40- الذين ظلمهم الكفار وأرغموهم على ترك وطنهم مكة والهجرة منها وما كان لهم من ذنب عندهم إلا أنهم عرفوا الله فعبدوه - وحده - ولولا أن الله سخر للحق أعواناً ينصرونه ويدفعون عنه طغيان الظالمين لساد الباطل ، وتمادى الطغاة في طغيانهم ، وأخمدوا صوت الحق ، ولم يتركوا للنصارى كنائس ، ولا لرهبانهم صوامع ، ولا لليهود معابد ، ولا للمسلمين مساجد يذكر فيها اسم الله ذكراً كثيراً ، وقد أخذ الله العهد الأكيد على نفسه أن ينصر كل من نصر دينه ، وأن يعز كل من أعز كلمة الحق في الأرض . ووعد الله لا يتخلف ، لأنه قوى على تنفيذ ما يريد عزيز لا يغلبه غالب .
قوله تعالى : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } بدل من الذين الأولى { إلا أن يقولوا ربنا الله } يعني : لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم ربنا الله وحده { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } بالجهاد وإقامة الحدود ، { لهدمت } قرأ أهل المدينة : بتخفيف الدال . وقرأ الآخرون : بالتشديد على التكثير ، فالتخفيف يكون للتقليل والكثير ، والتشديد يختص بالتكثير { صوامع } قال مجاهد و الضحاك يعني : صوامع الرهبان . وقال فتادة : صوامع الصابئين { وبيع } يعني : بيع النصارى جمع بيعة وهي كنيسة النصارى ، { وصلوات } يعني كنائس اليهود ، ويسمونها بالعبرانية صلوتا { ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } يعني مساجد المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى الآية : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم ، لهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى البيع والصوامع ، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد . وقال ابن زيد : أراد بالصلوات صلوات أهل الإسلام ، فإنها لا تنقطع إذا دخل العدو عليهم { ولينصرن الله من ينصره } يعني : ينصر دينه ونبيه . { إن الله لقوي عزيز* }
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ }
قال العَوْفي ، عن ابن عباس : أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق ، يعني : محمدًا وأصحابه .
{ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : ما كان لهم إلى قومهم إساءة ، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله{[20311]} وحده لا شريك له . وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وأما عند المشركين فهو أكبر الذنوب ، كما قال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] . ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ، ويقولون :
لا هُمّ{[20312]} لَولا أنتَ ما اهتَدَينا *** وَلا تَصَدّقَْنا وَلا صَلَّينَا
فَأنزلَنْ سَكينَةً عَلَينَا *** وَثَبّت الأقْدَامَ إنْ لاقَينَا
إنّ الألَى قد بَغَوا عَلَينَا *** إذَا أرَادوا فتْنَةً أبَيْنَا{[20313]}
فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول معهم آخر كل قافية ، فإذا قالوا : " إذا أرادوا فتنة أبينا " ، يقول : " أبينا " ، يمد بها صوته .
ثم قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي : لولا أنه يدفع عن قوم بقوم ، ويكشفُ شَرّ أناس عن غيرهم ، بما يخلقه ويقدره من الأسباب ، لفسدت الأرض ، وأهلك القوي الضعيف .
{ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ } وهي المعابد الصغار للرهبان ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والضحاك ، وغيرهم .
وقال قتادة : هي معابد الصابئين . وفي رواية عنه : صوامع المجوس .
وقال مقاتل بن حَيَّان : هي البيوت التي على الطرق .
{ وَبِيَعٌ } : وهي أوسع منها ، وأكثر عابدين فيها . وهي للنصارى أيضًا . قاله أبو العالية ، وقتادة ، والضحاك ، وابن{[20314]} صخر ، ومقاتل بن حيان ، وخُصَيف ، وغيرهم .
وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره : أنها كنائس اليهود . وحكى السدي ، عمن حَدّثه ، عن ابن عباس : أنها كنائس اليهود ، ومجاهد إنما قال : هي الكنائس ، والله أعلم .
