قوله تعالى : { إن الساعة آتية أكاد أخفيها } قيل : معناه إن الساعة آتية أخفيها ( وأكاد ) صلة . وأكثر المفسرين قالوا : معناه أكاد أخفيها من نفسي وكذلك في مصحف أبي بن كعب وفي مصحف عبد الله بن مسعود ( أكاد أخفيها ) من نفسي ، فكيف يعلمها مخلوق وفي بعض القراءة ، فكيف أظهرها لكم . وذكر ذلك على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشيء يقولون : كتمت سرك في نفسي أي : أخفيته غاية الإخفاء والله عزتعالى لا يخفى عليه شيء . وقال الأخفش ( أكاد ) أي أريد ومعنى الآية : أن الساعة آتية أريد أخفيها والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف لأنهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت . وقرأ الحسن : بفتح الألف أي : أظهرها ، يقال : خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته قوله تعالى : { لتجزى كل نفس بما تسعى } أي : بما تعمل من خير وشر .
وقوله : { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ } أي : قائمة لا محالة ، وكائنة لا بد منها .
وقوله : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } قال الضحاك ، عن ابن عباس : أنه كان يقرؤها : " أكاد أخفيها من نفسي " ، يقول : لأنها لا تخفى من نفس الله أبدًا .
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : من نفسه . وكذا قال مجاهد ، وأبو صالح ، ويحيى بن رافع .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } يقول : لا أطلع عليها أحدًا غيري .
وقال السدي : ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله عنه علم الساعة ، وهي في قراءة ابن مسعود : " إني أكاد أخفيها من نفسي " ، يقول : كتمتها عن الخلائق ، حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت .
وقال قتادة : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } وهي في بعض القراءة أخفيها من نفسي ، ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ، ومن الأنبياء والمرسلين .
قلت : وهذا كقوله تعالى : { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ } [ النمل : 65 ] وقال : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } [ الأعراف : 187 ] أي : ثقل علمها على أهل السموات والأرض .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة حدثنا مِنْجَاب ، حدثنا أبو نُمَيْلة ، حدثني محمد بن سهل الأسدي ، عن وِقَاء قال : أقرأنيها سعيد بن جبير( أكاد أَخْفيها ) ، يعني : بنصب{[19232]} الألف وخفض الفاء ، يقول : أظهرها ، ثم [ قال ]{[19233]} أما سمعت قول الشاعر{[19234]} .
دَأبَ شَهْرَين ، ثم شهرًا دَمِيكًا . . . بأريكَين يَخْفيان غَميرًا . . .
وقال الأسدي : الغمير : نبت رطب ، ينبت في خلال يبس . والأريكين : موضع ، والدميك : الشهر التام . وهذا الشعر لكعب بن زهير .
وقوله سبحانه وتعالى : { لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } أي : أقيمها لا محالة ، لأجزي كل عامل بعمله ، { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] و{ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الطور : 16 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىَ * فَلاَ يَصُدّنّكَ عَنْهَا مَن لاّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىَ } .
يقول تعالى ذكره : إن الساعة التي يبعث الله فيها الخلائق من قبورهم لموقف القيامة جائية أكادُ أُخْفِيها . فعلى ضمّ الألف من أخفيها قراءة جميع قرّاء أمصار الإسلام ، بمعنى : أكاد أخفيها من نفسي ، لئلا يطلع عليها أحد ، وبذلك جاء تأويل أكثر أهل العلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " أكادُ أُخْفِيها " يقول : لا أظهر عليها أحدا غيري .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " إنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها " قال : لا تأتيكم إلاّ بغتة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد " إنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها " قال : من نفسي .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " أكادُ أُخْفِيها " قال : من نفسي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس " أكادُ أُخْفِيها " قال : من نفسي .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : " أكادُ أُخْفِيها " قال : يخفيها من نفسه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : " أكادُ أُخْفِيها " وهي في بعض القراءة : «أخفيها من نفسي » . ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقرّبين ، ومن الأنبياء المرسلين .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قال : في بعض الحروف : «إنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي » .
وقال آخرون : إنما هو : «أكادُ أَخْفِيها » بفتح الألف من أَخفيها بمعنى : أظهرها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا محمد بن سهل ، قال : سألني رجل في المسجد عن هذا البيت .
دَابَ شَهْرَيْنِ ثُمّ شَهْرا دَمِيكا *** بِأرِيكَيْنِ يَخْفيانِ غَمِيرا
فقلت : يظهران ، فقال ورقاء بن إياس وهو خلفي : أقرأنيها سعيد بن جبير : «أكادُ أَخْفِيها » بنصب الألف .
وقد رُوي عن سعيد بن جبير وفاق لقول الاَخرين الذين قالوا : معناه : أكاد أخفيها من نفسي . ذكر الرواية عنه بذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ومنصور ، عن مجاهد ، قالا إنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها قالا : من نفسي .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير أكادُ أُخْفِيها قال : من نفسي .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل الاَية من القول ، قول من قال : معناه : أكاد أخفيها من نفسي ، لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء . والذي ذُكر عن سعيد بن جبير من قراءة ذلك بفتح الألف قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به نقلاً مستفيضا .
فإن قال قائل : ولم وجهت تأويل قوله أكادُ أُخْفِيها بضم الألف إلى معنى : أكاد أخفيها من نفسي ، دون توجيهه إلى معنى : أكاد أظهرها ، وقد علمت أن للإخفاء في كلام العرب وجهين : أحدهما الإظهار ، والاَخر الكتمان وأن الإظهار في هذا الموضع أشبه بمعنى الكلام ، إذ كان الإخفاء من نفسه يكاد عند السامعين أن يستحيل معناه ، إذ كان محالاً أن يخفي أحد عن نفسه شيئا هو به عالم ، والله تعالى ذكره لا تخفى عليه خافية ؟ قيل : الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت ، وإنما وجّهنا معنى أُخْفِيها بضمّ الألف إلى معنى : أسترها من نفسي ، لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب : الستر . يقال : قد أخفيت الشيء : إذا سترته . وأن الذين وجّهوا معناه إلى الإظهار ، اعتمدوا على بيت لامرىء القيس ابن عابس الكندي .
حُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال : أنشدنيه أبو الخطاب ، عن أهله في بلده :
فإنْ تُدْفِنُوا الدّاءَ لا نُخْفِهِ *** وإنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدُ
بضمّ النون من لا نخفه ، ومعناه : لا نظهره ، فكان اعتمادهم في توجيه الإخفاء في هذا الموضع إلى الإظهار على ما ذكروا من سماعهم هذا البيت ، على ما وصفت من ضم النون من نخفه . وقد أنشدني الثقة عن الفرّاء :
*** فإنْ تَدْفِنُوا الدّاءَ لا نَخْفِهِ ***
بفتح النون من نخفه ، من خفيته أخفيه ، وهو أولى بالصواب لأنه المعروف من كلام العرب . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الفتح في الألف من أَخفيها غير جائز عندنا لما ذكرنا ، ثبت وصحّ الوجه الاَخر ، وهو أن معنى ذلك : أكاد استرها من نفسي .
