قوله تعالى : { وزخرفاً } أي وجعلنا مع ذلك لهم زخرفاً وهو الذهب ، نظيره : { أو يكون لك بيت من زخرف }( الإسراء-93 ) ، { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } فكان : " لما " بمعنى إلا ، وخففه الآخرون على معنى : وكل ذلك متاع الحياة الدنيا ، فيكون : " إن " للابتداء ، و " ما " صلة ، يريد : إن هذا كله متاع الحياة الدنيا يزول ويذهب ، { والآخرة عند ربك للمتقين } خاصة يعني الجنة .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن بسطام ، أنبأنا أحمد بن سيار القرشي ، حدثنا عبد الرحمن بن يونس حدثنا أبو مسلم ، حدثنا أبو بكر ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها قطرة ماء " . أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن خالد بن سعيد ، عن قيس بن حازم ، عن المستورد بن شداد أخو بني فهر قال : " كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها ؟ قالوا : من هوانها ألقوها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها " .
{ وزخرفا } وزينة عطف على { سقفا } أو ذهبا عطف على محل من فضة { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } إن هي المخففة واللام هي الفارقة . وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه لما بالتشديد بمعنى إلا وأن نافية ، وقرئ به مع أن وما { والآخرة عند ربك للمتقين } عن الكفر والمعاصي ، وفيه دلالة على أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا ، وإشعار بما لأجله لم يجعل ذلك للمؤمنين حتى يجتمع الناس على الإيمان ، وهو أنه تمتع قليل بالإضافة إلى ما لهم في الآخرة مخل به في الأغلب لما فيه من الآفات قل من يتخلص عنها كما أشار إليه بقوله : { ومن يعش عن ذكر الرحمن }
واختلف الناس في " الزّخْرُف " – فقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : الزُّخْرُف : الذهب نفسه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إيّاكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان ) ( {[10203]} ) .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
الحُسْن أحمر والشهوات تتبعه . وقال ابن زيد : الزّخرف : أثاث البيت وما يتخذ له من الستور والنمارق( {[10204]} ) ونحوه ، وقالت فرقة : الزّخرف : التّزاويق والنقش ونحوه من التّزيين ، وشاهد هذا القول ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت ) ( {[10205]} ) . وقرأ جمهور القراء : ( وإن كل ذلك لَمَا ) بتخفيف الميم من [ لَمَّا ] ، فتكون [ إنْ ] مخففة من الثقيلة ، واللام في [ لَمَّا ] داخلة لتفصل بين النفي والإيجاب ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، وهشام –بخلاف عنه- والحسن ، وطلحة ، والأعمش ، وعيسى : [ لَمَّا ] بتشديد الميم من [ لَمَّا ] ، ف [ إنْ ] نافية بمعنى ( ما ) ، و[ لَمَّا ] بمعنى ( إلاَّ ) ، وقد حكى سيبويه : «نشدتك إنْ لمَّا فعلت » ، وحمله على ( إلاَّ ) ، وفي مصحف أُبيّ بن كعب : «وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا » ، وقرأ أبو رجاء : [ لِمَا ] بكسر اللام وتخفيف الميم ، ف [ مَا ] بمعنى ( الذي ) والعائد عليها محذوف ، والتقدير : وإنْ كلّ ذلك للَّذي هو متاع الحياة الدنيا ، وفي قوله تعالى : ( والآخرة عند ربك للمتقين ) وعد كريم وتحريض على التقوى إذ في الآخرة هو التباين في المنازل .
{ ولولا } حرف امتناع لوجود ، أي حرف شرط دلّ امتناع وقوععِ جوابها لأجل وقوع شرطها ، فيقتضي أن الله أراد امتناع وقوع أن يكون الناس أمة واحدة ، أي أراد الاحتراز من مضمون شرطها .
لما تقرر أن مِن خُلُقهم تعظيمَ المال وأهل الثراء وحُسْبانَهم ذلك أصل الفضائل ولم يَهتموا بزكاء النّفوس ، وكان الله قد أبطل جعلهم المال سبب الفضل بإبطالين ، بقوله : { أهم يقسمون رحمة ربك } [ الزخرف : 32 ] وقوله : { ورحمة ربك خير مما يجمعون } [ الزخرف : 32 ] ، أعقب ذلك بتعريفهم أن المال والغنى لاَ حَظّ لهما عند الله تعالى فإن الله أعطى كل شيء خلقه وجعل للأشياء حقائقها ومقاديرها فكثيراً ما يكون المال للكافرين ومن لا خلاق لهم من الخير ، فتعين أن المال قسمة من الله على النّاس جعل له أسباباً نظمها في سلك النظُم الاجتماعية وجعل لها آثاراً مناسبة لها ، وشتان بينها وبين مواهب النفوس الزكية والسرائر الطيبة ، فالمال في الغالب مصدر لإرضاء الشهوات ومرصد للتفاخر والتطاول . وأما مواهب النفوس الطيّبة فمَصَادرُ لنفع أصحابها ونفع الأمة ، ففي أهل الشر أغنياء وفقراء وفي أهل الخير أمثال ذلك ، فظهر التباين بين آثار كسب المال وآثار الفضائل النفسانية .
