اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ} (19)

قوله : «واقْصِدْ » ( هذا قاصر{[42490]} ) بمعنى اقْتَصِدْ واسلُك الطريقة الوسطى بين ذلك قَوَاماً أي ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً{[42491]} . وقال عطاء : امشِ بالوَقَار والسكينة لقوله : { يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] .

( وقرئ ){[42492]} «وأَقْصِدْ » بهمزة قطعٍ من أَقْصَدَ إذا سَدَّدَ{[42493]} سهمه للرَّمْيَةِ .

قوله : { واغضض مِن صَوْتِكَ } من تَبْعيضيَّه ، وعند الأخفش يجوز أن تكون زائدة{[42494]} ، ويؤيده قوله { يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ } [ الحجرات : 3 ] . وقيل : «من صوتك » صفة لموصوف محذوف أي شيئاً من{[42495]} صوتك ، وكان{[42496]} الجاهلية يتمدحون برفع الصوت ، قال : [ من المتقارب ] :

4052 - جَهِيزَ الكَلاَمِ جَهِيرَ العُطَاسِ *** جَهِيرَ الرُّوَاءِ جَهِيرَ النّعَمْ{[42497]}

والمعنى أَنْقِصْ من صوتك ، وقال مقاتل : اخفض من صوتك .

فإن قيل : لِمَ ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي ؟ .

فالجواب : أن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصِّمَاخ{[42498]} بقوته ، وربما يخرقُ الغِشَاء الذي داخل الأذن ، وأما سرعة المشيء فلا تؤذي وإن أذت فلا يؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن اللمس يؤذي آلة اللمس والصوت يؤذي آلة السمع ، وآلة السمع على باب القلب فإن الكلامَ ينتقلُ من السمع إلى القلب ولا كذلك اللمس وأيضاً فلأن قبيحَ القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان تَرْجُمانُ القلب{[42499]} .

قوله : «إِنَّ أَنْكَرَ » قيل : أنكر مبنيٌّ من مبنيٍّ للمفعول نحو : «أشْغَلُ منْ ذَاتِ النّحْْيَيْنِ »{[42500]} ، وهو مختلف فيه{[42501]} ووحد «صوت » لأنه يراد به الجنس ولإضافته لجمع ، وقيل : يحتمل أن يكون «أنكر » من باب «أطوع له من بنانه » ومعناه أشدّ طاعةً{[42502]} . فإن «أفْعَلَ » لا يجيء ( في{[42503]} ) «مُفْعَل »{[42504]} ولا في «مفْعُول »{[42505]} ولا في باب العيوب{[42506]} إلا ما شَذَّ كقولهم{[42507]} : «أَطْوَعُ مِنْ كَذَا »{[42508]} للتفضيل على المُطِيع و «أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْن »{[42509]} و «أحْمَقُ{[42510]} ( مِنْ فُلانُ{[42511]} » ) من باب العيوب{[42512]} ، وعلى هذا فهو من باب «أفعل »{[42513]} كأَشْغَلَ في باب مَفْعُولٍ{[42514]} فيكون للتفضيل على المنكر . أو نقول هو من باب «أَشْغَل » مأخوذ من نُكِرَ الشيءُ فهو مَنْكُورٌ ، وهذا أنْكَرُ مِنْه ، وعلى هذا فله معنى لطيف وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته{[42515]} بأنه يصيح من ثِقَل أو تعب كالبَعير أو لغير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهقُ بصوتٍ مُنْكَر ( فيمكن{[42516]} ) أن يقال : هو من نكير كأَحَدَّ من حَدِيدٍ{[42517]} .

فإن قيل : كيف يفهم كونه أنكر الأصوات مع أن حزَّ المِنْشَار بالمبرد ودق النحاس بالحديد أشد صوتاً ؟ ! .

فالجواب من وجهين :

الأول : أن المراد أنكر أصوات الحيوانات صوتاً الحميرُ فلا يَردُ السؤال .

الثاني : أن الآمر بمصلحة وعبادة لا ينكر صوته بخلاف صوت ( الحمير ){[42518]} .