وأما وجه صحة القول في ذلك ، فهو أن الله تعالى ذكره خاطب بالقرآن العرب على ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بينهم فلما كان معروفا في كلامهم أن يقول أحدهم إذا أراد المبالغة في الخبر عن إخفائه شيئا هو له مسرّ : قد كدت أن أخفي هذا الأمر عن نفسي من شدّة استسراري به ، ولو قدرت أخفيه عن نفسي أخفيته ، خاطبهم على حسب ما قد جرى به استعمالهم في ذلك من الكلام بينهم ، وما قد عرفوه في منطقهم . وقد قيل في ذلك أقوال غير ما قلنا ، وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقة أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين ، إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم ، فيما استفاض القول به منهم ، وجاء عنهم مجيئا يقطع العذر . فأما الذين قالوا في ذلك غير قولنا ممن قال فيه على وجه الانتزاع من كلام العرب ، من غير أن يعزوه إلى إمام من الصحابة أو التابعين ، وعلى وجه يحتمل الكلام غير وجهه المعروف ، فإنهم اختلفوا في معناه بينهم ، فقال بعضهم : يحتمل معناه : أريد أخفيها قال : وذلك معروف في اللغة . وذُكر أنه حُكي عن العرب أنهم يقولون : أولئك أصحابي الذين أكاد أنزل عليهم ، وقال : معناه : لا أنزل إلاّ عليهم . قال : وحُكي : أكاد أبرح منزلي : أي ما أبرح منزلي ، واحتجّ ببيت أنشده لبعض الشعراء :
كادَتْ وكِدْتُ وَتِلكَ خَيْرُ إرَادَةٍ *** لَوْ عادَ مِنْ عَهْد الصّبابَةِ ما مَضَى
وقال : يريد : بكادت : أرادت قال : فيكون المعنى : أريد أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى . قال : ومما يُشبه ذلك قول زيد الخيل :
سَرِيعٌ إلى الهَيْجاءِ شاكٍ سِلاحُهُ *** فَمَا إنْ يَكادُ قِرْنُهُ يَتَنَفّسُ
وقال : كأنه قال : فما يتنفس قرنه ، وإلا ضعف المعنى قال : وقال ذو الرّمّة :
إذا غَيّرَ النّأْيُ المُحِبّينَ لَمْ يَكَدْ *** رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبّ مَيّةَ يَبْرَحُ
قال : وليس المعنى : لم يكد يبرح : أي بعد يُسر ، ويبرح بعد عُسر وإنما المعنى : لم يبرح ، أو لم يرد يبرح ، وإلا ضعف المعنى قال : وكذلك قول أبي النجم :
وَإنْ أتاكَ نَعِيّ فانْدُبَنّ أبا *** قَدْ كادَ يَضْطَلِعُ الأعْداءَ والخُطَبَا
وقال : يكون المعنى : قد اضطلع الأعداء ، وإلاّ لم يكن مدحا إذا أراد كاد ولم يرد يفعل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن الساعة آتية أكاد ، قال : وانتهى الخبر عند قوله أكاد لأن معناه : أكاد أن آتي بها قال : ثم ابتدأ فقال : ولكني أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى . قال : وذلك نظير قول ابن ضابىء :
هَمَمْتُ ولَمْ أفْعَلْ وكِدْتُ ولَيْتَنِي *** تَرَكْتُ على عُثمانَ تَبْكِي أقارِبُهُ
فقال : كدت ، ومعناه : كدت أفعل .
وقال آخرون : معنى أُخفيها : أظهرها ، وقالوا : الإخفاء والإسرار قد توجههما العرب إلى معنى الإظهار ، واستشهد بعضهم لقيله ذلك ببيت الفرزدق :
فَلَمّا رأى الحَجّاجَ جَرّدَ سَيْفَهُ *** أسَرّ الحَرُورِيّ الّذِي كانَ أضْمَرَا
وقال : عَنَى بقوله : أسرّ : أظهر . قال : وقد يجوز أن يكون معنى قوله : وأسَرّوا النّدَامَةَ : أظهروها . قال : وذلك أنهم قالوا : يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا . وقال جميع هؤلاء الذين حكينا قولهم جائز أن يكون قول من قال : معنى ذلك : أكاد أخفيها من نفسي ، أن يكون أراد : أخفيها من قِبلي ومن عندي . وكلّ هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا توجيه منهم للكلام إلى غير وجهه المعروف ، وغير جائز توجيه معاني كلام الله إلى غير الأغلب عليه من وجوهه عند المخاطبين به ، ففي ذلك مع خلافهم تأويل أهل العلم فيه شاهد عدل على خطأ ما ذهبوا إليه فيه .
