قوله تعالى{[23470]} : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } .
( لمَّا خاطب موسى عليه السلام بقوله : { فَاعْبُدْنِي وَأَقِم الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } أتبعُه بقوله : { إنَّ السَّاعَة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيَها }{[23471]} ، وما أليق هذا بتأويل من تأوّل{[23472]} قوله : { لِذِكْرِي } أي لأذكرك بالإثابة والكرامة فقال عقيب ذلك { إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ } لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ، ثم قال : { أَكَادُ أُخْفِيَهَا }{[23473]} . العامة على ضم الهمزة من " أَخْفِيَها " {[23474]} .
أحدها : أن الهمزة في " أُخْفِيهَا " للسلب والإزالة ، أي : أزيل خفاءها نحو : أَعْجَمْتُ الكتابَ أي : أزلت عجمتَه ، وأشكيتُه أي أزلت شكواه{[23475]} ، ثم في ذلك معينان :
أحدهما : أن الخفاءَ بمعنى ( الستر{[23476]} ){[23477]} ، ومتى أزال سترها فقد أظهرها ، والمعنى : أنها لتحقّق وقوعها وقربها{[23478]} أكاد أظهرها لولا ما تقتضيه الحكمة من التأخير .
والثاني : أن الخفاءَ هو الظهور{[23479]} كما سيأتي ، والمعنى : أزيل ظهورها ، وإذا{[23480]} أزال ظهورها فقد استترت ، والمعنى : أن{[23481]} لشدّة إبهامها أكادُ أخفيهَا فلا أظهرها ألبتة وإن كان لا بد من إظهارها ، ولذلك{[23482]} يوجد في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ : " أَكَادُ أُخْفِيَهَا من{[23483]} نفسي فكيف أظهركم عليها " {[23484]} وهو على عادة العرب في المبالغة في الإخفاء ، قال الشاعر :
أَيَّامَ تَصْحَبُنِي هِنْدٌ وَأُخْبِرُهَا *** مَا كِدْتُ أَكْتُمُهُ عَنِّي مِنَ الخَبَرِ{[23485]}
وكيف يتصوّر كتمانه من نفسه ؟ قال القاضي : هذا بعيد ، لأن الإخفاء إنما يصح ممن يصح له الإظهار{[23486]} ، وذلك{[23487]} مستحيل عليه تعالى ، لأن كلَّ معلومٍ له ، فالإظهار والإسرار فيه مستحيل . ويمكن أن يُجاب بأن ذلك واقع على التقدير ، بمعنى لو صح مني{[23488]} إخفاؤه عن{[23489]} نفس أخفيته{[23490]} عني ، والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه يمتنع أن يذكر على هذا التقدير ، مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه{[23491]} .
والتأويل الثاني : أن ( كَادَ ){[23492]} زائدة{[23493]} قاله ابن جبير{[23494]} ، وأنشد غيره{[23495]} شاهداً عليه قول زيد الخيل{[23496]} :
سَريعٌ إلَى الهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلاَحَهُ *** فَمَا إنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ{[23497]}
وَأَنْ لا أَلُومُ النَّفْسَ مِمَّا{[23498]} أَصَابَنِي *** وَأَنْ لاَ أَكَادُ بالَّذِي نِلْتُ أنْجَحُ{[23499]}
ولا حجة في شيء منه{[23500]} .
والتأويل الثالث : أنَّ الكيدَ ورد بمعنى الإرادة ، قاله الأخفش{[23501]} وجماعة ، وهو قول أبي مسلم{[23502]} ، فهو{[23503]} كقوله : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }{[23504]} ومن أمثالهم المتداولة " لا أفْعَلُ ذَلِكَ وَلا أَكَادُ{[23505]} .
أي : لا أُريد أَنْ{[23506]} أفعله{[23507]} ، وهذا ){[23508]} لا ينفع فيما قصدوه .
التأويل{[23509]} الرابع : أنَّ خبرها محذوف ، تقديره : أكادُ آتِي بها لقُرْبِها{[23510]} ، وأنشدوا{[23511]} قول ضابئ{[23512]} البرجمي{[23513]} :
هَمسْتُ وَلَمْ{[23514]} أفْعَلْ وكِدْتُ{[23515]} وَلَيْتَنِي *** تَرَكْتُ عَلى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلاَئِلُهُ{[23516]}
أي : وكدت أفعل . فالوقف على " أَكَادُ " والابتداء ب " أُخْفِيَها " ، واستحسنه أبو جعفر{[23517]} .