وقوله : { وَصَلَوَاتٌ } : قال العوفي ، عن ابن عباس : الصلوات : الكنائس . وكذا قال عكرمة ، والضحاك ، وقتادة : إنها كنائس اليهود . وهم يسمونها صَلُوتا .
وحكى السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : أنها كنائس النصارى .
وقال أبو العالية ، وغيره : الصلوات : معابد الصابئين .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : الصلوات : مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق . وأما المساجد فهي للمسلمين .
وقوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } فقد قيل : الضمير في قوله : { يُذْكَرَ فِيهَا } عائد إلى المساجد ؛ لأنها أقرب المذكورات .
وقال الضحاك : الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا .
وقال ابن جرير : الصوابُ : لهدمت صوامع الرهبان وبِيعُ النصارى وصلوات اليهود ، وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب .
وقال بعض العلماء : هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد ، وهي أكثر عُمَّارا وأكثر عبادا ، وهم ذوو القصد الصحيح .
وقوله : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } كقوله{[20315]} تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ . وَالذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 7 ، 8 ] .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَصَف نفسه بالقوة والعزة ، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا ، وبعزته لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب ، بل كل شيء ذليل لديه ، فقير إليه . ومن كان القويّ العزيز ناصرَه فهو المنصور ، وعدوه هو المقهور ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] وقال [ الله ]{[20316]} تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] .
{ الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله }
بدل من { الذين يقاتلون } [ الحج : 39 ] ، وفي إجراء هذه الصلة عليهم إيماء إلى أن المراد بالمقاتلة الأذى ، وأعظمه إخراجهم من ديارهم كما قال تعالى : { والفتنة أشد من القتل } [ البقرة : 191 ] .
و { بغير حق } حال من ضمير { أخرجوا ، } أي أخرجوا متلبسين بعدم الحق عليهم الموجِب إخراجهم ، فإن للمرء حقاً في وطنه ومعاشرة قومه ، وهذا الحق ثابت بالفطرة لأن من الفطرة أن الناشىء في أرض والمتولَّد بين قوم هو مساوٍ لجميع أهل ذلك الموطن في حق القرار في وطنهم وبين قومهم بالوجه الذي ثبت لجمهورهم في ذلك المكان من نشأة متقادمة أو قهر وغلبة لسكانه ، كما قال عمر بن الخطاب : « إنها لِبلاَدُهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام » . ولا يزول ذلك الحق إلاّ بموجب قرره الشرّع أو العوائد قبل الشرع . كما قال زُهير :
فإن الحق مقطعه ثلاث *** يمينٌ أو نِفار أو جَلاء
فمن ذلك في الشرائع التغريب والنّفي ، ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخَلع ، وإنما يكون ذلك لاعتداء يعتديه المرء على قومه لا يجدون له مسلكاً من الردع غير ذلك .
ولذلك قال تعالى : { بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } فإن إيمانهم بالله لا ينجر منه اعتداء على غيرهم إذ هو شيء قاصر على نفوسهم والإعلان به بالقول لا يضر بغيرهم . فالاعتداء عليهم بالإخراج من ديارهم لأجل ذلك ظلم بَواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم .
والاستثناء في قوله : { إلا أن يقولوا ربنا الله } استثناء من عموم الحق ، ولما كان المقصود من الحق حقاً يوجب الإخراج ، أي الحقَّ عليهم ، كان هذا الاستثناء مستعملاً على طريقة الاستعارة التهكمية ، أي إن كان عليهم حق فهو أن يقولوا ربنا الله ، فيستفاد من ذلك تأكيد عدم الحق عليهم بسبب استقراء ما قد يُتخيّل أنه حق عليهم . وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم نقضه . ويسمى عند أهل البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وشاهده قول النابغة :
ولا عَيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بِهِنّ فُلول من قِراع الكتائب
وهذه الآية لا محالة نزلت بالمدينة .
{ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ }
اعتراض بين جملة { أُذِن للذين يقاتلون } [ الحج : 39 ] الخ وبين قوله { الذين إن مكناهم في الأرض } [ الحج : 41 ] الخ . فلما تضمنت جملة { أذن للذين يقاتلون } [ الحج : 39 ] الخ الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أُتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذن بالدفاع ، مع التنويه بهذا الدفاع ، والمتولّين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين ، وليس هو دفاعاً لنفع المسلمين خاصة .