ويحصل من هذا التحقير للمال إبطال ثالث لما أسسوا عليه قولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] ، فهذه الجملة عطف على جملة { ورحمت ربك خير مما يجمعون } [ الزخرف : 32 ] .
والنّاس يحتمل أن يراد به جميع النّاس ، فيكون التعريف للاستغراق ، أي جميع البشر . والأمة : الجماعة من البشر المتميزة عن غيرها باتحاد في نسب أو دين أو حالة معرّف بها فمعنى أن يكون النّاس أمة واحدة يحتمل أن لولا أن يصير البشر على دين واحد وهو الغالب عليهم يومئذٍ ، أي الكفر ونبذ الفكرة في الآخرة وعلى هذا تفسير ابن عباس والحسن وقتادة والسدي{[374]} .
فالمعنى عليه : لَوْلاَ أن يَصير النّاس كلّهم كفاراً لخصصنا الكافرين بالمال والرفاهية وتركنا المسلمين لِمَا ادّخرنا لهم من خيرات الآخرة ، فيحسب ضعفاء العقول أن للكفر أثراً في حصول المال جعله الله جزاء لمن سماهم بالكافرين فيتبعوا دين الكفر لِتخيّلهم الملازمة بين سعادة العيش وبين الكفرِ ، وقد كان النّاس في الأجيال الأولى أصحاب أوهام وأغلاط يجعلون للمقارنة حكم التسبب فيؤول المعنى إلى : لولا تجنب ما يفضي إلى عموم الكفر وانقراضضِ الإيمان ، لجعلنا المال لأهل الكفر خاصة ، أي والله لا يحب انقراض الإيمان من النّاس ولم يقدِّر اتحاد النّاس على ملة واحدة بقوله : { ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم } [ هود : 118 ، 119 ] أي أن الله لطف بالعباد فعطّل ما يفضي بهم إلى اضمحلال الهدى من بينهم ، أي أبقى بينهم بصيصاً من نور الهدى .
ويحتمل وهو الأولى عندي : أن يكون التعريف في { الناس } للعهد مراداً به بعض طوائف البشر وهم أهل مكة وجمهورهم على طريقة الاستغراق العرفي وعلى وزان قوله تعالى : { إن النّاس قد جمعوا لكم } [ آل عمران : 173 ] ويكون المراد بكونهم أمّة واحدة اتحادهم في الثراء .
والمعنى : لولا أن تصير أمة من الأمم أهل ثروة كلهم أي وذلك مخالف لما قدره الله من اشتمال كل بلد وكل قبيلة وكل أمة على أغنياء ومحاويج لإقامة نظام العمران واحتياج بعضهم لبعض ، هذا لمالِه ، وهذا لصناعته ، وآخر لمقدرة بدنه لجعلنا من يكفر بالرحمان وهم أهل مكة سواء في الثراء والرفاهية . وعلى كلا الاحتمالين يتلخص من المعنى أن الثراء والرفاهية لا يقيم المدبر الحكيم لهما وزناً فلا يمسكهما عن الناكبين عن طريق الحق والكمال ، فصار الكلام يقتضي مقدَّراً محذوفاً تقديره لكن لا يكون النّاس سَواء في الغِنى لأنّا لم نجعل ذلك لأنا قدرنا في نظام الكون البشري أن لا تكون أمة من الأمم أو قبيلة أو أهل بلدة أغنياء ليس فيهم محاويج لأنّه يفضي إلى انحرام نظام الاجتماع وارتفاع احتياج بعضهم لبعض فيهلك مجتمعهم ، والله أراد بقاءهم إلى أجل هم بالغوه .
ويرجح هذا جعل متعلق فعل { يكفر } خصوص وصف الرحمان فإن مشركي مكة أنكروا وصف الرحمان { قالوا وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] وقد تكرر التورّك عليهم بذلك في آي كثيرة .
ومعنى { لجعلنا لمن يكفر } لَقدَّرنا في نظام المجتمع البشري أسبابَ الثراء متصلةً بالكفر بالله بحيث يكون الكفر سبباً ومجلبة للغنى ، ولو أراد الله ذلك لهيّأ له أسبابه في عقول النّاس وأساليب معاملاتهم المالية فدل هذا على أن الله منع أسباب تعميم الكفر في الأرض لطفاً منه بالإيمان وأهله وإن كان لم يمنع وقوع كفر جزئي قليل أو كثير حفظاً منه تعالى لناموس ترتيب المسببات على أسبابها . وهذا من تفاريع التفرقة بين الرضى والإرادة فلا يرضى لعباده الكفر ولو شاء ربّك ما فعلوه .
