قوله تعالى : { يوم يأت } قرئ بإثبات الياء وحذفها .
قوله تعالى : { لا تكلم } ، أي : لا تتكلم { نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد } ، أي : فمنهم من سبقت له الشقاوة ومنهم من سبقت له السعادة .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنبأنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنبأنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدبري ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن منصور ، عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " خرجنا على جنازة فبينا نحن بالبقيع إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده مخصرة ، فجاء فجلس ، ثم نكت بها الأرض ساعة ، ثم قال : ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار ، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة ، قال : فقال رجل : أفلا نتكل على كتابنا يا رسول الله وندع العمل ؟ قال :لا ، ولكن اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء ، وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، قال : ثم تلا : { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى } [ الليل :5-10 ]
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة «يوم يأت »{[6508]} بحذف الياء من { يأتي } في الوصل والوقف ، وقرأ ابن كثير بإثباتها في الوصل والوقف ، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثباتها في الوصل وحذفها في الوقف ، ورويت أيضاً كذلك عن ابن كثير ، والياء ثابتة في مصحف أبي بن كعب ، وسقطت في إمام عثمان ، وفي مصحف ابن مسعود «يوم يأتون » ، وقرأ بها الأعمش ، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل ، وإثباتها في الوجهين هو الأصل ، ووجه حذفها في الوصل التخفيف كما قالوا في لا أبال ولا أدر ، وأنشد الطبري :
كفاك كف ما تليق درهماً*** جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما{[6509]}
وقوله : { لا تكلم نفس } يصح أن تكون جملة في موضع الحال من الضمير الذي في { يأتي } وهو العائد على قوله : { ذلك يوم } ، ولا يجوز أن يعود على قوله : { يوم يأتي } لأن اليوم المضاف إلى الفعل لا يكون فاعل ذلك الفعل ، إذ المضاف متعرف بالمضاف إليه ، والفعل متعرف بفاعله ، وليس في نفسه شيئاً مقصوداً مستقلاً دون الفاعل ، وقولهم : سيد قومه ومولى أخيه وواحد أمه - مفارق لما لا يستقل ، فلذلك جازت الإضافة فيها ، ويكون قوله - على هذا - { يوم يأتي } في موضع الرفع بالابتداء وخبره : { فمنهم شقي وسعيد } وفي الكلام - على هذا - عائد محذوف تقديره : لا تكلم نفس فيه إلا ، ويصح أن يكون قوله : { لا تكلم نفس } صفة لقوله : { يوم يأتي } ، والخبر قوله : { فمنهم } ، ويصح أن يكون قوله : { لا تكلم نفس } ، خبراً عن قوله : { يوم يأتي } .
وقوله { ذلك يوم } يراد به اليوم الذي قبله ليلته ، وقوله { يوم يأتي } يراد به الحين والوقت لا النهار بعينه ، فهو كما قال عثمان : إني رأيت ألا أتزوج يومي هذا ، وكما قال الصديق رضي الله عنه : فإن الأمانة اليوم في الناس قليل{[6508]} .
ومعنى قوله : { لا تكلم نفس إلا بإذنه } وصف المهابة يوم القيامة وذهول العقل وهول القيامة ، وما ورد في القرآن من ذكر كلام أهل الموقف في التلاوم والتساؤل والتجادل ، فإما أن يكون بإذن وإما أن تكون هذه هنا مختصة في تكلم شفاعة أو إقامة حجة{[6509]} ، وقوله { فمنهم } عائد على جميع الذي تضمنه قوله : { نفس } إذ هو اسم جنس يراد به الجمع .
جملة { يوم يَأتي لا تكلّم نَفْسٌ } تفصيل لمدلول جملة { ذلك يوم مجموع له النّاس } [ هود : 103 ] الآية ، وبينت عظمة ذلك اليوم في الشرّ والخير تبعاً لذلك التفصيل . فالقصد الأوّل من هذه الجملة هو قوله : { فمنهم شقيّ وسعيد } وما بعده ، وأمّا ما قبله فتمهيد له أفصح عن عظمة ذلك اليوم . وقد جاء نظم الكلام على تقديم وتأخير اقتضاه وضع الاستطراد بتعظيم هول اليوم في موضع الكلام المتّصل لأنّه أسعد بتناسب أغراض الكلام ، والظروف صالحة لاتّصال الكلام كصلاحيّة الحروف العاطفة وأدوات الشرط .
و { يوم } من قوله : { يوم يأتي } مستعمل في معنى ( حين ) أو ( ساعة ) ، وهو استعمال شائع في الكلام العربيّ في لفظ ( يوم ) و ( ليلة ) توسّعاً بإطلاقهما على جزء من زمانهما إذ لا يخلو الزّمان من أن يقع في نهار أو في ليل فذلك يوم أو ليلة فإذا أطلقا هذا الإطلاق لم يستفد منهما إلاّ معنى ( حين ) دون تقدير بمدّة ولا بنهار وَلاَ لَيْللٍ ، ألاَ ترى قول النابغة :
فأضاف ( أنهار ) جمع نهار إلى اليوم . وروي : من أزمان يوم حليمة .
