قوله تعالى : { فقال إني أحببت حب الخير } أي : آثرت حب الخير ، وأراد بالخير الخيل ، والعرب تعاقب بين الراء واللام ، فتقول : ختلت الرجل وخترته ، أي : خدعته ، وسميت الخيل خيراً لأنه معقود بنواصيها الخير ، الأجر والمغنم ، قال مقاتل : يعني المال ، فهي الخيل التي عرضت عليه . { عن ذكر ربي } يعني : عن الصلاة وهي صلاة العصر . { حتى توارت بالحجاب } : أي : توارث الشمس بالحجاب : استترت بما يحجبها عن الأبصار ، يقال : الحاجب جبل دون قاف ، بمسيرة سنة ، والشمس تغرب من ورائه .
وقوله : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه ، من ذلك عن جابر قال : جاء عمر ، رضي الله عنه يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ، ويقول : يا رسول الله ، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله ما صليتها " فقال : فقمنا إلى بُطْحَان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب .
ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال . والخيل تراد للقتال . وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة ، حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر ، وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب ؛ لأنه قال بعدها : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ }
قال الحسن البصري . قال : لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك . ثم أمر بها فعقرت . وكذا قال قتادة .
وقال السدي : ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : جعل يمسح أعراف الخيل ، وعراقيبها حبالها . وهذا القول اختاره ابن جرير قال : لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها . وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر ؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء - وكانا يكثران السفر نحو البيت - قالا أتينا على رجل من أهل البادية ، فقال البدوي : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله تعالى وقال : " إنك لا تدع شيئا اتقاء الله - عز وجل - إلا أعطاك الله خيرا منه " .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فقال إني أحببت حب الخير} المال، وهو الخيل الذي عرض عليه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَقالَ إنّي أحْبَبْتُ حُبّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبّي حتى تَوَارَتْ بالحِجابِ"، وفي هذا الكلام محذوف استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره: فَلهِيَ عن الصلاة حتى فاتته، فقال: إني أحببت حبّ الخير. ويعني بقوله: "فَقالَ إنّي أحْبَبْتُ حُبّ الخَيْرِ": أي أحببت حبا للخير، ثم أضيف الحبّ إلى الخير، وعنى بالخير في هذا الموضع الخيل، والعرب فيما بلغني تسمي الخيل الخير، والمال أيضا يسمونه الخير...
وقوله: "عَنْ ذِكْرِ رَبّي "يقول: إني أحببت حبّ الخير حتى سهوت عن ذكر ربي وأداء فريضته. وقيل: إن ذلك كان صلاة العصر...
وقوله: "حتى تَوَارَتْ بالحِجابِ "يقول: حتى توارت الشمس بالحجاب، يعني: تغيبت في مغيبها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان بيان ضخامة ملكه وكثرة هيبته وعزته مع زيادة أوبته لتحصل التأسية به في حسن ائتماره وانتهائه، والتسلية بابتلائه مع ذلك من شرفه وبهائه، أشار إلى كثرة الخيل جداً وزيادة محبته لها وسرعة أوبته بقوله: {فقال} ولما كان اللائق بحاله والمعروف من فعاله أنه لا يؤثر على ذكر الله شيئاً فلا يكاد أحد ممن شاهد ذلك يظن به ذلك، بل يوجهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محامل تليق بما يعرفونه من حال من الإقبال على الله والغنا عما سواه، أكد قوله تواضعاً لله تعالى ليعتقدوا أنه بشر يجوز عليه ما يجوز عليهم لولا عصمة الله: {إني} ولما كان الحب أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلا بكثرة الاشتغال به، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحب فهو غير دال عليه إلا بقرائن قال اعترافاً: {أحببت} أي أوجدت وأظهرت بما ظهر مني من الاشتغال بالخيل مقروناً ذلك بأدلة الود.
{حب الخير} وهو المال بل خلاصة المال وسبب كل خير دنيوي وأخروي... أظهرت ذلك بغاية الرغبة غافلاً {عن ذكر ربي} المحسن إليّ بهذه الخيل التي شغلتني وغيرها، فلم أذكره بالصلاة التي كانت وظيفة الوقت وإن كان غرضي لها لكونه في طاعته ذكراً له، ولم يزل ذلك بي {حتى توارت} أي الشمس المفهومة من "العشي".
{بالحجاب} وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها فصارت وراءها حقيقة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أصل تركيب {أحْببتُ حبَّ الخيرِ}: أحببتُ الخير حُبًّا، فحول التركيب إلى {أحببتُ حب الخيرِ} فصار {حُبَّ الخيرِ} تمييزاً لإِسناد نسبة المحبة إلى نفسه لغرض الإِجمال ثم التفصيل...
وضمن {أحْبَبْتُ} معنى عَوَّضت، فعدِّي ب {عن} في قوله: {عن ذِكرِ ربي} فصار المعنى: أحببت الخير حبّاً فجاوزت ذكر ربي، والمراد بذكر الرّب الصلاة، فلعلها صلاة كان رتبها لنفسه لأن وقت العشي ليست فيه صلاة مفروضة في شريعة موسى إلا المغرب...
{الخير}: المال النفيس، والخيل من المال النفيس. وقال الفراء: الخير بالراء من أسماء الخيل، وقلت: إن العرب من عادتهم التفاؤل ولهم بالخيل عناية عظيمة حتى وصفوا شياتها وزعموا دلالتها على بخت أو نحس؛ فلعلهم سموها الخير تفاؤلاً لتتمحض للسعد والبخت، والكلام تمثيل لحالة غروب الشمس بتواري المرأة وراء الحجاب وكل من أجزاء هذه التمثيلية مستعار؛ فللشمس استعيرت المرأة على طريقة المكنية، ولاختفائها عن الأنظار استعير التواري، ولأُفق غروب الشمس استعير الحجاب، وكلامه هذا خبر مستعمل في التحسر...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أثار بعض المفسرين احتمال أن يكون انشغاله بحب الخير عن ذكر ربه منطلقاً من أمر الله، ليكون استعراضه وحبه لها عملاً عبادياً ليتهيأ بها للجهاد في سبيل الله، وبذلك يكون الشاغل له عن عبادة الله عملاً يختزنها أي العبادة لله تعالى في داخله. ولعل الأساس في هذا التوجيه التفسيري، هو الخروج بعمل سليمان عن كونه مخالفاً لموقعه الرسالي، في انشغاله باستعراض الخيل عن عبادة الله الواجبة في وقتٍ معين. ولكن ما تقدم ليس بحجةٍ قويةٍ، لا سيما إذا كانت الصلاة موقتةً بوقت معيّن في ذلك العصر، بحيث يذهب وقتها بغروب الشمس وتواريها بالحجاب، كما يظهر من بعض الروايات، لذا فإن الانشغال عنها المؤدّي إلى تركها، بعملٍ آخر مرضٍ لله، موسعٍ في وقته، غير مبّررٍ شرعاً. ولهذا فقد يكون من الأقرب إبقاء الآية على ظاهرها الذي يوحي بأن سليمان كان في مقام توبيخ نفسه أو الاعتذار إلى الله عما حدث، وهو ما لا يتناسب بالتأكيد مع التوجيه المذكور الذي قد لا يكون له معنى، إلا أن يقال: إن ذلك بلحاظ أهميّة الصلاة، وبذلك يكون قد قدّم المهمّ على الأهم في الوقت الذي يتسع للعملين معاً، مع كون تقديم الصلاة أفضل، بلحاظ الوقت.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.