فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ} (15)

وجملة { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ } تعليل لما قبلها من الأمر ، أي إن الساعة التي هي وقت الحساب والعقاب آتية ، فاعمل الخير من عبادة الله والصلاة .

ومعنى { أَكَادُ أُخْفِيهَا } : مختلف فيه . قال الواحدي : قال أكثر المفسرين : أخفيها من نفسي ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة . وقال المبرد وقطرب : هذا على عادة مخاطبة العرب يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء : كتمته حتى من نفسي ، أي لم أطلع عليه أحداً ؛ ومعنى الآية : أن الله بالغ في إخفاء الساعة ، فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب . وقد روي عن سعيد بن جبير أنه قرأ : «أخفيها » بفتح الهمزة ، ومعناه : أظهرها . وكذا روى أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وفاء بن إياس عن سعيد ابن جبير . قال النحاس : وليس لهذه الرواية طريق غير هذا . قال القرطبي : وكذا رواه ابن الأنباري في كتاب الردّ قال : حدّثني أبي ، حدّثنا محمد بن الجهم ، حدثنا الفراء حدثنا الكسائي فذكره . قال النحاس : وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ { أخفيها } بضم الهمزة . قال ابن الأنباري : قال الفراء : ومعنى قراءة الفتح : أكاد أظهرها ، من خفيت الشيء : إذا أظهرته أخفيه . قال القرطبي : وقد قال بعض اللغويين : يجوز أن يكون { أخفيها } بضم الألف معناه : أظهرها ؛ لأنه يقال : خفيت الشيء وأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار . قال أبو عبيدة : خفيت وأخفيت بمعنى واحد . قال النحاس : وهذا حسن ، وقد أنشد الفراء وسيبويه ما يدل على أن معنى أخفاه أظهر ، وذلك قول امرئ القيس :

فإن تكتموا الداء لا نخفه *** وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

أي : وإن تكتموا الداء لا نظهره . وقد حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنه بضم النون من نخفه ، وقال : امرؤ القيس :

خفاهن من أنفاقهن كأنما *** خفاهن ودق من عشي مُخَلَب

أي أظهرهن . وقد زيف النحاس هذا القول وقال : ليس المعنى على أظهرها ، ولا سيما و«أخفيها » قراءة شاذة ، فكيف تردّ القراءة الصحيحة الشائعة . وقال ابن الأنباري : في الآية تفسير آخر ، وهو أن الكلام ينقطع على : { أكاد } وبعده مضمر ، أي أكاد آتي بها ، ووقع الابتداء بأخفيها لتجزى كل نفس بما [ تسعى ] ، ومثله قول عمير بن ضابيء البرجمي :

هممت ولم أفعل وكدت وليتني *** تركت على عثمان تبكي حلائله

أي وكدت أفعل . واختار هذا النحاس . وقال أبو عليّ الفارسي : هو من باب السلب وليس من الأضداد ، ومعنى أخفيها : أزيل عنها خفاءها ، وهو سترها ، ومن هذا قولهم : أشكيته ، أي أزلت شكواه . وحكى أبو حاتم عن الأخفش أن أكاد زائدة للتأكيد ، قال : ومثله { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] ، ومثله قول الشاعر :

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه *** فما أن يكاد قرنه يتنفس

قال : والمعنى : أكاد أخفيها ؛ أي أقارب ذلك ، لأنك إذا قلت : كاد زيد يقوم ، جاز أن يكون قام وأن يكون لم يقم ، ودلّ على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا . وقوله : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } متعلق بآتية ، أو بأخفيها ، و«ما » مصدرية ، أي لتجزى كل نفس بسعيها . والسعي وإن كان ظاهراً في الأفعال ، فهو هنا يعمّ الأفعال والتروك ؛ للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به .

/خ16