السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ} (19)

ولما كان النهي عن ذلك أمراً بضدّه قال : { واقصد } أي : اقتصد واسلك الطريق الوسطى { في مشيك } بين ذلك قواماً أي : ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً أي : بين مشيين لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار ، قال صلى الله عليه وسلم : «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن » وأمّا قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما : كان إذا مشى أسرع ، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت ، وقال عطاء : امش بالوقار والسكينة لقوله تعالى : ( يمشون على الأرض هوناً ) وعن ابن مسعود : كانوا ينهون عن وثب اليهود ودبيب النصارى ، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان ، قاله الرازي في اللوامع ، وهو المشي الهون الذي ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ، ولا بتكبر { واغضض } أي : انقص { من صوتك } لئلا يكون صوتك منكراً وتكون برفع الصوت فوق الحاجة كالأذان فهو مأمور به ، وكانت الجاهلية يتمدحون برفع الصوت قال القائل :

جهير الكلام جهير العطاس *** جهير الروى جهير النغم

وقال مقاتل : اخفض من صوتك ، فإن قيل : لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي ؟ أجيب : بأن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوته وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن ، وأما سرعة المشي فلا تؤذي وإن آذت فلا تؤذي غير من في طريقه ، والصوت يبلغ من على اليمين واليسار ولأنّ المشي يؤذي آلة المشي ، والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإنّ الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ، ولا كذلك المشي . وأيضاً فلأن قبح القول أقبح من قبح الفعل وحسنه أحسن ، لأنّ اللسان ترجمان القلب .

ولما كان رفع الصوت فوق الحاجة منكر كما أن خفضه دونها تماوت وتكبر وكان قد أشار إلى النهي عن هذا بمن فأفهم أنّ الطرفين مذمومان علل النهي عن الأوّل بقوله { إن أنكر } أي : أفظع وأبشع وأوحش { الأصوات } كلها المشتركة في المكاره برفعها فوق الحاجة ، وأخلى الكلام من لفظ التشبيه ، وأخرجه مخرج الاستعارة تصوير الصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً مبالغة في التهجين وتنبيهاً على أنه من الكراهة بمكان فقال { لصوت الحمير } أي : هذا الجنس لما له من العلو المفرط من غير حاجة فإنّ كل حيوان قد يفهم من صوته أنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو لغير ذلك ، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق بصوت أوّله زفير وآخره شهيق وهما فعل أهل النار ، وأفرد الصوت ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أنّ الاجتماع شرط في ذلك ، ولذكر الحمار مع ذلك من بلاغة الشتم والذم ما ليس لغيره ولذلك يستهجن التصريح باسمه بل يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به فيقولون الطويل الأذنين كما يكنى عن الأشياء المستقذرة وقد عد في مساوئ الأداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من ذوي المروءة من العرب من لا يركب الحمار استنكافاً ، وإن بلغت منه الرحلة ، وإنما ركبه صلى الله عليه وسلم لمخالفته عادتهم وإظهاره التواضع من نفسه ، وأمّا الرفع مع الحاجة فغير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع .

فإن قيل كيف يفهم كونه أنكر الأصوات مع أن حز المنشار بالمبرد ودق النحاس بالحديد أشد صوتاً ؟ أجيب : من وجهين : الأوّل : المراد أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد السؤال ، والثاني : أن الصوت الشديد لحاجة ومصلحة لا يستبشع ولا ينكر صوته كما مرت الإشارة إليه ، بخلاف صوت الحمير ، قال موسى بن أعين : سمعت سفيان الثوري يقول في قوله تعالى { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } قال : صياح كل شيء تسبيح لله تعالى إلا الحمار ، وقال جعفر الصادق في ذلك : هي العطسة القبيحة المنكرة ، وقال وهب : تكلم لقمان باثني عشر ألف كلمة من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم .

قال خالد الربعي : كان لقمان عبداً ومن حكمته أنه دفع إليه مولاه شاة فقال له : اذبحها وائتني بأطيب مضغتين فيها فأتاه باللسان والقلب ثم دفع إليه شاة أخرى فقال اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب فسأله مولاه فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا وقد مرت الإشارة إلى ذلك .

