12- وما يستوي البحران في علمنا وتقديرنا وإن اشتركا في بعض منافعهما ، هذا ماؤه عذب يقطع العطش لشدة عذوبته وحلاوته وسهولة تناوله ، وهذا ملح شديد الملوحة . ومن كل منهما تأكلون لحماً طريا مما تصيدون من الأسماك وتستخرجون ما تتخذونه زينة كاللؤلؤ والمرجان . وترى - أيها المشاهد - السفن تجرى فيه شاقة الماء بسرعتها ، لتطلبوا شيئاً من فضل الله بالتجارة ، ولعلكم تشكرون لربكم هذه النعم{[184]} .
قوله تعالى : { وما يستوي البحران } يعني : العذب والمالح ، ثم ذكرهما فقال : { هذا عذب فرات } طيب ، { سائغ شرابه } أي : جائز في الحلق هنيء ، { وهذا ملح أجاج } شديد الملوحة . وقال الضحاك : هو المر . { ومن كل تأكلون لحماً طرياً } يعني : الحيتان من العذب والمالح جميعاً ، { وتستخرجون حلية } أي : من المالح دون العذب { تلبسونها } يعني اللؤلؤ . وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما ، لأنه يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك ، { وترى الفلك فيه مواخر } جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة ، { لتبتغوا من فضله } بالتجارة ، { ولعلكم تشكرون } الله على نعمه .
يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة : وخلق البحرين العذب الزلال ، وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس ، من كبار وصغار ، بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار ، والعمران والبراري والقفار ، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك ، { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار ، وإنما تكون مالحة زُعَاقًا مُرَّة ، ولهذا قال : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ، أي : مُرّ .
ثم قال : { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } يعني : السمك ، { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } ، كما قال تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 22 ، 23 ] .
وقوله : { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ }{[24498]} أي : تمخره وتشقه بحيزومها ، وهو مقدمها المُسَنَّم الذي يشبه جؤجؤ الطير - وهو : صدره .
وقال مجاهد : تمخر الريح السفن ، ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام .
وقوله : { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : بأسفاركم بالتجارة ، من قطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم ، وهو البحر ، تتصرفون فيه كيف شئتم ، وتذهبون أين أردتم ، ولا يمتنع عليكم شيء منه ، بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض ، الجميع من فضله ومن رحمته .
هذه آية أخرى يستدل بها كل عاقل ويقطع أنها مما لا مدخل لصنم فيه ، و { البحران } يريد بهما جميع الماء الملح وجميع الماء العذب حيث كان ، فهو يعني به جملة هذا وجملة هذا ، و «الفرات » الشديد العذوبة ، و «الأجاج » الشديد الملوحة الذي يميل إلى المرارة من ملوحته ، قال الرماني هو من أججت النار كأنه يحرق من حرارته ، وقرأ عيسى الثقفي «سيّغ شرابه » بغير ألف وبشد الياء ، وقرأ طلحة «مَلِح » بفتح الميم وكسر اللام ، و «اللحم الطري » الحوت وهو موجود في البحرين ، وكذلك { الفلك } تجري في البحرين ، وبقيت «الحلية » وهي اللؤلؤ والمرجان ، فقال الزجاج وغيره هذه عبارة تقتضي أن الحلية تخرج منهما ، وهي إنما تخرج من الملح وذلك تجوز كما قال في آية أخرى { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }{[9701]} [ الرحمن : 22 ] ، وكما قال { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم }{[9702]} [ الأنعام : 128 ] ، والرسل إنما هي من الإنس ، وقال بعض الناس بل الحلية تخرج من البحرين ، وذلك أن صدف اللؤلؤ إنما يلحقه فيما يزعمون ماء النيسان ، فمنه ما يخرج ويوجد الجوهر فيه ، ومنه ما ينشق في البحر عند موته وتقطعه ، فيخرج جوهرة بالعطش وغير ذلك من الحيل ، فهذا هو من الماء الفرات ، فنسب إليه الإخراج لما كان من الحلية بسبب ، وأيضاً فإن المرجان يزعم طلابه في البحر أنه إنما يوجد وينبت في موضع بإزائها انصباب ماء أنهار في البحر وأيضاً فإن البحر الفرات كل ينصب في البحر الأجاج فيجيء الإخراج منهما جميعاً .
قال القاضي أبو محمد : وقد خطىء أبو ذؤيب في قوله في صفة الجوهر : [ الطويل ]
فجاء بها ما شئت من لطمية . . . على وجهها ماء الفرات يموج{[9703]}
وليس ذلك بخطإ على ما ذكرنا من تأويل هذه الفرقة ، و { الفلك } في هذا الموضع جمع بدليل صفته بجمع ، و { مواخر } جمع ماخرة وهي التي تمخر الماء أي تشقه ، وقيل الماخرة التي تشق الريح ، وحينئذ يحدث الصوت ، والمخر الصوت الذي يحدث من جري السفينة بالريح ، وعبر المفسرون عن هذا بعبارات لا تختص باللفظة ، فقال بعضهم «المواخر » التي تجيء وتذهب بريح واحدة ، وقال مجاهد الريح تمخر السفن ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام .
قال القاضي أبو محمد : هكذا وقع لفظه في البخاري ، والصواب أن تكون { الفلك } هي الماخرة لا الممخورة وقوله تعالى : { لتبتغوا } يريد بالتجارات والحج والغزو وكل سفر له وجه شرعي .