وقوله : " لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى " يقول تعالى ذكره : إن الساعة آتية لتجزى كلّ نفس يقول : لتثاب كلّ نفس امتحنها ربها بالعبادة في الدنيا بما تسعى ، يقول : بما تعمل من خير وشرّ ، وطاعة ومعصية .
جملة { إنَّ السَّاعة ءَاتِيَة } مستأنفة لابتداء إعلام بأصل ثان من أصول الدّين بعد أصل التوحيد ، وهو إثبات الجزاء .
والساعة : علَم بالغلبة على ساعة القيامة أو ساعة الحساب .
وجملة { أكَادُ أُخْفِيهَا } في موضع الحال من الساعَةَ ، أو معترضة بين جملة وعلّتها .
والإخفاء : الستر وعدم الإظهار ، وأريد به هنا المجاز عن عدم الإعلام .
والمشهورُ في الاستعمال أن « كاد » تدلّ على مقاربة وقوع الفعل المخبر به عنها ، فالفعل بعدها في حيّز الانتفاء ، فقوله تعالى : { كادُوا يكونون عليه لِبداً } [ الجنّ : 19 ] يدلّ على أن كونهم لِبَداً غير واقع ولكنه اقترب من الوقوع .
ولما كانت الساعة مخفية الوقوع ، أي مخفية الوقت ، كان قوله { أكاد أُخفيها } غير واضح المقصود ، فاختلفوا في تفسيره على وجوه كثيرة أمثلها ثلاثة .
فقيل : المراد إخفاء الحديث عنها ، أي من شدّة إرادة إخفاء وقتها ، أي يراد ترك ذكرها ولعلّ توجيه ذلك أنّ المكذبين بالساعة لم يزدهم تكرر ذكرها في القرآن إلا عناداً على إنكارها .
وقيل : وقعت { أكَادُ } زائدة هنا بمنزلة زيادة كان في بعض المواضع تأكيداً للإخفاء . والمقصود : أنا أخفيها فلا تأتي إلاّ بغتة .
وتأوّل أبو عليّ الفارسي معنى { أُخْفِيها } بمعنى أظهرها ، وقال : همزة { أخفيها للإزالة مثل همزة أعْجَم الكتابَ ، وأشكى زيداً ، أي أزيل خفاءَها . والخفاء : ثوب تلفّ فيه القِربة مستعار للستر .
فالمعنى : أكاد أظهرها ، أي أظهر وقوعها ، أي وقوعها قريب . وهذه الآية من غرائب استعمال ( كاد ) فيضم إلى استعمال نفيها في قوله : { وما كادوا يفعلون } في سورة البقرة ( 71 ) .
وقوله { لتجزى } يتعلّق بآتِيَةٌ وما بينهما اعتراض . وهذا تعليم بحكمة جعل يوم للجزاء .
واللام في { لِتُجْزى كلُّ نَفْسٍ } متعلّق بآتِيَةٌ .
ومعنى { بِمَا تسعى } بما تعمل ، فإطلاق السعي على العمل مجاز مرسل ، كما تقدم في قوله : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } في سورة الإسراء ( 19 ) .
وفُرع على كونها آتية وأنها مخفاة التحذيرُ من أن يصدّه عن الإيمان بها قوم لا يؤمنون بوقوعها اغتراراً بتأخر ظهورها ، فالتفريع على قوله أكاد أُخفيها } أوقع لأنّ ذلك الإخفاء هو الذي يُشبّه به الذين أنكروا البعث على الناس ، قال تعالى : { فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً } [ الإسراء : 51 ] وقال : { وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين } [ الجاثية : 32 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الساعة التي يبعث الله فيها الخلائق من قبورهم لموقف القيامة جائية "أكادُ أُخْفِيها"... بمعنى: أكاد أخفيها من نفسي، لئلا يطلع عليها أحد... عن ابن عباس، قوله: "أكادُ أُخْفِيها "يقول: لا أظهر عليها أحدا غيري...