ومن حكمته أنه قال لابنه : يا بني لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته إلا جعلت في الضمير منك إن ذلك خير لك ، ثم قال لابنه : يا بني إن الله قد بعث نبياً هلم حتى نأتيه فنصدقه فخرج على حمار وابنه على حمار وتزودا ، ثم سارا أياماً وليالي حتى لقيتهما مفازة فأخذا أهبتها لها فدخلا فسارا ما شاء الله تعالى حتى ظهرا وقد تعالى النهار ، واشتد الحر ، ونفد الماء والزاد ، واستبطأ حماريهما فنزلا وجعلا يشتدان على سوقهما فبينما هما كذلك إذ نظر لقمان أمامه فإذا هو بسواد ودخان فقال في نفسه : السواد الشجر والدخان العمران والناس ، فبينما هما يشتدان إذ وطئ ابن لقمان على عظم ناتئ على الطريق فخر مغشياً عليه فوثب إليه لقمان وضمه إلى صدره واستخرج العظم بأسنانه ثم نظر إليه لقمان فذرفت عيناه فقال : يا أبت أنت تبكي وأنت تقول هذا خير لي وقد نفد الطعام والماء وبقيت أنا وأنت في هذا المكان فإن ذهبت وتركتني على حالي ذهبت بهم وغم ما بقيت ، وإن أقمت معي متنا جميعاً ، فقال : يا بني أمّا بكائي فرقة الوالدين ، وأمّا ما قلت كيف يكون هذا خيراً فلعل ما صرف عنك ، أعظم مما ابتليت به ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك ، ثم نظر لقمان أمامه فلم ير ذلك الدخان والسواد وإذا بشخص أقبل على فرس أبلق عليه ثياب بياض وعمامة بيضاء يمسح الهواء مسحاً فلم يزل يرمقه بعينه حتى كان منه قريباً فتوارى عنه ؛ ثم صاح به أنت لقمان قال نعم ، قال أنت الحكيم ، قال كذلك يقال : قال ما قال لك ابنك . قال : يا عبد الله من أنت ؟ أسمع كلامك ولا أرى وجهك ، قال : أنا جبريل أمرني ربي بخسف هذه القرية ومن فيها فأخبرت أنكما تريدانها فدعوت ربي أن يحبسكما عني بما شاء فحبسكما بما ابتلى به ابنك ولولا ذلك لخسفت بكما مع من خسفت ، ثم مسح جبريل عليه السلام بيده على قدم ابنه فاستوى قائماً ومسح بيده على الذي كان فيه الطعام فامتلأ طعاماً وعلى الذي كان فيه الماء فامتلأ ماء ثم حملهما وحماريهما فرحل بهما كما يرحل الطير فإذا هما في الدار التي خرجا بعد أيام وليال منها .

وعن عبد الله بن دينار أن لقمان قدم من سفر فلقي غلامه في الطريق فقال : ما فعل أبي ؟ فقال : مات . قال : الحمد لله ملكت أمري ، قال : ما فعلت أمي ؟ قال : ماتت ، قال : ذهب همي . قال : ما فعلت امرأتي ؟ قال : ماتت ، قال : جدد فراشي . قال : ما فعلت أختي ؟ قال : ماتت . قال : سترت عورتي ، قال : ما فعل أخي ؟ قال : مات ، قال : انقطع ظهري .

وعن أبي قلابة قال : قيل للقمان أي الناس أصبر ؟ قال : صبر لا معه أذى ، قيل : فأيّ الناس أعلم ؟ قال : من ازداد من علم الناس إلى علمه ، قيل : فأي الناس خير ؟ قال : الغني ، قيل الغني من المال ؟ قال : لا ، ولكن الغني من التمس عنده خير وجد وإلا أغنى نفسه عن الناس .

وعن سفيان : قيل للقمان : أي الناس شر ؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً ، وعن عبد الله بن زيد قال قال لقمان ألا إن يد الله على أفواه الحكماء لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله تعالى له .