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً : فقال : إنَّ ( كادَ ) نفيه إثبات وإثباته نفي{[23518]} ، قال تعالى : " وَمَا كَادُوا{[23519]} يَفْعَلُون " {[23520]} ، أي : ففعلوا ذلك{[23521]} ، فقوله{[23522]} : { أكَادَ أُخْفِيَها } يقتضي أنه ما أخفاها .
أحدهما : لقوله تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة }{[23523]} .
الثاني : إنَّ قوله{[23524]} : { لتجزى{[23525]} كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار . ثم أجاب بوجوه :
الأول : أنَّ " كَادَ " موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات ، فقوله : { أَكَادُ أُخْفِيها } معناه : قرب الأمر فيه من الإخفاء . وأمَّا أنَّه هل{[23526]} حصل ذلك أو ما حصل فهو غير مستفاد من اللفظ بل بقرينة قوله : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار .
الثاني : أنَّ ( كَادَ ) من الله : وجب ، فمعنى قوله : { أَكَادُ أُخْفِيَها } أي : أنا أُخْفِيها عن الخلق ، كقوله : { عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً }{[23527]} أي هو{[23528]} قريبٌ قاله الحسن{[23529]} . وذكر باقي{[23530]} التأويلات المتقدمة{[23531]} .
وقرأ أبُو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد : " أَخْفِيَها " بفتح الهمزة{[23532]} والمعنى : أظهرها بالتأويل المتقدم{[23533]} ، يقال : خَفَيْتُ الشيء{[23534]} : أظهرتُه وأخفيتُه سترتُه{[23535]} هذا هو المشهور وقد نقل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنى{[23536]} . وحكى عن أبي عبيد{[23537]} أَنَّ أخْفَى من الأضداد يكون بمعنى أظْهَرَ{[23538]} وبمعنى سَتَرَ . وعلى هذا تتخذ ( القراءتان{[23539]} ){[23540]} . ومن مجِيء خَفَيْتُ بمعنى أظهرت قول امرئ القيس :
خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ{[23541]} كَأَنَّمَا *** خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عِشِيٍّ{[23542]} مُجْلِّبِ{[23543]}
فَإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لاَ نُخْفِهِ *** وَإنْ تُوقِدُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ{[23544]} ){[23545]}
قال الزجاج : وهذه القراءة أبْيَنُ ، لأن معناها : أكادُ أَظْهِرُها{[23546]} ( فيفيد أنه قد أخفاها ){[23547]} . والحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت : أنَّ الله تعالى وعد قبلها التوبة عند قربهما{[23548]} ، فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى وقت{[23549]} قرب ذلك الوقت{[23550]} ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية ، فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل معصية وهو لا يجوز{[23551]} . قوله : { لِتُجْزَى } هذه لام كي{[23552]} ، وليست بمعنى{[23553]} القسم{[23554]} أي : لِتُجْزَيَّن كما نقله أبو البقاء عن بعضهم{[23555]} ، وتتعلق هذه اللامِ بأُخْفِيها{[23556]} . وجعلها{[23557]} بعضهم متعلقة ب ( آتِيَةٌ ){[23558]} ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت أن " أكَادُ أُخْفِيِهَا " معترضة بين المتعلق والمتعلق به ، أما إذا جعلتها صفة ( آتِيَةٌ ) فلا يتم على مذهب البصريين ، لأن اسم{[23559]} الفاعل متى{[23560]} وصف لم يعمل فإن عمل ثم وصف جاز{[23561]} .
وقال أبو البقاء : وقيل : ب ( آتِيَةٌ ) ، ولذلك{[23562]} وقف بعضهم على ذلك{[23563]} وقفة يسيرة{[23564]} إيذاناً بانفصالها عن ( أخفيها ){[23565]} {[23566]} .
قوله : { بِمَا تَسْعَى } متعلق ب " لِتُجْزَى " {[23567]} . و " مَا " يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة اسمية{[23568]} ، ولا بد من مضاف ، أي : لِتُجْزَى بعقاب سعيها ، أو : بعقاب ما سعته .
لمَّا حكم بمجيء الساعة ذكرَ الدليلَ عليه ، وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي ، وهو المعنيُّ بقوله :
{ أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار{[23569]} }{[23570]} .
واحتجت المعتزلة بهذه الآية{[23571]} على أن الثواب مستحق على العمل ، لأن ( الباءَ ) للإلصاق ، فقوله : { بِمَا تَسْعَى } يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء{[23572]} هو ذلك السعي{[23573]} واحتجوا بها أيضاً على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى ، لأن الآية صريحة{[23574]} في إثبات سعي العبد ، ولو{[23575]} كان الفعل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة " {[23576]} .