وقال آخرون: إنما هو: «أكادُ أَخْفِيها» بفتح الألف من أَخفيها بمعنى: أظهرها...
والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، قول من قال: معناه: أكاد أخفيها من نفسي، لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء...
فإن قال قائل: ولم وجهت تأويل قوله "أكادُ أُخْفِيها" بضم الألف إلى معنى: أكاد أخفيها من نفسي، دون توجيهه إلى معنى: أكاد أظهرها، وقد علمت أن للإخفاء في كلام العرب وجهين: أحدهما الإظهار والآخر الكتمان، وأن الإظهار في هذا الموضع أشبه بمعنى الكلام، إذ كان الإخفاء من نفسه يكاد عند السامعين أن يستحيل معناه، إذ كان محالاً أن يخفي أحد عن نفسه شيئا هو به عالم، والله تعالى ذكره لا تخفى عليه خافية؟ قيل: الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وإنما وجّهنا معنى أُخْفِيها بضمّ الألف إلى معنى: أسترها من نفسي، لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب: الستر. يقال: قد أخفيت الشيء: إذا سترته... فإذا كان ذلك كذلك، وكان الفتح في الألف من أَخفيها غير جائز عندنا لما ذكرنا، ثبت وصحّ الوجه الآخر، وهو أن معنى ذلك: أكاد استرها من نفسي.
وأما وجه صحة القول في ذلك، فهو أن الله تعالى ذكره خاطب بالقرآن العرب على ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بينهم، فلما كان معروفا في كلامهم أن يقول أحدهم إذا أراد المبالغة في الخبر عن إخفائه شيئا هو له مسرّ: قد كدت أن أخفي هذا الأمر عن نفسي من شدّة استسراري به، ولو قدرت أخفيه عن نفسي أخفيته، خاطبهم على حسب ما قد جرى به استعمالهم في ذلك من الكلام بينهم، وما قد عرفوه في منطقهم. وقد قيل في ذلك أقوال غير ما قلنا، وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقة أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين، إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم، فيما استفاض القول به منهم، وجاء عنهم مجيئا يقطع العذر. فأما الذين قالوا في ذلك غير قولنا ممن قال فيه على وجه الانتزاع من كلام العرب، من غير أن يعزوه إلى إمام من الصحابة أو التابعين، وعلى وجه يحتمل الكلام غير وجهه المعروف، فإنهم اختلفوا في معناه بينهم، فقال بعضهم: يحتمل معناه: أريد أخفيها... فيكون المعنى: أريد أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الساعة آتية أكاد، قال: وانتهى الخبر عند قوله أكاد لأن معناه: أكاد أن آتي بها قال: ثم ابتدأ فقال: ولكني أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى...
وقال آخرون: معنى أُخفيها: أظهرها، وقالوا: الإخفاء والإسرار قد توجههما العرب إلى معنى الإظهار... وقال جميع هؤلاء الذين حكينا قولهم جائز أن يكون قول من قال: معنى ذلك: أكاد أخفيها من نفسي، أن يكون أراد: أخفيها من قِبلي ومن عندي.
وكلّ هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا توجيه منهم للكلام إلى غير وجهه المعروف، وغير جائز توجيه معاني كلام الله إلى غير الأغلب عليه من وجوهه عند المخاطبين به، ففي ذلك مع خلافهم تأويل أهل العلم فيه شاهد عدل على خطأ ما ذهبوا إليه فيه.