كأن القلب ليلة قيل : يُغدَى *** بليلي الأخيلية أو يراح
أراد ساعة ، قيل : يُغدى بليلى ، ولذلك قال : يغدى أو يراح ، فلم يراقب ما يناسب لفظ ليلة من الرّواح .
فقوله تعالى : { يوم يأتي } معناه حين يأتي . وضمير ( يأتي ) عائد إلى { يوم مشهود } [ هود : 103 ] وهو يوم القيامة . والمراد بإتيانه وقوعه وحلوله كقوله : { هل ينظرون إلاّ الساعة أن تأتيهم } [ الزخرف : 66 ] .
فقوله : { يوم يأتي } ظرف مُتَعلّق بقوله : { لا تكلّم نفس إلاّ بإذنه } .
وجملة { لا تكلم نفس } مستأنفة ابتدائية . قدّم الظرف على فعلها للغرض المتقدم . والتّقدير : لا تكلّم نفس حينَ يحلّ اليوم المشهود . والضّمير في { بإذنه } عائد إلى الله تعالى المفهوم من المقام ومن ضمير { نؤخّره } [ هود : 104 ] . والمعنى أنّه لا يتكلّم أحد إلاّ بإذن من الله ، كقوله : { يوم يقوم الروح والملائكة صفّاً لا يتكلّمون إلاّ من أذن له الرحمن وقال صواباً } [ النبأ : 38 ] . والمقصود من هذا إبطال اعتقاد أهل الجاهلية أنّ الأصنام لها حقّ الشفاعة عند الله .
و { نفس } يَعمّ جميع النفوس لوقوعه في سياق النفي ، فشمل النفوس البرة والفاجرة ، وشمل كلام الشافع وكلام المجادل عن نفسه . وفُصّل عموم النفوس باختلاف أحوالها . وهذا التفصيل مفيد تفصيل الناس في قوله : { مجموع له النّاس } [ هود : 103 ] ، ولكنّه جاء على هذا النسج لأجل ما تخلّل ذلك من شبه الاعتراض بقوله : { وما نؤخّره إلاّ لأجل معدود } [ هود : 104 ] إلى قوله : { بإذنه } وذلك نسيج بديع .
والشقيّ : فعيل صفة مشبهة من شَقِيَ ، إذا تلبّس بالشّقاء والشقاوة ، أي سوء الحالة وشرّها وما ينافر طبع المتّصف بها .
والسّعيد : ضدّ الشقيّ ، وهو المتلبّس بالسّعادة التي هي الأحوال الحسنة الخيّرة الملائمة للمتّصف بها .
والمعنى : فمنهم يومئذٍ من هو في عذاب وشدّة ومنهم من هو في نعمة ورخاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم يأت} ذلك اليوم، {لا تكلم نفس إلا بإذنه}، بإذن الله تعالى، {فمنهم}، يقول الله تعالى: فمن الناس {شقي وسعيد}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يوم يأتي القيامة أيها الناس، وتقوم الساعة لا تكلم نفس إلا بإذن ربها...
وقيل: {لا تَكَلّمُ}، وإنما هي: «لا تتكلم»، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها.
وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيّ وسَعِيدٌ}، يقول: فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها، شقي وسعيد، وعاد على النفس، وهي في اللفظ واحدة بذكر الجميع في قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ}.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... فمنهم شقي بأعماله الخبيثة التي إذا اختارها، وعملها، أدخله النار... ومنهم سعيد بما أكرم من الطاعة والخيرات التي إذا اختارها، وعملها، أدخلته الجنة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: فاعل يأتي ما هو؟ قلت: الله عز وجل، كقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} [البقرة: 210]، {أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، {وَجَاء رَبُّكَ} [الفجر: 22] وتعضده قراءة: «وما يؤخر» بالياء. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير اليوم، كقوله تعالى: {أو تَأْتِيَهُمُ الساعة}... فإن قلت: فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم، فقد جعلت اليوم وقتاً لإتيان اليوم وحدّدت الشيء بنفسه قلت: المراد إتيان هوله وشدائده...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ومعنى قوله: {لا تكلم نفس إلا بإذنه} وصف المهابة يوم القيامة وذهول العقل وهول القيامة، وما ورد في القرآن من ذكر كلام أهل الموقف في التلاوم والتساؤل والتجادل، فإما أن يكون بإذن وإما أن تكون هذه هنا مختصة في تكلم شفاعة أو إقامة حجة. وقوله {فمنهم} عائد على جميع الذي تضمنه قوله: {نفس} إذ هو اسم جنس يراد به الجمع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان كأنه قيل: يا ليت شعري ماذا يكون حال الناس إذا أتى ذلك الأجل وفيهم الجبابرة والرؤساء وذوو العظمة والكبراء! أجيب بقوله: {يوم يأت} أي ذلك الأجل لا يقدرون على الامتناع بل ولا على مطلق الكلام، وحذف ابن عامر وعاصم وحمزة الياء اجتزاء عنها بالكسرة كما هو فاشٍ في لغة هذيل، وكان ذلك إشارة إلى أن شدة هوله تمنع أهل الموقف الكلام أصلاً في مقدار ثلثيه، ثم يؤذن لهم في الكلام في الثلث الآخر بدلالة المحذوف وقرينة الاستثناء، فإن العادة أن يكون المستثنى أقل من المستثنى منه {لا تكلم} ولو أقل كلام بدلالة حذف التاء {نفس} من جميع الخلق في ذلك اليوم الذي هو يوم الآخرة، وهو ظرف هذا الأجل وهو يوم طويل جداً ذو ألوان وفنون وأهوال وشؤون، تارة يؤذن فيه في الكلام، وتارة يكون على الأفواه الختام، وتارة يسكتهم الخوف والحسرة والآلام، وتارة ينطقهم الجدال والخصام {إلا بإذنه} أي بإذن ربك المكرر ذكره في هذه الآيات إشارة إلى حسن التربية وإحكام التدبير.
