البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ} (15)

ولما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وإقامة الصلاة ذكر الحامل على ذلك وهو البعث والمعاد للجزاء فقال { إن الساعة آتية } وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان وجزاء ذلك إما ثواباً وإما عقاباً .

وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد أَخْفِيها بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم بمعنى أظهرها أي إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر ، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب : خفيت الشيء أي أظهرته .

وقال الشاعر :

خفاهن من إيقانهن كأنما *** خفاهن ودق من عشي مجلب

وقال آخر :

فإن تدفنوا الداء لا نخفه ***وإن توقدوا الحرب لا نقعد

ولام { لتجزَى } على هذه القراءة متعلقة بأخفيها أي أظهرها { لتجزَى } كل نفس .

وقرأ الجمهور { أُخْفِيها } بضم الهمزة وهو مضارع أخفي بمعنى ستر ، والهمزة هنا للإزالة أي أزلت الخفاء وهو الظهور ، وإذا أزلت الظهور صار للستر كقولك : أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة .

وقال أبو علي : هذا من باب السلب ومعناه ، أزيل عنها خفاءها وهو سترها ، واللام على قراءة الجمهور .

قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال { إن الساعة آتية } لنجزي انتهى ، ولا يتم ذلك إلاّ إذا قدرنا { أكاد أخفيها } جملة اعتراضية ، فإن جعلتها في موضع الصفة لآتية فلا يجوز ذلك على رأي البصريين لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذ معموله .

وقيل : { أخفيها } بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان ، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر .

قال أبو عبيدة : خفيت وأخفيت بمعنى واحد وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و { أكاد } من أفعال المقاربة لكنها مجاز هنا ، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ في إبهام وقتها فقال { أكاد أخفيها } حتى لا تظهر ألبتة ، ولكن لا بد من ظهورها .

وقالت فرقة { أكاد } بمعنى أريد ، فالمعنى أريد إخفاءها وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم .

قال أبو مسلم : ومن أمثالهم لا أفعل ذلك : ولا أكاد أي لا أريد أن أفعله .

وقالت فرقة : خبر كاد محذوف تقديره { أكاد } أتى بها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابيء البرجمي :

هممت ولم أفعل وكدت وليتني *** تركت على عثمان تبكي حلائله

أي وكدت أفعل .

وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها واختاره النحاس .

وقالت فرقة : معناه { أكاد أخفيها } من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن ابن عباس .

ولما رأى بعضهم قلق هذا القول قال معنى من نفسي : من تلقائي ومن عندي .

وقالت فرقة { أكاد } زائدة لا دخول لها في المعنى بل الإخبار أن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها ، وروي هذا المعنى عن ابن جبير ، واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى { لم يكد يراها } وبقول الشاعر وهو زيد الخيل :

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه *** فما إن يكاد قرنه يتنفس

وبقول الآخر :

وأن لا ألوم النفس مما أصابني *** وأن لا أكاد بالذي نلت أنجح

ولا حجة في شيء من هذا .

وقال الزمخشري : { أكاد أخفيها } فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها ، ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به .

وقيل : معناه { أكاد أخفيها } من نفسي ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف ، ومحذوف لا دليل عليه مطرح .

والذي غرهم منه أن في مصحف أبي { أكاد أخفيها } من نفسي وفي بعض المصاحف { أكاد أخفيها } من نفسي فكيف أظهركم عليها انتهى .

ورويت هذه الزيادة أيضاً عن أُبَيّ ذكر ذلك ابن خالويه .

وفي مصحف عبد الله { أكاد أخفيها } من نفسي فكيف يعلمها مخلوق .

وفي بعض القراءات وكيف أظهرها لكم وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال : كدت أخفيه من نفسي ، والله تعالى لا يخفى عليه شيء قال معناه قطرب وغيره .

وقال الشاعر : . . .

أيام تصحبني هند وأخبرها *** ما كدت أكتمه عني من الخبر

وكيف يكتم من نفسه ومن نحو هذا من المبالغة ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، والضمير في { أخفيها } عائد على { الساعة } و { الساعة } يوم القيامة بلا خلاف ، والسعي هنا العمل .

والظاهر أن الضمير في { عنها } و { بها } عائد على الساعة .

وقيل : على الصلاة .

وقيل { عنها } عن الصلاة و { بها } أي بالساعة ، وأبعد جداً من ذهب إلى أن الضمير في { عنها } يعود على ما تقدم من كلمة { لا إله إلاّ أنا فاعبدني } .