وقوله: "لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى" يقول تعالى ذكره: إن الساعة آتية لتجزى كلّ نفس يقول: لتثاب كلّ نفس امتحنها ربها بالعبادة في الدنيا بما تسعى، يقول: بما تعمل من خير وشرّ، وطاعة ومعصية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {أكاد أخفيها}... أي أخفيها من أخيار عبادي مع عظيم قدرهم ومنزلتهم عندي: من نحو الملائكة والأنبياء والرسل. إن من عادة ملوك الأرض أنهم لا يكتمون سرائرهم من خواصهم، بل يطلعونهم على ذلك. فأخبر عز وجل، والله أعلم، أنه أخفاها من خواص عباده وأخيارهم. فكيف من دونهم؟...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
...والفائدة في الإخفاء التخويف والتهويل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... الفائدة في تعريف العِباد بِقُرْب الساعةِ أن يستفيقوا من غفلات التفرقة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
في قوله {إن الساعة آتية} تحذير ووعيد، أي اعبدني فإن عقابي وثوابي بالمرصاد، و {الساعة} في هذه الآية القيامة بلا خلاف...
قالت فرقة {أكاد} على بابها بمعنى أنها متقاربة ما لم يقع، لكن الكلام جار على استعارة العرب ومجازها، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ قوله تعالى في إبهام وقتها فقال {أكاد أخفيها} حتى لا تظهر البتة ولكن ذلك لا يقع ولا بد من ظهورها، هذا تلخيص هذا المعنى الذي أشار إليه بعض المفسرين وهو الأقوى عندي...
... اعلم أنه تعالى لما خاطب موسى عليه السلام بقوله: {فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} أتبعه بقوله: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} وما أليق هذا بتأويل من تأول قوله {لذكري} أي لأذكرك بالأمانة والكرامة فقال عقيب ذلك: {إن الساعة آتية} لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة...
ما الحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت؟ الجواب: لأن الله تعالى وعد قبول التوبة فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قريب من ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية، وإنه لا يجوز...
أما قوله: {لتجزي كل نفس بما تسعى}: إنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة ذكر الدليل عليه وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء وذلك غير جائز وهو الذي عناه الله تعالى بقوله: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم علل الأمر بالعبادة بأنه لم يخلق الخلق سدى، بل لا بد من إماتتهم، ثم بعثهم لإظهار العظمة ونصب موازين العدل، فقال مؤكداً لإنكارهم معبراً بما يدل على سهولة ذلك عليه جداً: {إن الساعة ءاتية} أي لا ريب في إتيانها، فهي أعظم باعث على الطاعة. ولما كان بيان حقيقة الشيء مع إخفاء شخصه ووقته وجميع أحواله موجباً في الغالب لنسيانه والإعراض عنه، فكان غير بعيد من إخفائه أصلاً ورأساً، قال مشيراً إلى هذا المعنى: {أكاد أخفيها} أي أقرب من أن أجدد إخفاءها، فلذا يكذب بها الكافر بلسانه والعاصي بعصيانه فالكافر لا يصدق بكونها والمؤمن لا يستعد غفلة عنها، فراقبني فإن الأمر يكون بغتة، ما من لحظة إلا وهي صالحة للترقب؛ ثم بين سبب الإتيان بها بقوله: {لتجزى} أي بأيسر أمر وأنفذه {كل نفس} كائنة من كانت {بما تسعى} أي توجد من السعي في كل وقت كما يفعل من أمر ناساً بعمل من النظر في أعمالهم ومجازاة كل بما يستحق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن الساعة آتية) وأنه يكاد يخفيها. فعلم الناس بها قليل لا يتجاوز ما يطلعهم عليه من أمرها بقدر ما يحقق حكمته من معرفتهم ومن جهلهم.. والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي. فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه. ولو كان كل شيء مكشوفا لهم -وهم بهذه الفطرة- لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم. فوراء المجهول يجرون. فيحذرون ويأملون، ويجربون ويتعلمون. ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وطاقات الكون من حولهم؛ ويرون آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق؛ ويبدعون في الأرض بما شاء لهم الله أن يبدعوا.. وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد، يحفظهم من الشرود، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة، فهم من موعدها على حذر دائم وعلى استعداد دائم. ذلك لمن صحت فطرته واستقام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {إنَّ السَّاعة ءَاتِيَة} مستأنفة لابتداء إعلام بأصل ثان من أصول الدّين بعد أصل التوحيد، وهو إثبات الجزاء.