والواو في قوله { ولولا دفاع الله الناس } إلى آخره ، اعتراضية وتسمى واو الاستئناف ومفاد هذه الجملة تعليل مضمون جملة { أذن للذين يقاتلون } [ الحج : 39 ] الخ .
و { لولا } حرف امتناع لوجود ، أي حرف يدل على امتناع جوابه ، أي انتفائه لأجل وجود شرطه ، أي عند تحقق مضمون جملة شرطه فهو حرف يقتضي جملتين . والمعنى : لولا دفاع الناس عن مواضع عبادة المسلمين لصري المشركون ولتجاوزوا فيه المسلمين إلى الاعتداء على ما يجاور بلادهم من أهل الملل الأخرى المناوية لملّة الشرك ولهَدَموا مَعَابدهم من صوامع ، وبِيَععٍ ، وصلوات ، ومساجد ، يذكر فيها اسم الله كثيراً ، قصداً منهم لمحو دعوة التوحيد ومحقاً للأديان المخالفة للشرك . فذكر الصوامع ، والبِيَع ، إدماج لينتبهوا إلى تأييد المسلمين فالتّعريف في { النّاس } تعريف العهد ، أي الناس الذين يتقاتلون وهم المسلمون ومشركو أهل مكة .
ويجوز أن يكون المراد : لولا ما سبق قبل الإسلام من إذن الله لأمم التوحيد بقتال أهل الشرك ( كما قاتل داوود جالوت ، وكما تغلّب سليمان على مَلِكَة سبأ ) . لمَحق المشركون معالم التوحيد ( كما محق بختنصر هيكل سليمان ) فتكون هذه الجملة تذييلاً لجملة { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [ الحج : 39 ] ، أي أذن للمسلمين بالقتال كما أذن لأمم قبلَهم لكيلا يطغى عليهم المشركون كما طغوا على من قبلهم حين لم يأذن الله لهم بالقتال ، فالتعريف في { الناس } تعريف الجنس .
وإضافة الدفاع إلى الله إسناد مجازي عقلي لأنه أذن للناس أن يدفعوا عن معابدهم فكان إذن الله سبب الدفع . وهذا يهيب بأهل الأديان إلى التألب على مقاومة أهل الشرك .
وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب { دفاع . } وقرأ الباقون { دَفْع } بفتح الدال وبدون ألف . و { بعضهم } بدل من { الناسَ } بدل بعض . و { ببعض } متعلق ب { دفاع } والباء للآلة .
والهدم : تقويض البناء وتسقيطه .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو جعفر { لهُدِمت } بتخفيف الدال . وقرأه الباقون بتشديد الدال للمبالغة في الهدم ، أي لهدّمت هدْماً ناشئاً عن غيظ بحيث لا يبقون لها أثراً .
والصوامع : جمع صومعة بوزن فَوْعلة ، وهي بناء مستطيل مرتفع يصعُد إليه بدرج وبأعلاه بيت ، كان الرهبان يتّخذونه للعبادة ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم ، وكانوا يوقدون به مصابيح للإعانة على السهر للعبادة ولإضاءة الطريق للمارين . من أجل ذلك سُمّيت الصومعة المنارة . قال امرؤ القيس :
تضيء الظلام بالعشيّ كأنها *** مَنارة مُمْسَى رَاهب مُتَبتّل
والبِيَع : جمع بيعة بكسر الباء وسكون التحتية مكان عبادة النصارى ولا يعرف أصل اشتقاقها ، ولعلها معرّبة عن لغة أخرى .
والصلوات : جمع صلاة وهي هنا مراد بها كنائس اليهود معرّبة عن كلمة ( صلوثا ) ( بالمثلثة في آخره بعدها ألف ) . فلمّا عُربت جعلوا مكان المثلثة مثناة فوقية وجمعوها كذلك . وعن مجاهد ، والجحدري ، وأبي العالية ، وأبي رجاء أنهم قرأوها هنا { وصلواث } بمثلثة في آخره . وقال ابن عطية : قرأ عكرمة ، ومجاهد { صِلْويثا بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء ( أي المثلثة كما قال القرطبي ) وهذه المادة قد فاتت أهل اللغة وهي غفلة عجيبة .
