قوله تعالى : { واقصد في مشيك } أي : ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً . وقال عطاء : امش بالوقار والسكينة ، كقوله : { يمشون على الأرض هوناً } { واغضض من صوتك } انقص من صوتك ، وقال مقاتل : اخفض من صوتك ، { إن أنكر الأصوات } أقبح الأصوات ، { لصوت الحمير } أوله زفير وآخره شهيق ، وهما صوتا أهل النار . وقال موسى بن أعين : سمعت سفيان الثوري يقول في قوله : { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } قال : صياح كل شيء تسبيح لله إلا الحمار . وقول جعفر الصادق في قوله : { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } قال : هي العطسة القبيحة المنكرة . قال وهب : تكلم لقمان باثني عشر ألف باب من الحكمة ، أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم ومن حكمه : قال خالد الربيعي : كان لقمان عبداً حبشياً فدفع مولاه إليه شاة وقال : اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها ، فأتاه باللسان والقلب ، ثم دفع إليه شاة أخرى ، وقال : اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب ، فسأله مولاه ، فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا .
وقوله : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي : امش مشيًا مقتصدا ليس بالبطيء المتثبط ، ولا بالسريع المفرط ، بل عدلا وسطًا بين بين .
وقوله : { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } أي : لا تبالغ في الكلام ، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } قال مجاهد وغير واحد : إن أقبح الأصوات لصوت الحمير ، أي : غاية مَنْ رفع صوته أنه يُشَبه بالحمير في علوه ورفعه ، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى . وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه » .
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، {[22973]} عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[22974]} ( 10 ) قال : «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله ، وإذا سمعتم نهيق الحمير{[22975]} فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت شيطانًا » .
وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجه ، من طرق ، عن جعفر بن ربيعة به ، {[22976]} وفي بعض الألفاظ : " بالليل " ، فالله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } .
يقول : وتواضع في مشيك إذا مشيت ، ولا تستكبر ، ولا تستعجل ، ولكن اتئد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أن منهم من قال : أمره بالتواضع في مشيه ، ومنهم من قال : أمره بترك السرعة فيه . ذكر من قال : أمره بالتواضع في مشيه :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ قال : التواضع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ قال : نهاه عن الخيلاء . ذكر من قال : نهاه عن السرعة :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عبد الله بن عقبة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، في قوله : وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ قال : من السرعة .
قوله : وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ يقول : واخفض من صوتك ، فاجعله قصدا إذا تكلمت ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ قال : أمره بالاقتصاد في صوته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ قال : أخفض من صوتك .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ فقال بعضهم : معناه : إن أقبح الأصوات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة وأبان بن تغلب ، قالا : حدثنا أبو معاوية عن جُوَيبر ، عن الضحاك إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ قال : إن أقبح الأصوات لَصَوْتُ الحَمِيرِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ أي أقبح الأصوات لصوت الحمير ، أوّله زفير ، وآخره شهيق أمره بالاقتصاد في صوته .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت الأعمش يقول : إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ صوت الحمير .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن أشرّ الأصوات . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن يحيى بن واضح ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة والحكم بن عُتيبة إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ قال : أشرّ الأصوات .
قال جابر : وقال الحسن بن مسلم : أشدّ الأصوات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ قال : لو كان رفع الصوت هو خيرا ما جعله للحمير .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : إن أقبح أو أشرّ الأصوات ، وذلك نظير قولهم ، إذا رأوا وجها قبيحا ، أو منظرا شنيعا : ما أنكر وجه فلان ، وما أنكر منظره .
وأما قوله : لَصَوْتُ الحَمِيرِ فأضيف الصوت وهو واحد إلى الحمير وهي جماعة ، فإن ذلك لوجهين إن شئت ، قلت : الصوت بمعنى الجمع ، كما قيل لَذَهَبَ بسَمْعهمْ وإن شئت قلت : معنى الحمير : معنى الواحد ، لأن الواحد في مثل هذا الموضع يؤدّي عما يؤدّي عنه الجمع .
