44- إنا أنزلنا التوراة على موسى فيها هداية إلى الحق ، وبيان منير للأحكام التي يحكم بها النبيون ، والذين أخلصوا نفوسهم لربهم ، والعلماء السالكون طريقة الأنبياء والذين عهد إليهم أن يحفظوا كتابهم من التبديل ، حرساً عليه ، شاهدين بأنه الحق . فلا تخافوا الناس في أحكامكم ، وخافوني أنا ربكم رب العالمين ، ولا تستبدلوا بآياتي التي أنزلتها ثمناً قليلاً من متاع الدنيا ، كالرشوة والجاه ، ومن لم يحكم بما أنزل الله من شرائع مستهينين بها ، فهم من الكافرين .
قوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } . أي : أسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى ، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام : إذ قال له ربه أسلم { قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] ، وكما قال : { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } [ آل عمران :83 ] وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة ، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة ، منهم عيسى عليه السلام ، قال الله سبحانه وتعالى { لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ] . وقال الحسن والسدي : أراد به محمداً ، صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم ، ذكر بلفظ الجمع كما قال : { إن إبراهيم كان أمةً قانتاً } [ النحل :120 ] .
قوله تعالى : { للذين هادوا } ، فيه تقديم وتأخير ، تقديره : فيها هدى ونور للذين هادو . ويقل هو على موضعه ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا ، كما قال { وإن أسأتم فلها } أي : فعليها ، وقال : { أولئك لهم اللعنة } [ الرعد :25 ] أي : عليهم ، وقيل : فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا ، فحذف أحدهما اختصارً . قوله تعالى : { والربانيون والأحبار } ، يعني العلماء ، واحدها حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، والكسر أفصح ، وهو العالم المحكم في الشيء ، قال الكسائي وأبو عبيد : هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال ، بفتح الحاء وكسرها ، في الحديث : يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره ، أي حسنه وهيئته ، ومنه التحبير وهو التحسين ، فسمى العالم حبراً لما عليه من جمال العلم وبهائه ، وقيل : الربانيون هاهنا من النصارى ، والأحبار من اليهود .
قوله تعالى : { بما استحفظوا من كتاب الله } أي ، استودعوا من كتاب الله .
قوله تعالى : { وكانوا عليه شهداء } ، . أنه كذلك .
قوله تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، قال قتادة و الضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة ، روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين ، وقيل : هي على الناس كلهم . وقال ابن عباس وطاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، بل إذا فعله به كافر ، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر . قال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، وقال عكرمة معناه : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به ، فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق ، وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات ، فقال : إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه ، وكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك ، ثم لم يحكم ببعض ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات . وقال العلماء : هذا إذا ورد نص حكم الله عياناً عمدا ، فأما من خفي عليه ، أو أخطأ في تأويل فلا .
{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } يهدي إلى الحق . { ونور } يكشف عما استبهم من الأحكام . { يحكم بها النبيون } يعني أنبياء بني إسرائيل ، أو موسى ومن بعده إن قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ، وبهذه الآية تمسك القائل به . { الذين أسلموا } صفة أجريت على النبيين مدحا لهم وتنويها بشأن المسلمين . وتعريضا باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتفاء هديهم . { للذين هادوا } متعلق بأنزل ، أو بيحكم أي يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدل على أن النبيين أنبياؤهم . { والربانيون والأحبار } زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون { بما استحفظوا من كتاب الله } بسبب أمر الله إياهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف ، والراجع إلى ما محذوف ومن للنبيين . { وكانوا عليه شهداء } رقباء لا يتركون أن يغير ، أو شهداء يبينون ما يخفى منه كما فعل ابن صوريا . { فلا تخشوا الناس واخشون } نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير . { ولا تشتروا بآياتي } ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها . { ثمنا قليلا } هو الرشوة والجاه { ومن لم يحكم بما أنزل الله } مستهينا به منكرا له . { فأولئك هم الكافرون } لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره ، ولذلك وصفهم بقوله { الكافرون } و{ الظالمون } و{ الفاسقون } ، فكفرهم لإنكاره ، وظلمهم بالحكم على خلافه ، وفسقهم بالخروج عنه . ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها ، أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالها بخطابهم ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى .
وقوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة } الآية ، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية ، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان{[4555]} . و «الهدى » : الإرشاد في المعتقد والشرائع ، و «النور » : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها ، و { النبيون الذين أسلموا } هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية و { أسلموا } معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى . وقوله تعالى : { للذين هادوا } متعلق ب { يحكم } أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم . وقوله تعالى : { الربانيون } عطف على «النبيين » أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء ، وفي البخاري قال «الرباني » الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، وقيل «الرباني » منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه ، وزيدت النون في «رباني » مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني ، والأحبار أيضاً العلماء واحدهم حِبر بكسر الحاء ، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به . وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار » الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانياً والآخر حبراً .
وكانوا قد أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما .
قال القاضي ابو محمد : وفي هذا نظر ، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا{[4556]} وغيرهم جحدوا أمر الرجم وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم فلم يسم حبراً ولا ربانياً . وقوله تعالى : { بما استحفظوا } أي بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه ، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة ، والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى : { وإنا له لحافظون }{[4557]} والحمد لله . وقوله تعالى : { فلا تخشوا الناسَ واخشون } حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل . وقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين . وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطاباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فقالت جماعة : المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين ، وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البراء بن عازب{[4558]} .
وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم : الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله . ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان{[4559]} .
وقيل لحذيفة بن اليمان :أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل ؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، ان كان لكم كل حلوة ، ولهم كل ُمَّرة ، لتسلكن طريقهم قدر الشراك{[4560]} .
وقال الشعبي : نزلت { الكافرون } في المسلمين و { الظالمون } في اليهود و { الفاسقون } في النصارى{[4561]} .
قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم بهذا التخصيص وجهاً إلا إن صح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة ، فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله : { فلا تخشوا الناس } وقال إبراهيم النخعي : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها{[4562]} .