فصل :

قال مقاتل : اخْفِضْ مِنْ صوتك { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات } أقبح الأصوات { لَصَوْتُ الحمير } أوله زَفيرٌ ، وآخره شهيقٌ وهما صوت ( أهل{[42519]} النار ) وقال موسى بن أعين{[42520]} سمعت سفيان الثوري يقول في قوله تعالى : { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } قال صياح كل شيء تسبيح{[42521]} لله تعالى إلا الحمار وقال جعفر{[42522]} الصادق في قوله تعالى : { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير } قال : هي العطسة{[42523]} القبيحة المنكرة ، قال وهب تكلم لقمان اثْنَي عشَرَ ألْف كلمةٍ من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم ومن حكمه : قال خالد الربعي{[42524]} كان لقمان عبداً حبشياً فدفع ( له ) مولاه إليه شاة فقال اذبحها فأتِنِي{[42525]} بأطيبِ مُضْغَتَيْنِ مِنْها فأتاه باللِّسان والقَلْب فسأله مولاه فقال : ليس شيء أطْيَبَ منهما إذا طابا ولا أخبثَ منهما إذا خَبُثَا .


[42490]:سقط من "ب".
[42491]:في "ب" ولا إسرافاً.
[42492]:سقطت من "ب".
[42493]:في "ب" شدد بالشين والأصح هنا والقراءة لعيسى الحجازي. انظر: الكشاف 3/234 والبحر المحيط 7/189، ومختصر ابن خالويه 117.
[42494]:نقلها السمين في الدر المصون 4/344 وأبو البقاء في التبيان 1045.
[42495]:المرجعان السابقان.
[42496]:في "ب" وكانت بتاء التأنيث.
[42497]:هذا أحد بيتين أنشدهما المبرد في كامله، والآخر هو: ويعدو على الأين عدو الظليم *** ويعلو الرجال بخلق عمم وهما لرجل مجهول يمدح خليفة العباسيين الرشيد مدحاً مبيناً في الوجه والكلام ورخامة الصوت ومهما كان الأمر فإنه هو الدائم الذي لا يتغير فلم يبال "بأين" (إعياء) أو غيره والاستشهاد بالبيت برفع الكلام في قوله "جهير الكلام". انظر: الكامل 2/163 والقرطبي 14/72 والبحر المحيط 7/189 والسراج المنير 3/190.
[42498]:هو صماخ الأذن وهو الخرق الباطن الذي يفضي إلى الرأس. وقيل: هو الأذن نفسه. اللسان [ص.م.خ].
[42499]:تفسير الفخر الرازي 25/151.
[42500]:ذكره في جمهرة الأمثال كما ذكره الميداني في مجمع الأمثال 2/184 و النّحيان مثنى (نِحْي) وهو وعاء من جلد كان يوضع فيه السّمن وذكر المؤلف هذا المثال على أن الفعل مأخوذ من مبني للمفعول "مشغول" وشغل وكذلك الآية (أنكر) من منكر "وأنكر".
[42501]:انظر: الأشموني 2/44.
[42502]:فيكون على باب التفضيل والمشاركة.
[42503]:سقطت من "ب".
[42504]:يقصد أن التفضيل يبنى من الفعل الثلاثي وأنكر فعل رباعي واسم فاعله "مُنْكِرٌ" واسم مفعوله "مُنْكَرٌ".
[42505]:يشير إلى أن الفعل الثلاثي هذا الذي يصاغ منه أفعل التفضيل لا بد أن يكون مبنياً للمعلوم لا للمجهول.
[42506]:يشير إلى أنَّ هذا الفعل يخلو من أي عيب وأحمق فيه العيب.
[42507]:في "ب" لقولهم.
[42508]:فكان على القاعدة أن نقول أشد طاعة حيث إن "أطاع" رباعي كأنكر.
[42509]:وأشغل هنا من فعل مبني للمجهول "شغلت فهي مشغولة".
[42510]:وأحمق مبني من (حمق) وهو فعل عيب.
[42511]:سقطت من "ب".
[42512]:في "ب" الصوت وهو تحريف.
[42513]:أي افعل فعلاء كأحمق حمقاء وأحمر حمراء أو باب أفعل الزائد على ثلاثة أحرف.
[42514]:أي البناء المجهول لا المعلوم.
[42515]:تفسير الفخر الرازي 25/151.
[42516]:سقطت من "ب".
[42517]:في تفسير الفخر الرازي: كأجدر من جدير.
[42518]:سقطت من "ب".
[42519]:كذلك.
[42520]:هو: موسى بن أعين الجزري أبو سعيد الحراني عن خصيف، والأعمش وجماعة وعنه: الوليد بن مسلم وغيره مات سنة 177. انظر: خلاصة الكمال 389.
[42521]:نقله القرطبي في 14/77، بلفظ "إلا نهيق الحمار".
[42522]:تقدم.
[42523]:في "ب" العطية الكبيرة وهو تحريف.
[42524]:انظر: تفسير ابن كثير 3/443.
[42525]:في "ب" وائتني.