ولما نهاه عن الخلق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله من القصد في المشي وهو أن لا يتخرق في إسراع ولا يواني في إبطاء وتضاؤل على نحو ما قال القائل : [ مجزوء الرمل ]
كلنا نمشي رويد . . . كلنا يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد{[9374]} . . . وأن لا يمشي مختالاً متبختراً ونحو هذا مما ليس في قصد ، و «غض الصوت » أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه ، ثم عارض ممثلاً بصوت الحمير على جهة التشبيه ، أي تلك هي التي بعدت عن الغض فهي أنكر الأصوات ، فكذلك كل ما بعد عن الغض من أصوات البشر فهو في طريق تلك وفي الحديث :«إذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً »{[9375]} ، وقال سفيان الثوري : صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير ، وقال عطاء : صياح الحمير دعاء على الظلمة ، و { أنكر } معناه أقبح وأخشن ، و { أنكر } عبارة تجمع المذام اللاحقة للصوت الجهير ، وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت الجهير على خلق الجاهلية ومنه قول الشاعر يمدح آخر : [ المتقارب ]
جهير الكلام جهير العطاس . . . جهير الرواء جهير النعم
ويعدو على الأين عدو الظليم . . . ويعلو الرجال بخلق عمم{[9376]}
فنهى الله تعالى عن هذه الخلق الجاهلية ، وقوله { لصوت الحمير } أراد ب «الصوت » اسم الجنس ، ولذلك جاء مفرداً ، وقرأ ابن أبي عبلة «أنكر الأصوات أصوات الحمير » بالجمع في الثاني دون لام ، والغض رد طمحان الشيء كالنظر وزمام الناقة والصوت وغير ذلك .
بعد أن بيّن له آداب حسن المعاملة مع الناس قفَّاها بحسن الآداب في حالته الخاصة ، وتلك حالتا المشي والتكلم ، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه .
والقصد : الوسط العَدل بين طرفين ، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال : قصد في مشيه . فمعنى { اقْصِدْ في مشيك } : ارتكب القصد .
والغَضُّ : نقص قوة استعمال الشيء . يقال : غَضَّ بصره ، إذا خفَّض نظره فلم يحدّق . وتقدم قوله تعالى { قل للمؤمنين يغُضُّوا من أبصارهم } في سورة النور ( 30 ) . فغض الصوت : جعله دون الجهر . وجيء ب { مِن } الدالة على التبعيض لإفادة أنه يغض بعضه ، أي بعضَ جهره ، أي ينقص من جُهُورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار .
وجملة { إن أنكر الأصوات لصوتُ الحمير } تعليل علل به الأمر بالغض من صوته باعتبارها متضمنة تشبيهاً بليغاً ، أي لأن صوت الحمير أنكر الأصوات . ورفع الصوت في الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة .
و { أنكَر : } اسم تفضيل في كون الصوت منكوراً ، فهو تفضيل مشتق من الفعل المبني للمجهول ومثله سماعي وغيرُ شاذ ، ومنه قولهم في المثل : « أشغل من ذات النِّحْيَيْنِ » أي أشد مشغولية من المرأة التي أُريدت في هذا المثل .
وإنما جمع { الحمير } في نظم القرآن مع أن { صوت } مفرداً ولم يقل الحمار لأن المعرف بلام الجنس يستوي مفرده وجمعُه . ولذلك يقال : إن لام الجنس إذا دخلتْ على جَمع أبطلت منه معنى الجَمْعِيَّة . وإنما أوثر لفظ الجمع لأن كلمة الحمير أسعد بالفواصل لأن من محاسن الفواصل والأسجاع أن تجري على أحكام القوافي ، والقافية المؤسسة بالواو أو الياء لا يجوز أن يرد معها ألف تأسيس فإن الفواصل المتقدمة من قوله { ولقد ءاتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] هي : حميد ، عظيم ، المصير ، خبير ، الأمور ، فخور ، الحمير . وفواصل القرآن تعتمد كثيراً على الحركات والمُدود والصيغ دون تماثل الحروف وبذلك تخالف قوافي القصائد . وهذا وفاء بما وعدتُ به عند الكلام على قوله تعالى { ولقد ءاتينا لقمان الحكمة } من ذكر ما انتهى إليه تتبعي لما أُثِر من حِكمة لقمان غير ما في هذه السورة وقد ذكر الألوسي في « تفسيره » منها ثمانياً وعشرين حكمة وهي :
قوله لابنه : أي بني ، إن الدنيا بحر عميق ، وقد غرق فيها أناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى ، وحِشوها الإيمان ، وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجياً .
وقوله : من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عز وجل حافظ ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزاً ، والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية .
وقوله : ضَرْبُ الوالد لولده كالسماد للزرع .
وقوله : يا بني إياك والدَّين فإنه ذل النهار وَهَمُّ الليل .
وقوله : يا بني ارجُ الله عز وجل رجاء لا يجرِّئك على معصيته تعالى ، وخَففِ الله سبحانه خوفاً لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه .
وقوله : من كَذب ذهب ماء وجهه ، ومَن ساء خلُقُه كثُر غمُّه ، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم .
وقوله : يا بني حَملْتُ الجندل والحديد وكلَّ شيء ثقيل فلم أحمل شيئاً هو أثقل من جار السوء ، وذقت المِرار فلم أذق شيئاً هو أمرّ من الفقر .
يا بني لا تُرسِلْ رسولك جاهلاً فإن لم تجد حكيماً فكن رسولَ نفسك .
يا بني ، إياك والكذب ، فإنه شَهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه .
يا بني ، احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا .
يا بني ، لا تأكل شِبَعاً على شِبَع فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله .
يا بني ، لا تكُن حُلواً فتُبلَعَ ولا تكن مُرّاً فتُلْفَظ .
وقوله لابنه : لا يأكل طعامك إلاَّ الأتقياء ، وشاور في أمرك العلماء .
وقوله : لا خير لك في أن تتعلمَ ما لم تَعْلَم ولَمّا تعملْ بما قد علمت فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطباً فحمل حُزْمَة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى .
وقوله : يا بني ، إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذَره .
وقوله : لتكن كلمتك طيبة ، وليكن وجهك بسطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء .
وقوله : يا بني ، أنْزِل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بدّ لك منه .
يا بنيّ ، كن كمن لا يبتغي محمدَة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء والناس منه في راحة .
وقوله : يا بني ، امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكتَّ سالم ، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك .
وأنا أقفّي عليها ما لم يذكره الألوسي . فمن ذلك ما في « الموطأ » فيما جاء في طلب العلم من كتاب « الجامع » : مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال : يا بني ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء . وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب « الجامع » أنه بلغه أنه قيل للقمان : ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل ؟ فقال : صدقُ الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعْنيني .
وفي « جامع المستخرجة » للعتبي قال مالك : بلغني أن لقمان قال لابنه : يا بُني ليكنْ أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأةً صالحة . وفي « أحكام القرآن » لابن العربي عن مالك : أن لقمان قال لابنه : يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراعاً يذهبون ، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنتَ واستقبلتَ الآخرة ، وإن داراً تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها .
وقال : ليس غنى كصحة ، ولا نعمة كطِيب نفْس . وقال : يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبَك معهم ، وقال : يا بني ، جالس العلماء ومَاشِهِم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم . وفي « الكشاف » : أنه قال لرجل ينظر إليه : إن كنتَ تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وإن كنتَ تراني أسود فقلبي أبيض . وأن مولاه أمره بذبحِ شاة وأن يأتيه بأطيب مضغتين فأتاه باللسان والقلب ، ثم أمره بذبح أخرى وأنْ ألْققِ منها أخبث مضغتين ، فألقى اللسان والقلب ؛ فسأله عن ذلك ، فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا .
ودخل على داود وهو يسرد الدروع فأراد أن يسأله عماذا يصنع ، فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها داود لَبِسها وقال : نِعم لَبُوس الحرب أنتِ . فقال لقمان : الصمتُ حكمة وقليل فاعله . وفي « تفسير ابن عطية » : قيل للقمان : أيّ الناس شرّ ؟ فقال : الذي لا يبالي أن يراه الناس سيِّئاً أو مسيئاً .
وفي « تفسير القرطبي » : كان لقمان يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى . فقيل له ، فقال : ألا أكتفِي إذا كُفِيتُ . وفيه : إن الحاكم بأشدّ المنازل وكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إنْ يصبْ فبالحريِّ أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة . ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً . ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتْه الدنيا ولا يُصب الآخرة . وفي « تفسير البيضاوي » : أن داود سأل لقمان : كيف أصبحتَ ؟ فقال : أصبحت في يَديْ غيري . وفي « درة التنزيل » المنسوب لفخر الدين الرازي : قال لقمان لابنه : إن الله رَضيني لك فلم يُوصني بكَ ولم يرضَك لي فأوصاك بي . وفي « الشفاء » لعياض : قال لقمان لابنه : إذا امتلأتْ المَعِدة نامت الفِكْرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة .
وفي كتاب « آداب النكاح » لقاسم بن يأمون التليدي الأخماسي{[324]} : أن من وصية لقمان : يا بني إنما مَثَل المرأة الصالحة كمثَل الدهن في الرأس يُليِّن العروق ويحسن الشعر ، ومَثَلها كمثل التاج على رأس الملك ، ومثلها كمثَل اللؤلؤ والجوهر لا يدري أحد ما قيمته . ومثَل المرأة السوء كمثل السَّيْل لا ينتهي حتى يبلغ منتهاه : إذا تكلمتْ أسمعت ، وإذا مشت أسرعت ، وإذا قعدت رفعت ، وإذا غضبت أسمعت . وكل داء يبرأ إلاَّ داء امرأة السوء .
يا بني ، لأن تساكن الأسد والأسْوَد{[325]} خير من أن تساكنها : تبكي وهي الظالمة ، وتحكم وهي الجائرة ، وتنطق وهي الجاهلة وهي أفعى بلدغها .
وفي « مجمع البيان » للطبرسي : يا بني ، سافر بسيفك وخُفّك وعمامتك وخبائك وسِقائك وخيوطك ومخرزك ، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك ، وكن لأصحابك موافقاً إلا في معصية الله عز وجل .
يا بني ، إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم ، وأكثر التبسم في وجوههم ، وكن كريماً على زادك بينهم ، فإذا دعوك فأجبهم ، وإذا استعانوا بك فأعِنْهم ، واستعمِل طول الصمت وكثرة الصلاة ، وسَخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد ، وإذا استشهدوك على الحق فاشهَد لهم ، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك ، ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر ، ولا تُجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته ، فإن من لم يمحض النصيحة من استشارة سلبه الله رأيه ، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم ، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم ، واسمع لمن هو أكبر منك سنّاً . وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئاً فقل نعم ولا تقل ( لا ) فإن ( لا ) عِيٌّ ولؤم ، وإذا تحيرتم في الطريق فأنزلوا ، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا ، وإذا رأيتم شخصاً واحداً فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه فإن الشخص الواحد في الفلاة مُريب لعله يكون عين اللصوص أو يكون هو الشيطان الذي حيّركم . واحذروا الشخصين أيضاً إلا أن تروا ما لا أرى لأن العاقِل إذا أبصر بعينه شيئاً عرف الحق منه والشاهد يرى ما لا يرى الغائب .
يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء ، صلِّها واسترح منها فإنها دَين ، وصلِّ في جماعة ولو على رأس زَجّ . وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لوناً وألينها تربة وأكثرها عشباً . وإذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس ، وإذا أردت قضاء حاجتك فأبْعِد المذهب في الأرض . وإذا ارتحلت فصلّ ركعتين ثم ودّع الأرض التي حللتَ بها وسلّم على أهلها فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة ، وإن استطعت أن لا تأكل طعاماً حتى تبتدىء فتتصدق منه فافعل . وعليك بقراءة كتاب الله لعله يعني الزبور ما دمت راكباً ، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملاً عملاً ، وعليك بالدعاء ما دمت خالياً . وإياك والسير في أول الليل إلى آخره . وإياك ورفع الصوت في مسيرك . فقد استقصينا ما وجدنا من حكمة لقمان مما يقارب سبعين حكمة .