ولما علم من هذا أنه يوم عظمة وقهر، سبب عن تلك العظمة تقسيم الحاضرين فقال: {فمنهم} أي الخلائق الحاضرين لأمره {شقي} ثبتت له الشقاوة فيسر في الدنيا لأعمالها {وسعيد} ثبتت له السعادة فمشى على منوالها؛ والتأخير: الإذهاب عن جهة الشيء بالإبعاد منه، وضده التقديم؛ والأجل: الوقت المضروب لوقوع أمر من الأمور؛ واللام تدل على العلة والغرض والحكمة بخلاف "إلى"؛ والشقاء: قوة أسباب البلاء.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} أي في الوقت الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى لأنه يومه الخاص الذي لا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه، كما قال: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} [النبأ: 38] وقال: {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} [طه: 108، 109] وقال الكفار {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات: 35، 36] وقال: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم} [يس: 65] الخ، وفسرت كلمة [يوم] في الآية بالوقت المطلق، أي غير المحدود؛ لأنه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر، الذي هو فاعل يأتي.
وأراد بعضهم الهرب من جعل يوم ظرفا لليوم، فقالوا: المعنى يوم يأتي جزاؤه، أو هوله، أو الله تعالى، واستشهدوا للأخير بقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} [البقرة: 210]، والشواهد التي أوردناها نص في هذا المقام، ولا حاجة إلى غير جعل يوم بمعنى وقت أو حين. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة [يأت] بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة، وهذا هو الموافق لرسم المصحف الإمام، وهو لغة هذيل، تقول: ما أدر ما تقول. ونفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا والمثبتة له مطلقة.
{فمنهم شقي وسعيد} أي فمن الأنفس المكلفة التي تجمع فيه شقي مستحق لوعيد الكافرين بالعذاب الدائم، ومنهم سعيد مستحق لما وعد به المتقون من الثواب الدائم، ولا يدخل في هذا التقسيم غير المكلفين كالأطفال والمجانين، وأما من تستوي حسناتهم وسيئاتهم من المؤمنين، ومن تغلب سيئاتهم منهم، ويعاقبون عليها في النار عقابا موقوتا، ثم يدخلون الجنة، فهم من فريق السعداء، باعتبار الخاتمة في الدنيا والآخرة، فالسعداء درجات، والأشقياء دركات.
روى الترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وأشهر رواة التفسير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت {فمنهم شقي وسعيد} قلت: يا رسول الله فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال "بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له "وحديث "كل ميسر لما خلق له" رواه أحمد والشيخان وغيرهما، ولفظ البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قلت: يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟ قال: "كل ميسر لما خلق له" وعن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال: "ما منكم أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار" قالوا: ألا تتكل؟ قال: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له". وقرأ: {فأما من أعطى واتقى}. الخ
ومعناه -الذي غفل عنه، أو جهله الكثيرون على ظهوره-: إن الله تعالى يعلم الغيب، وعلمه بأن زيدا يدخل الجنة، أو النار، ليس معناه أنه يدخلها بغير عمل يستحقها به بحسب وعده وحكمته، ولا أنه لا فرق فيما يعمله في الجزاء، وإنما يعلم الله المستقبل كله بجميع أجزائه وأطرافه، ومنه عمل العاملين وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده في كتابه المنزل وكتابته للمقادير، ولا تناقض ولا تعارض بينهما، ونحن لا نعلم الغيب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا ما نعلم به ما سيكون في الجملة، وهو أن الجزاء بالعمل، وأن كل إنسان ميسر له، ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة وشقاوة النار، وأن ما وهبه للإنسان من العزم والإرادة يكون له من التأثير في تربية النفس ما يوجهها به إلى ما يعتقد أن فيه سعادته.