير ، وبالسوء للنّفس ، والشّعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوء . وتقارن السوء وتلازمه .
ثمّ إن كان « السَّوآت » بمعنى ما يسوء من النّقائص ، أو كان بمعنى العَورات كما تقدّم في قوله تعالى : { ليبدي لهما ما وُوري عنهما من سوآتهما } [ الأعراف : 20 ] فبُدوّ ذلك لهما مقارن ذوق الشّجرة الذي هو أثر الإقدام على المعصية ونبذِ النّصيحة إلى الاقتداء بالغَرور والاغترار بقَسَمه ، فإنَّهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل ، وإرادة الإقدام عليه ، قارنت تلك الكيفيةَ الباعثةَ على الفعل نَشْأةُ الانفعال بالأشياء السيّئة ، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيّئة ، أو تكون ذريعة إليها ، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل ، ومن فكرة السّرقة معرفةُ المكان الذي يختفَى فيه ، وكذلك تنشأ معرفة الأشياء التي تلازم السوء وتقارنه ، وإن لم تكن سيّئة في ذاتها ، كما تنشأ معرفة اللّيل من فكرة السّرقة أو الفرارِ ، فتنشأ في نفوسسِ النّاسسِ كراهيته ونسبته إلى إصدار الشّرور ، فالسوآت إن كان معناه مطلق ما يسوء منهما ونقائصِهما فهي من قبيل القسمين ، وإن كان معناه العورة فهي من قبيل القسم الثّاني ، أعني الشّيء المقارن لما يسوء ، لأنّ العورة تقارن فعلا سيّئاً من النّقائص المحسوسة ، والله أوجدها سببَ مصالح ، فلم يَشعر آدمُ وزوجه بشيء ممّا خلقت لأجله ، وإنّما شعرا بمقارنة شيء مكروه لذلك وكلّ ذلك نشأ بإلْهام من الله تعالى ، وهذا التّطوّر ، الذي أشارت إليه الآية ، قد جعله الله تطوّراً فطرياً في ذرّية آدم ، فالطّفل في أوّل عمره يكون بريئاً من خواطر السّوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلاّ إذا لحق به مؤلم خارجي ، ثمّ إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولِّدها ، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه .
وقوله : { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه ، وتحيُّلِه على تجنّب ما يكرهه ، وعلى تحسين حاله بحسب ما يُخيِّل إليه خيالُه ، وهذا أوّل مظهر من مظاهر الحَضارة أنشأه الله في عقلي أصلَي البشر ، فإنّهما لما شعرا بسَوآتهما بكلا المعنيين ، عَرفا بعض جزئياتها ، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشّعور بقبح بروزها ، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعاً وكراهيةً ، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام الفطري ، حيث لا ملقّن يلقنّهما ذلك ، ولا تعليم يعلمهما ، تَقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة ، وأنّ سترها متعيّن ، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارَن البشر في نشأته ، فدلّ على أنّه وَهْم فطري متأصّل ، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة ، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر ، وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطاناً على نفوس البشر في عصور طويلة ، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه ، ونزْععِ الجلافة الحيوانية من النّوع ، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان ، ثمّ أخذت الشّرائع ، ووصايا الحكماء ، وآداب المربِّينَ ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجاً مع الزّمان ، ولا يُبقون منها إلاّ ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر ، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهْميّة ملغى في غالب الأحكام ، كما فصّلتُه في كتاب « مقاصد الشّريعة » وكتاب « أصول نظام الاجتماع في الإسلام » .
والخصف حقيقته تقوية الطّبقة من النّعل بطبقة أخرى لتشتدّ ، ويستعمل مجازاً مرسلاً في مطلق التّقوية للخِرقة والثّوب ، ومنه ثوب خَصيف أي مخصوف أي غليظ النّسج لا يَشف عمّا تحته ، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورَق بعضه على بعض كفعل الخاصف ، وضعا مُلزقاً متمكّناً ، وهذا هو الظّاهر هنا إذ لم يقل يخصفان وَرَق الجنّة .
