فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ} (19)

{ واقصد في مشيك } أي : توسط فيه ، القصد ما بين الإسراع والبطء ، يقال : قصد فلان في مشيته : إذا مشى مستويا لا يدب دبيب المتمادين ، ولا يثب وثوب الشياطين . وقد ثبت ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى أسرع " ، فلا بد أن يحمل القصد هنا على ما جاوز الحد في السرعة ، وقال مقاتل : معناه لا تختل في مشيتك ، وقال ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ، ودبيب النصارى ، ولكن مشيا بين ذلك ، وقيل : انظر موضع قدميك تواضعا ، والمعنى أعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين الدبيب والإسراع . وقال عطاء : امش بالسكينة والوقار ، كقوله : يمشون على الأرض هونا .

{ واغضض من صوتك } أي : انقض منه واخفضه ، ولا تتكلف رفعه فان الجهر بأكثر من الحاجة يؤدي السامع ، و ( من ) تبعيضية ، وعند الأخفش مزيدة ، ويؤيده قوله : { إن الذين يغضون أصواتهم } ، والمعنى : شيئا من صوتك وكانت الجاهلية يتمدحون برفع الصوت .

{ عن أنكر الأصوات } أي : أوحشها وأقبحها { لصوت الحمير } تعليل للأمر بالغض من الصوت على أبلغ وجه وآكده ، قال قتادة : أقبح الأصوات صوت الحمير ، أوله زفير ، أي : صوت قوي وآخره شهيق ، أي : صوت ضعيف ، وهما صوتا أهل النار ، وأنكر ، وقيل : مبني من الفعل المبني للمفعول ، نحو أشغل من ذات النحبيين ، وهو مختلف فيه ، قال المبرد : تأويله إن الجهر بالصوت ليس بمحمود ، وإنه داخل في باب الصوت المنكر ، واللام للتأكيد ، ووحد الصوت مع كونه مضافا إلى الجمع لأنه مصدر ، وهو يدل على الكثرة ، وهو مصدر : صات يصوت صوتا فهو صائت .

وقيل : إنما وحده ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع ، بل المراد أو كل جنس من الحيوان له صوت ، وأنكر أصوات هذه الجناس صوت هذا الجنس ؛ فوجب توحيده . وعن الثوري في الآية قال : صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار . وقيل : معنى الآية هو : العطسة القبيحة المنكرة ، والأولى أولى ، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير ، وتمثيل أصواتهم بالنهاق ، تنبيه على أن رفع الصوت في غاية الكراهة ، ولما فرغ سبحانه من قصة لقمان رجع إلى توبيخ المشركين وتبكيتهم ، وإقامة الحجج عليهم ، فقال :