والساعة: علَم بالغلبة على ساعة القيامة أو ساعة الحساب.
وجملة {أكَادُ أُخْفِيهَا} في موضع الحال من الساعَةَ، أو معترضة بين جملة وعلّتها.
والإخفاء: الستر وعدم الإظهار، وأريد به هنا المجاز عن عدم الإعلام.
والمشهورُ في الاستعمال أن « كاد» تدلّ على مقاربة وقوع الفعل المخبر به عنها، فالفعل بعدها في حيّز الانتفاء، فقوله تعالى: {كادُوا يكونون عليه لِبداً} [الجنّ: 19] يدلّ على أن كونهم لِبَداً غير واقع ولكنه اقترب من الوقوع.
ولما كانت الساعة مخفية الوقوع، أي مخفية الوقت، كان قوله {أكاد أُخفيها} غير واضح المقصود، فاختلفوا في تفسيره على وجوه كثيرة أمثلها ثلاثة.
فقيل: المراد إخفاء الحديث عنها، أي من شدّة إرادة إخفاء وقتها، أي يراد ترك ذكرها ولعلّ توجيه ذلك أنّ المكذبين بالساعة لم يزدهم تكرر ذكرها في القرآن إلا عناداً على إنكارها.
وقيل: وقعت {أكَادُ} زائدة هنا بمنزلة زيادة كان في بعض المواضع تأكيداً للإخفاء. والمقصود: أنا أخفيها فلا تأتي إلاّ بغتة.
وتأوّل أبو عليّ الفارسي معنى {أُخْفِيها} بمعنى أظهرها، وقال: همزة {أخفيها للإزالة مثل همزة أعْجَم الكتابَ، وأشكى زيداً، أي أزيل خفاءَها. والخفاء: ثوب تلفّ فيه القِربة مستعار للستر.
فالمعنى: أكاد أظهرها، أي أظهر وقوعها، أي وقوعها قريب. وهذه الآية من غرائب استعمال (كاد) فيضم إلى استعمال نفيها في قوله: {وما كادوا يفعلون} في سورة البقرة (71).
وقوله {لتجزى} يتعلّق بآتِيَةٌ وما بينهما اعتراض. وهذا تعليم بحكمة جعل يوم للجزاء.
واللام في {لِتُجْزى كلُّ نَفْسٍ} متعلّق بآتِيَةٌ.
ومعنى {بِمَا تسعى} بما تعمل، فإطلاق السعي على العمل مجاز مرسل، كما تقدم في قوله: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} في سورة الإسراء (19).
وفُرع على كونها آتية وأنها مخفاة التحذيرُ من أن يصدّه عن الإيمان بها قوم لا يؤمنون بوقوعها اغتراراً بتأخر ظهورها، فالتفريع على قوله {أكاد أُخفيها} أوقع لأنّ ذلك الإخفاء هو الذي يُشبّه به الذين أنكروا البعث على الناس، قال تعالى: {فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً} [الإسراء: 51] وقال: {وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والنقطة الأُخرى: إِنّ علّة إِخفاء تاريخ القيامة حسب الآية، هي: (لتجزى كل نفس بما تسعى) وبتعبير آخر: فإِنّ كون الساعة مخفية سيوجد نوعاً من حرية العمل للجميع. ومن جهة أُخرى فإِن وقتها لما لم يكن معلوماً بدقة، ويحتمل أن يكون في أي وقت وساعة، فإِنّ نتيجة هذا الخفاء هي حالة الاستعداد الدائم والتقبل السريع للبرامج التربوية، كما قالوا في فلسفة إِخفاء ليلة القدر: إِن المراد أن يحيى الناس كل ليالي السنة، أو كل ليالي شهر رمضان المبارك، ويتوجهوا إِلى الله سبحانه.