و ( من ) في قوله : { من ورق الجنة } يجوز كونها اسماً بمعنى بعضَ في موضع مفعول { يخصفان } أي يخصفان بعض ورق الجنة ، كما في قوله : { من الذين هادوا يحرفون } ، ويجوز كونها بيانيّة لمفعول محذوف يقتضيه : « { يخصفان } والتقدير : يخصفان خِصْفاً من ورق الجنة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله:"فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ": فخدعهما بغرور، يقال منه: ما زال فلان يدلّي فلانا بغرور، بمعنى: ما زال يخدعه بغرور ويكلمه بزخرف من القول باطل. "فَلَمّا ذَاقَا الشّجَرَةَ "يقول: فلما ذاق آدم وحوّاء ثمر الشجرة، يقول: طعِماه. "بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما "يقول: انكشفت لهما سوآتهما، لأن الله أعراهما من الكسوة التي كان كساهما قبل الذنب والخطيئة، فسلبهما ذلك بالخطيئة التي أخطئا، أو المعصية التي ركبا. "وَطَفِقَا يَخْصَفانِ عَلَيْهما مِنْ وَرَقِ الجَنّةِ" يقول: أقبلا وجعلا يشدّان عليهما من ورق الجنة ليواريا سوآتهما. كما:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الجَنّةِ قال: جعلا يأخذان من ورق الجنة فيجعلان على سوءاتهما.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كانَ آدَمُ كأنّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ كَثِيرَ شَعْرِ الرأْسِ، فَلَمّا وَقَعَ بالخَطِيئَةِ بَدَتْ لَهُ عَوْرتُهُ وكانَ لا يَرَاها، فانْطَلَقَ فارّا، فَتَعَرّضَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فَحَبَسَتْهُ بِشَعْرِهِ، فَقالَ لَهَا: أرْسِلِيني، فَقالَتْ: لَسْتُ بمُرْسِلَتِكَ، فَنادَاهُ رَبّهُ: يا آدَمُ، أمِنّي تَفِرّ؟ قالَ: لا، وَلَكِنّي اسْتَحَيْتُكَ»...
"وَنادَاهُمَا رَبّهُما ألَمْ أنْهَكُما عَنْ تِلْكُما الشّجَرَةِ وأقُلْ لَكُما إنّ الشّيْطانَ لَكُما عَدُوّ مُبِينٌ" يقول تعالى ذكره: ونادى آدم وحوّاء ربُّهما: ألم أنهكما عن أكل ثمرة الشجرة التي أكلتما ثمرها، وأعلمكما أن إبليس لكما عدوّ مبين؟ يقول: قد أبان عداوته لكما بترك السجود لآدم حسدا وبغيا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فدلاّهما بغرور} أي أوردهما؛ يقال: دلاّني فلان بحبل غرور؛ أي أنه زيّن النصح حتى يركبه. وأصل التدلية من الدلو، وهو من الدعاء؛ أي دعاهما بغرور؛ وهو قوله تعالى: {هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه: 120] وقوله تعالى: {إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20]...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} معناه: فحطهما بغرور من منزلة الطاعة إلى حال المعصية.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الغرور: إظهار النصح مع إبطان الغش، وأصله الغر: طي الثوب، يقال: اطوه على غره أي على كسر طيه.
وقوله "فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما "أي ظهرت عورتاهما.
" إن الشيطان لكما عدو مبين "يعني ظاهر العداوة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يحصل استيفاء من الأكل والاستمتاع به للنفس حتى ظهرت تباشيرُ العقاب؛ وتَنَغُّصِ الحال، وكذا صفة مَنْ آثر على الحق -سبحانه- شيئاً يبقيه عنه، فلا يكون له بما آثر استمتاع. وكذلك مَنْ ادَّخَر عن الله -سبحانه- نَفْسَه أو مالَه أو شيئاً بوجهٍ من الوجوه -لا يبارك الله فِيه.
"وطَفِقَا يخصفان عليهما من ورق الجنة": فبعدما كانت كسوتهما حُلَلَ الجنة ظَّلا يستتران بورق الجنة.
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}: فكان ما دَاخَلَهما من الخجل أشدَّ من كل عقوبة؛ لأنهما لو كانا من الغيبة عند سماع النداء فإن الحضور يوجب الهيبة، فلما ناداهما بالعتاب حَلَّ بهما من الخجل ما حلّ.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
غرهما باليمين، ومعنى دلاهما: جرأهما على أكل الشجرة بما غرهما به من يمينه. {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} تهافت لباسهما عنهما فأبصر كل واحد منهما عورة صاحبه فاستحييا. {وطفقا يخصفان} أقبلا وجعلا يرقعان الورق كهيئة الثوب ليستترا به...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما) في هذا دليل على أنهما لم يمتعا في الأكل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فدلاهما بغرور} يريد فغرهما بقوله وخدعهما بمكره... ويشبه عندي أن يكون هذا استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو بسبب ضعيف يغتر به، فإذا تدلى به وتورك عليه انقطع به فهلك، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه فيقع في مصيبة بالذي يدلى في هوة بسبب ضعيف، وعلق حكم العقوبة بالذوق إذ هو أول الأكل وبه يرتكب النهي، وفي آية أخرى {فأكلا منها}.
{فدلاهما بغرور} وذكر أبو منصور الأزهري لهذه الكلمة أصلين: أحدهما: أصل الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. فيقال: دلاه إذا أطمعه.
الثاني: {فدلاهما بغرور} أي أجرأهما إبليس على أكل الشجرة بغرور، والأصل فيه دللهما من الدل، والدالة وهي الجرأة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
... {وأقلّ لكما} إشارة إلى قوله تعالى: {فقلنا يا آدم أنّ لا هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} وهذا هو العهد الذي نسيه آدم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
..والغرور: الخداع بالباطل وهو مأخوذ من الغرة (بالكسر) والغرارة (بالفتح) وهما بمعنى الغفلة وعدم التجربة. وقيل دلاهما حال كونهما متلبسين بغرور. والأول أظهر...
واستنكر بعضهم أن يكونا صدقاه واستكبر أن يقع ذلك منهما، وزعم أن تصديقه كفر، ورجح هؤلاء أن يكون الغرور بتزيين الشهوة، فإن من غرائز البشر حب التجربة واستكشاف المجهول، والرغبة في الممنوع، فجاء الوسواس نافخا في نار هذه الشهوات الغريزية مذكيا لها، مثيرا للنفس بها إلى مخالفة النهي حتى نسي آدم عهد ربه...
{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة} أي فلما ذاقا ثمرة الشجرة ظهرت لكل منهما سوءته وسوءة صاحبه وكانت مواراة عنهما، قيل بلباس من الظفر كان يسترها فسقط عنهما، وبقيت له بقية في رؤوس أصابعهما، وقيل بلباس مجهول كان الله تعالى ألبسهما إياه، وقيل بنور كان يحجبهما ولا دليل على شيء من ذلك، ولم يصح به أثر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. والأقرب عندي أن معنى ظهورها لهما أن شهوة التناسل دبت فيهما بتأثير الأكل من الشجرة فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها، فخجلا من ظهورها، وشعرا بالحاجة إلى سترها،... فالمواراة كانت معنوية فإن كانت حسية فما ثم إلا الشعر ساتر خلقي، وقد تظهر الشهوة ما أخفاه الشعر، وإن لم يسقط بتأثير ذلك الأكل. ويدل على كل من هذين الوجهين فطرة الإنسان التي نزلت الآيات في شرح حقيقتها وغرائزها، والله أعلم بمراده، وخلقه وقدره أصدق شاهد لكتابه...
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين} الاستفهام هنا للعتاب والتوبيخ، أي وقال لهما ربهما الذي يربيهما في طور المخالفة والعصيان، كما يربيهما في حال الطاعة والإذعان: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة أن تقرباها وأقل لكما إن الشيطان عدو لكما دون غيركما من الخلق بين العداوة ظاهرها فلا تطيعاه يخرجكما من الجنة حيث العيش الرغد إلى حيث الشقاء في المعيشة والتعب في جهاد الحياة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ودلت هذه الآية على أن بُدُوّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراك طعم الشّجرة، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل المخالفة.
فقوله تعالى: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} لا يدلّ على أكثر من حصول ظهور السوْآت عند ذوق الشّجرة، أي أنّ الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت، ولكن هذا التّقارن هو لكون الأمرين مسبّبين عن سبب واحد، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشّيطان فيهما، فسبب الإقدام على المخالفة للتّعاليم الصّالحة، والشّعورَ بالنقيصة: فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم، وسلامة الفطرة، شبيهين بالملائكة لا يُقدمان على مفسدة ولا مَضرة، ولا يُعرضان عن نصح ناصح عَلِمَا صدقَه، إلى خبر مخبر يشكّان في صدقه، ويتوقّعان غروره، ولا يشعران بالسوء في الأفعال، ولا في ذَرائِعها ومقارناتها. لأنّ الله خلقهما في عالم ملَكي. ثمّ تطوّرت عقليَّتهما إلى طور التّصرّف في تغيير الوجدان. فتكّون فيهما فعل ما نُهيا عنه. ونشأ من ذلك التّطوّر الشّعورُ بالسّوء للغير، وبالسوء للنّفس، والشّعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوء...
، فإنَّهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل، وإرادة الإقدام عليه، قارنت تلك الكيفيةَ الباعثةَ على الفعل نَشْأةُ الانفعال بالأشياء السيّئة، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيّئة، أو تكون ذريعة إليها، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل، ومن فكرة السّرقة معرفةُ المكان الذي يختفَى فيه،... وهذا التّطوّر، الذي أشارت إليه الآية، قد جعله الله تطوّراً فطرياً في ذرّية آدم، فالطّفل في أوّل عمره يكون بريئاً من خواطر السّوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلاّ إذا لحق به مؤلم خارجي، ثمّ إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولِّدها، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه...
وقوله: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه، وتحيُّلِه على تجنّب ما يكرهه، وعلى تحسين حاله بحسب ما يُخيِّل إليه خيالُه، وهذا أوّل مظهر من مظاهر الحَضارة أنشأه الله في عقلي أصلَي البشر، فإنّهما لما شعرا بسَوآتهما بكلا المعنيين، عَرفا بعض جزئياتها، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشّعور بقبح بروزها، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعاً وكراهيةً، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام الفطري، حيث لا ملقّن يلقنّهما ذلك، ولا تعليم يعلمهما، تَقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة، وأنّ سترها متعيّن، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارَن البشر في نشأته، فدلّ على أنّه وَهْم فطري متأصّل، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر،... وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطاناً على نفوس البشر في عصور طويلة، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه، ونزْعِ الجلافة الحيوانية من النّوع، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان، ثمّ أخذت الشّرائع، ووصايا الحكماء، وآداب المربِّينَ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجاً مع الزّمان، ولا يُبقون منها إلاّ ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهْميّة ملغى في غالب الأحكام.
... وسبحانه لا يحرم إلا بنص، وسبق أن قال سبحانه: {ولا تقربا هذه الشجرة}، وأوضح: أن هناك عنصرا إغوائيا هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه امتنع عن السجود، وقد طرد الحق لهذا السبب. إذن إن آخذهما وعاقبهما الله بهذا الذنب فهو العادل، وهما اللذان ظلما أنفسهما. وكان لابد أن يكون الجواب: نعم يا رب نهيتنا، وقلت لنا ذلك. وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه؛ لأن الحكم قد يأتي بالإخبار، وقد يأتي بالاستفهام بالإيجاب، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام بالنفي...