واللام في قوله : { لبيوتهم } مثل اللام في قوله : { لمن يكفر بالرحمن } ، أي لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمان فيكون قوله { لبيوتهم } بدلَ اشتمال ممّن يكفر بالرحمان . وإنما صرح بتكرير العامل للتوكيد كما فعلوا في البدل من المستفهم عنه في نحو : مَن ذا أسعيد أم علي ؟ فقرنوا البدل بأداة استفهام ولم يقولوا : من ذا سعيد أم علي ؟ وتقدم عند قوله تعالى : { ومن النخل مِن طَلْعِها قِنوانٌ دانيةٌ } في سورة الأنعام ( 99 ) .
ونكتة هذا الإبدال تعليق المجرور ابتداء بفعل الجعل ثم الاهتمام بذكر من يكفر بالرحمان في هذا المقام المقصود منه قرنه مع مظاهر الغنى في قَرَن التحقيرِ ، ثم يذكر ما يعزّ وجود أمثاله من الفضة والذهب ، وإذ قد كان الخبر كله مستغرباً كان حقيقاً بأن يُنْظَم في أسلوب الإجمال ثم التفصيل .
وقرأ الجمهور { سُقُفاً } بضم السين وضم القاف جمع سَقف بفتح السين وسكون القاف وهو : البناء الممتد على جدران البيت المغطِّي فضاء البيت ، وتقدم عند قوله تعالى : { فخرّ عليهم السقفُ من فوقهم } في سورة النحل ( 26 ) . وهذا الجمع لا نظير له إلا رَهْن ورُهن ولا ثالث لهما . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر سَقْفاً } بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد . والمراد من المفرد الجنس بقرينة قوله { لبيوتهم } كأنه قيل : لكل بيت سقف .
والزخرف : الزينة قال تعالى : { زخرف القول غروراً } في سورة الأنعام ( 112 ) ، فيكون هنا عطفاً على { سقفاً } جمعاً لعديد المحاسن ، ويُطلق على الذهب لأن الذهب يتزين به ، كقوله : { أو يكونَ لك بيتٌ من زخرفٍ } [ الإسراء : 93 ] ، فيكون { وزخرفاً } عطفاً على { سقفاً } بتأويل : لجعلنا لهم ذهباً ، أي لكانت سُقفهم ومعارجهم وأبوابهم من فضة وذَهب منوعة لأن ذلك أبهج في تلْوينها . وابتدىء بالفضة لأنها أكثر في التحليات وأجمل في اللّون ، وأُخّر الذهب لأنه أندر في الحلي ، ولأن لفظه أسعد بالوقف لكون آخره تنويناً ينقلب في الوقف ألفاً فيناسب امتداد الصوت وهو أفصح في الوقف .
ويجوز أن يكون لفظ { زخرفاً } مستعملاً في معنييه استعمال المشترك ، فلا يرد سؤال عن تخصيص السقُف والمعارج بالفضة . و { معارج } اسمُ جمع مِعْراج ، وهو الدرج الذي يعرج به إلى العلالي .
ومعنى { يظهرون } : يعلُون كما في قوله تعالى : { فما استطاعوا أن يَظْهروه } [ الكهف : 97 ] ، أي أن يتسوروه .
وسُرُر بضمتين : جمع سرير ، وتقدم عند قوله تعالى : { على سُرُرٍ متقابلين } في سورة الصافات ( 44 ) ، وفائدة وصفها بجملة { عليها يتكئون } الإشارة إلى أنهم يُعطون هذه البهرجة مع استعمالها في دعة العيش والخلو عن التعب . والمراد أن المعارج والأبواب والسُّرُر من فضة ، فحذف الوصف من المعطوفات لدلالة ما وُصف المعطوف عليه .
وذيّل بقوله : { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } أي كل ما ذكر من السّقُف والمعارج والأبواب والسُرر من الفضة والذهب متاع الدنيا لا يعود على من أُعطِيه بالسعادة الأبدية وأما السعادة الأبدية فقد ادخرها الله للمتقين وليست كمثل البهارج والزينة الزائدة التي تصادف مختلِف النفوس وتكثر لأهل النفوس الضئيلة الخسيسة وهذا كقوله تعالى : { زُين للنّاس حبّ الشهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوَّمة والأنعامِ والحرث ذلك متاع الحياة الدّنيا والله عنده حسن المئاب } [ آل عمران : 14 ] .
وقرأ الجمهور { لما } بتخفيف الميم فتكون { إنْ } التي قبلها مخففة من ( إنّ ) المشددة للتوكيد وتكون اللام الداخلة على { لَمَا } اللامَ الفارقة بين ( إنْ ) النافية و ( إنْ ) المخففة و ( ما ) زائدة للتوكيد بين المضاف والمضاف إليه . وقرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر { لَمَّا } بتشديد الميم فهي { لَمَّا } أخت ( ألاَّ ) المختصة بالوقوع في سياق النفي فتكون { إِنْ } نافية ، والتقدير : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا .