البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ} (19)

{ واقصد في مشيك واغضض من صوتك } : ولما نهاه عن الخلق الذميم ، أمره بالخلق الكريم ، وهو القصد في المشي ، بحيث لا يبطىء ، كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون ، يتباطؤون في نقل خطواتهم المتنامسين للرياء والمتعاجب للترفع ، ولا يسرع ، كما يفعل الخرق المتهور .

ونظر أبو جعفر المنصور إلى أبي عمرو بن عبيد فقال : كلكم يمشي رويداً ، كلكم يطلب صيداً ، غير عمرو بن عبيد .

وقال ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ، ولكن مشياً بين ذلك .

وقيل : معناه : اجعل بصرك موضع قدمك .

وقرىء : وأقصد ، بهمزة القطع : أي سدد في مشيك ؛ من أقصده الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ، ونسبها ابن خالويه للحجاز .

والغض من الصوت : التنقيص من رفعه وجهارته ، والغض : رد طموح الشيء ، كالصوت والنظر والزمام .

وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت ، وتمدح به في الجاهلية ، ومنه قول الشاعر :

جهير الكلام جهير العطاس *** جهير الرواء جهير النعيم

ويخطو على الأين خطو الظليم *** ويعلو الرجال بخلق عميم

وغض الصوت أوفر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه .

وأنكر : أفعل ، إن بنى من فعل المفعول ، كقولهم : أشغل من ذات النحيين ؛ وبناؤه من ذلك شاذ .

والأصوات : أصوات الحيوان كلها .

وأنكر جماعة للمذام اللاحقة للأصوات ، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة .

شبه الرافعون أصواتهم بالحمير ، وأصواتهم بالنهاق ، ولم يؤت بأداة التشبيه ، بل أخرج مخرج الاستعارة ، وهذه أقصى مبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت .

ولما كان صوت الحمير متماثلاً في نفسه ، لا يكاد يختلف في الفظاعة ، أفرد لأنه في الأصل مصدر .

وأما أصوات الحمير فغير مختلفة جداً ، جمعت في قوله : { إن أنكر الأصوات } ، فالمعنى : أنكر أصوات الحمير ، بالجمع بغير لام .

وقال الحسن : كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات ، فرد عليهم بأنه لو كان خيراً ، فضل به الحمير .

والظاهر أن قوله : { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } من كلام لقمان لابنه ، تنفير له عن رفع الصوت ، ومماثلة الحمير في ذلك .

قيل : هو من كلام الله تعالى ، وفرغت وصية لقمان في قوله : { واغضض من صوتك } رداً لله به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ، ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة ، وربما يخرج الغشاء الذي هو داخل الأذن .

وقيل : { واقصد في مشيك } : إشارة الى الأفعال ، { واغضض من صوتك } : إشارة إلى الأقوال ، فنبه على التوسط في الأفعال ، وعلى الإقلال من فضول الكلام .