والمساجد : اسم لمحل السجود من كل موضع عبادة ليس من الأنواع الثلاثة المذكورة قبله وقت نزول هذه الآية فتكون الآية نزلت في ابتداء هجرة المسلمين إلى المدينة حين بنَوا مسجدَ قباء ومسجد المدينة .
وجملة { يذكر فيها اسم الله كثيراً } صفة والغالب في الصفة الواردة بعد جمل متعاطفة فيها أن ترجع إلى ما في تلك الجمل من الموصوف بالصفة . فلذلك قيل برجوع صفة { يذكر فيها اسم الله } إلى { صوامع ، وبيع ، وصلوات ، ومساجد } للأربعة المذكورات قبلها وهي معاد ضمير { فيها .
وفائدة هذا الوصف الإيماء إلى أن سبب هدمها أنها يذكر فيها اسم الله كثيراً ، أي ولا تذكر أسماء أصنام أهل الشرك فإنهم لما أخرجوا المسلمين بلا سبب إلا أنهم يذكرون اسم الله فيقولون ربنا الله ، لِمَحْو ذكرِ اسم الله من بلدهم لا جرم أنهم يهدمون المواضع المجعولة لذكر اسم الله كثيراً ، أي دون ذكر الأصنام . فالكثرة مستعملة في الدوام لاستغراق الأزمنة ، وفي هذا إيماء إلى أن في هذه المواضع فائدة دينية وهي ذكر اسم الله .
قال ابن خويز منداد من أيمة المالكية ( من أهل أواخر القرن الرابع ) تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبِيَعهم وبيوت نارهم اه .
قلت : أما بيوت النار فلا تتضمن هذه الآية منع هدمها فإنها لا يذكر فيها اسم الله وإنما مَنع هدمَها عقدُ الذمة الذي ينعقد بين أهلها وبين المسلمين ، وقيل الصفة راجعة إلى مساجد خاصة .
وتقديم الصوامع في الذكر على ما بعده لأنّ صوامع الرهبان كانت أكثر في بلاد العرب من غيرها ، وكانت أشهر عندهم ، لأنهم كانوا يهتدون بأضوائها في أسفارهم ويأوون إليها ، وتعقيبها بذكر البيع للمناسبة إذ هي معابد النصارى مثل الصوامع . وأما ذكر الصلوات بعدهما فلأنه قد تهيأ المقام لذكرها ، وتأخير المساجد لأنها أعم ، وشأن العموم أن يعقب به الخصوص إكمالاً للفائدة .
وقوله { ولينصرن الله من ينصره } عطف على جملة { ولولا دفاع الله الناس } ، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم . وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله ، فكأنهم نصروا الله ، ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد . وهذه الجملة تذييل لما فيها من العموم الشامل للمسلمين الذين أخرجهم المشركون .
وجملة { إن الله لقوي عزيز } تعليل لجملة { ولينصرن الله من ينصره } ، أي كان نصرهم مضموناً لأنّ ناصرهم قدير على ذلك بالقوة والعزة . والقوة مستعملة في القدرة : والعزّة هنا حقيقة لأنّ العزّة هي المنعة ، أي عدم تسلّط غير صاحبها على صاحبها .
بدل من { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } وما بينهما اعتراض . فالمراد من { الذين إن مكناهم في الأرض } [ الحج : 41 ] المهاجرون فهو ثناء على المهاجرين وشهادة لهم بكمال دينهم . وعن عثمان : « هذا والله ثناء قبلَ بَلاء » ، أي قبل اختبار ، أي فهو من الإخبار بالغيب الذي علمه الله من حالهم . ومعنى { إن مكناهم في الأرض } [ الحج : 41 ] أي بالنصر الذي وعدناهم في قوله : { إن الله على نصرهم لقدير } [ الحج : 39 ] .