قوله عز وجل{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } قال ابن عباس : بالغلبة والقهر . وقال الضحاك : بالحجة ، وفي الآخرة بالعذاب . وقيل : بالانتقام من الأعداء في الدنيا والآخرة ، وكل ذلك قد كان للأنباء والمؤمنين ، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم ، وقد نصرهم الله بالقهر على من ناوأهم وإهلاك أعدائهم ، ونصرهم بعد أن قتلوا بالانتقام من أعدائهم ، كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل ، قتل به سبعون ألفاً ، فهم منصورون بأحد هذه الوجوه ، { ويوم يقوم الأشهاد } أي : يوم القيامة يقوم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار التكذيب .
قد أورد أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله تعالى ، عند قوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } سؤالا فقال : قد عُلِم أن بعض الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا {[25537]} وشعياء ، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرا كإبراهيم {[25538]} ، وإما إلى السماء كعيسى {[25539]} ، فأين النصرة في الدنيا ؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين{[25540]} .
أحدهما : أن يكون الخبر خرج عاما ، والمراد به البعض ، قال : وهذا سائغ في اللغة .
الثاني : أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم ، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم ، كما فُعِلَ بقتلة يحيى وزكريا {[25541]} وشعياء ، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم ، وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأما الذين راموا صلب المسيح ، عليه السلام ، من اليهود ، فسلط الله عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم ، وأظهرهم الله عليهم . ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا ، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام . وهذه نصرة عظيمة ، وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه : أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ، ويقر أعينهم ممن آذاهم ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب " {[25542]} وفي الحديث الآخر : " إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " {[25543]} ؛ ولهذا أهلك تعالى قوم نوح وعاد وثمود ، وأصحاب الرس ، وقوم لوط ، وأهل{[25544]} مدين ، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق . وأنجى الله من بينهم المؤمنين ، فلم يهلك منهم أحدًا وعذب الكافرين ، فلم يفلت منهم أحدا {[25545]} .
قال السدي : لم يبعث الله رسولا قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوما من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون ، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله لهم من ينصرهم ، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا . قال : فكانت {[25546]} الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا ، وهم منصورون فيها .
وهكذا نصر الله [ سبحانه ]{[25547]} نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه ، وكذبه وعاداه ، فجعل كلمته هي العليا ، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان . وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية ، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر ، فنصره عليهم وخذلهم له ، وقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم ، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ، ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح [ عليه ] {[25548]} مكة ، فقرت عينه ببلده ، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم ، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر ، وفتح له اليمن ، ودانت له جزيرة{[25549]} العرب بكمالها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا . ثم قبضه الله ، تعالى ، إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة ، فأقام الله أصحابه خلفاء بعده ، فبلغوا عنه دين الله ، ودعوا عباد الله إلى الله . وفتحوا البلاد والرّساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب ، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها . ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام {[25550]} الساعة ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } أي : يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل .
{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة . { في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } أي في الدارين ولا ينتقض ذلك بما كان لأعدائهم عليهم من الغلبة أحيانا إذ العبرة بالعواقب وغالب الأمر ، و { الإشهاد } جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، والمراد بهم من يقوم يوم القيامة الشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين .
أخبر الله تعالى أنه ينصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، قال بعض المفسرين : وهذا خاص فيما أظهره الله على أمته كنوح وموسى ومحمد وليس بعام ، لأنا نجد من الأنبياء من قتله قومه كيحيى ولم ينصر عليهم ، وقال السدي : الخبر عام على وجهه ، وذلك أن نصرة الرسل واقعة ولا بد ، إما في حياة الرسول المنصور كنوح وموسى ، وإما فيما يأتي من الزمان بعد موته ، ألا ترى إلى ما صنع الله ببني إسرائيل بعد قتلهم يحيى من تسليط بختنصر عليهم حتى انتصر ليحيى ، ونصر المؤمنين داخل في نصر الرسل ، وأيضاً فقد جعل الله للؤمنين الفضلاء وداً ووهبهم نصراً إذ ظلموا وحضت الشريعة على نصرهم ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «من رد عن أخيه المسلم في عرضه ، كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم »{[10012]} ، وقوله عليه السلام : «من حمى مؤمناً من منافق يغتابه ، بعث الله ملكاً يحميه يوم القيامة »{[10013]} .
وقوله تعالى : { ويوم يقوم الأشهاد } يريد يوم القيامة .
وقرأ الأعرج وأبو عمرو بخلاف «تقوم » بالتاء . وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة : «يقوم » بالياء . و { الأشهاد } : جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب . وقالت فرقة : أشهاد : جمع شهيد ، كشريف وأشراف .