18- ولا تحمل نفس مذنبة إثم نفس أخرى ، وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب شخصاً ليحمل عنها لا يحمل هذا الشخص من ذنوبها شيئاً ، ولو كان ذا قرابة بها ، لاشتغال كل بنفسه ، ولا يحزنك - أيها النبي - عناد قومك ، إنما ينفع تحذيرك الذين يخافون ربهم في خلواتهم ، وأقاموا الصلاة على وجهها ، ومن تطهر من دنس الذنوب فإنما يتطهر لنفسه ، وإلى الله المرجع في النهاية ، فيعامل كلا بما يستحق{[186]} .
قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة } أي : نفس مثقلة بذنوبها غيرها ، { إلى حملها } أي : حمل ما عليها من الذنوب ، { لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } أي : ولو كان المدعو ذا قرابة له ابنه أو أباه أو أمه أو أخاه . قال ابن عباس : يلقى الأب والأم ابنه فيقول : يا بني احمل عني بعض ذنوبي ، فيقول : لا أستطيع حسبي ما علي . { إنما تنذر الذين يخشون } يخافون ، { ربهم بالغيب } ولم يروه . وقال الأخفش : تأويله أي : إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب ، { وأقاموا الصلاة ومن تزكى } أصلح وعمل خيراً ، { فإنما يتزكى لنفسه } لها ثوابه . { وإلى الله المصير* }
وقوله : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : يوم القيامة ، { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } أي : وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تُسَاعَد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه ، { لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ، أي : ولو كان قريبًا إليها ، حتى ولو كان أباها أو ابنها ، كل مشغول بنفسه وحاله ، [ كما قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ] [ عبس : 34 - 37 ] . {[24506]}
قال{[24507]} عكرمة في قوله : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } الآية ، قال : هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة ، فيقول : يا رب ، سل هذا : لم كان يغلق بابه دوني . وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة ، فيقول له : يا مؤمن ، إن لي عندك يدًا ، قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا ؟ وقد احتجت إليك اليوم ، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يرده إلى [ منزل دون ]{[24508]} منزله{[24509]} ، وهو في النار . وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة ، فيقول : يا بني ، أيّ والد كنتُ لك ؟ فيثني خيرا ، فيقول له : يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى . فيقول له ولده : يا أبت ، ما أيسر ما طلبت ، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ، ثم يتعلق بزوجته فيقول : يا فلانة - أو : يا هذه - أي زوج كنت لك ؟ فتثني خيرا ، فيقول لها : إني أطلب إليك حسنة واحدة تَهَبِينَها لي ، لعلي أنجو بها مما ترين . قال : فتقول : ما أيسر ما طلبت . ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا ، إني أتخوف مثل الذي تتخوف ، يقول الله : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا }{[24510]} الآية ، ويقول الله : { لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } [ لقمان : 33 ] ، ويقول تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } رواه ابن أبي حاتم رحمه الله ، عن أبي عبد الله الطهراني{[24511]} ، عن حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، به .
ثم قال : { إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ }{[24512]} أي : إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنهى ، الخائفون من ربهم ، الفاعلون ما أمرهم به ، { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أي : ومَنْ عمل صالحا فإنما يعود نفعه على نفسه ، { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي : وإليه المرجع والمآب ، وهو سريع الحساب ، وسيجزي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرًّا فشر .
و { تزر } معناه تحمل ، والوزر الثقل ، وهذه الآية في الذنوب والآثام والجرائم ، قاله قتادة وابن عباس ومجاهد ، وسببها أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعلي وزركم ، فحكم الله تعالى بأنه لا يحملها أحد عن أحد ، ومن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة كفعل زيادة ونحوه فإنما ذلك لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة ومواصلة أو اطلاع على حاله وتقرير لها ، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب{[9707]} ، وهذا هو المعنى في قوله تعالى { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم }{[9708]} [ العنكبوت : 13 ] لأنهم أغووهم ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة بعده ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده »{[9709]} وأنثت { وازرة } لأنه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك أجريت { مثقلة } ، و «الحمل » ما كان على الظهر في الأجرام ، ويستعار للمعاني كالذنوب ونحوها ، فيجعل كل محمول متصلاً بالظهر ، كما يجعل كل اكتساب منسوباً إلى اليد{[9710]} ، واسم { كان } مضمر تقديره ولو كان الداعي ، ثم أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه إنما ينذر أهل الخشية وهم الذي يمنحون العلم ، أي إنما ينتفع بالإنذار هم وإلا فلنذارة جميع العالم بعثه ، وقوله { بالغيب } أي وهو بحال غيبة عنهم إنما هي رسالة ، ثم خصص من الأعمال إقامة الصلاة تنبيهاً عليها وتشريفاً لها ، ثم حض على التزكي بأن رجى عليه غاية الترجية ، وقرأ طلحة «ومن أزكى فإنما يزكي » ، ثم توعد بعد ذلك بقوله { وإلى الله المصير } .
قال القاضي أبو محمد : وكل عبارة مقصرة عن تبيين فصاحة هذه الآية ، وكذلك كتاب الله كله ، ولكن يظهر الأمر لنا نحن في مواضع أكثر منه في مواضع بحسب تقصيرنا .