قوله تعالى : { فمن تاب من بعد ظلمه } ، أي سرقته .
قوله تعالى : { وأصلح } العمل .
قوله تعالى : { فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } ، هذا فيما بينه وبين الله تعالى ، فأما القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين ، قال مجاهد : قطع السارق لا توبة له ، فإذا قطعت حصلت التوبة . والصحيح أن القطع للجزاء على الجناية ، كما قال :الجزاء بما كسبا ، ولابد من التوبة بعده ، وتوبته الندم على ما مضى ، والعزم على تركه في المستقبل ، وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم ، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : لا غرم عليه ، وبالاتفاق : إن كان المسروق قائماً عنده يسترده ، وتقطع يده ، لأن القطع حق الله تعالى ، والغرم حق العبد ، فلا يمنع أحدهم الآخر ، كاسترداد العين .
ثم قال تعالى : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله ، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه ، فأما{[9818]} أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور .
وقال أبو حنيفة : متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها . وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقال : " ما إخَاله سرق " ! فقال السارق : بلى يا رسول الله . قال : " اذهبوا به فاقطعوه ، ثم احسموه ، ثم ائتوني به " . فقطع فأتي به ، فقال : " تب إلى الله " . فقال : تبت إلى الله . فقال : " تاب الله عليك " . {[9819]}
وقد روي من وجه آخر مرسلا ورجح إرساله علي بن المديني وابن خُزَيْمة{[9820]} رحمهما الله ، روى{[9821]} ابن ماجه من حديث ابن لَهِيعَة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري ، عن أبيه ؛ أن عَمْرو بن سَمُرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني ! فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا . فأمر به فقطعت يده . قال ثعلبة : أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك ، أردت أن تدخلي جسدي النار . {[9822]}
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن حُيَي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : سرقت امرأة حُليًّا ، فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله ، سرقتنا هذه المرأة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقطعوا يدها اليمنى " . فقالت المرأة : هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " ! قال : فأنزل الله عز وجل : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }{[9823]}
وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا ، فقال : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهيعة ، حدثني حُيَي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله ، إن هذه المرأة سرقتنا ! قال قومها : فنحن نفديها ، فقال رسول الله : " اقطعوا يدها " فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار . قال : " اقطعوا يدها " . قال : فقطعت يدها اليمنى . فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله ؟ قال : " نعم ، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " . فأنزل الله في سورة المائدة : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }{[9824]}
وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت ، وحديثها ثابت في الصحيحين ، من رواية الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ؛ أن قريشا أهمهم شأنُ المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، في غزوة الفتح ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يَجْتَرِئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأتي بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد ، فتلوّن وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أتشفع في حَدٍّ من حدود الله ، عز وجل ؟ " فقال له أسامة : استغفر لي يا رسول الله . فلما كان العَشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد ، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحد ، وإني والذي نفسي بيده ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها " . ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها . قالت عائشة [ رضي الله عنها ]{[9825]} فحَسنَتْ توبتها بعد ، وتزوجت ، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا لفظ مسلم{[9826]} وفي لفظ له عن عائشة قالت : كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها . {[9827]}
وعن ابن عمر قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعًا على ألسنة جاراتها{[9828]} وتجحده ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .
رواه الإمام أحمد ، وأبو داود والنسائي{[9829]} - وهذا لفظه - وفي لفظ له : أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله وترد ما تأخذ على القوم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قم يا بلال فخذ بيدها{[9830]} فاقطعها " {[9831]}
وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .
{ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } . .
يقول جلّ ثناؤه فمَنْ تَابَ من هؤلاء السرّاق ، يقول : من رجع منهم عما يكرهه الله من معصيته إياه إلى ما يرضاه من طاعته من بعد ظلمه وظلمُه : هو اعتداؤه وعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس . يقول : وأصلح نفسه بحملها على مكروهها في طاعة الله والتوبة إليه مما كان عليه من معصيته . وكان مجاهد فيما ذكر لنا يقول : توبته في هذا الموضع ، الحدّ الذي يقام عليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وأصْلَحَ يقول : فتاب عليه بالحدّ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا موسى بن داود ، قال : حدثنا بان لهيعة ، عن حُيي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبْلي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : سرقت امرأة حليّا ، فجاء الذين سرقهم ، فقالوا : يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اقْطَعُوا يَدَها اليُمْنَى » فقالت المرأة : هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنْتِ اليَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمَ وَلَدَتْك أُمّكِ » . قال : فأنزل الله جلّ وعزّ : فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وأصْلَحَ فإنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ .
وقوله : فإنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ يقول : فإن الله جلّ وعزّ يرجعه إلى ما يحبّ ويرضى عما يكرهه ويسخط من معصيته . وقوله : إنّ اللّهَ عَفُورٌ رَحيمٌ يقول : إن الله عزّ ذكره ساتر على من تاب وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبه بالعفو عن عقوبته عليها يوم القيامة وتركه فضيحته بها على رؤوس الأشهاد ، رحيم به وبعباده التائبين إليه من ذنوبهم .
المعنى عند جمهور أهل العلم أن من { تاب } من السرقة فندم على ما مضى وأقلع في المستأنف وأصلح برد الظلامة إن أمكنه ذلك وإلا فبإنفاقها في سبيل الله { وأصلح } أيضاً في سائر أعماله وارتفع إلى فوق { فإن الله يتوب عليه } ويذهب عنه حكم السرقة فيما بينه وبين الله تعالى ، وهو في المشيئة مرجو له الوعد وليس ُتسقط عنه التوبة حكم الدنيا من القطع إن اعترف أو شهد عليه وقال مجاهد : التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تشديد وقد جعل الله للخروج من الذنوب بابين أحدهما الحد والآخر التوبة ، وقال الشافعي : إذا تاب السارق قبل أن يتلبس الحاكم بأخذه فتوبته ترفع عنه حكم القطع قياساً على توبة المحارب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فمن تاب من بعد ظلمه}: من تاب من بعد سرقته، {وأصلح} العمل فيما بقى، {فإن الله يتوب عليه إن الله غفور} لذنبه، {رحيم} به، وأما المال، فلا بد أن يرده إلى صاحبه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: فمَنْ تَابَ من هؤلاء السرّاق، يقول: من رجع منهم عما يكرهه الله من معصيته إياه إلى ما يرضاه من طاعته "من بعد ظلمه"، وظلمُه: هو اعتداؤه وعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس. يقول: وأصلح نفسه بحملها على مكروهها في طاعة الله والتوبة إليه مما كان عليه من معصيته. وكان مجاهد فيما ذكر لنا يقول: توبته في هذا الموضع، الحدّ الذي يقام عليه.
"فإنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ": فإن الله جلّ وعزّ يرجعه إلى ما يحبّ ويرضى عما يكرهه ويسخط من معصيته.
"إنّ اللّهَ غفُورٌ رَحيمٌ": إن الله عزّ ذكره ساتر على من تاب وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبه بالعفو عن عقوبته عليها يوم القيامة وتركه فضيحته بها على رؤوس الأشهاد، "رحيم "به وبعباده التائبين إليه من ذنوبهم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي سرقته... {وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} هذا ما بينه وبين اللّه تعالى، فأما القطع فواجب...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى أن من تاب وأقلع وندم على ما كان منه من فعل الظلم بالسرقة وغيرهما، وفعل الفعل الجميل الصالح "فإن الله يتوب عليه "ومعناه: يقبل توبته بإسقاط العقاب بها عن المعصية التي تاب منها. ووصف الله تعالى بأنه يتوب على التائب فيه فائدة عظيمة، لأن في ذلك ترغيبا للعاصي في فعل التوبة، ولذلك قال تعالى واصفا نفسه بأنه تواب رحيم. ووصف العبد بأنه تواب معناه: أواب، وهي صفة مدح من أجل المدح على التوبة التي يسقط العقاب عندها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
من استوفى أحكام التوبة فتَدَاركَ ما ضَيَّعه، وندم على ما صنعه، وأصلح من أمره ما أفسده -أقبل الله عليه بفضله فَغَفَره، وعاد إليه باللطف فَجَبَرَهُ...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) قال مجاهد: قطع السارق توبته، فإذا قطع، فقد حصلت التوبة، والصحيح: أن القطع للجزاء على الجناية، كما قال: (جزاء بما كسبا) فلا بد من التوبة بعده، وتوبته: الندم على ما مضى، والعزم على تركه في المستقبل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى عند جمهور أهل العلم أن من {تاب} من السرقة فندم على ما مضى وأقلع في المستأنف وأصلح برد الظلامة إن أمكنه ذلك وإلا فبإنفاقها في سبيل الله {وأصلح} أيضاً في سائر أعماله وارتفع إلى فوق {فإن الله يتوب عليه}.
دلت الآية على أن من تاب فإن الله يقبل توبته، فإن قيل: قوله {وأصلح} يدل على أن مجرد التوبة غير مقبول. قلنا: المراد من قوله {وأصلح} أي يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فمن تاب} أي ندم وأقلع، ودل على كرمه بالقبول في أيّ وقت وقعت التوبة فيه ولو طال زمن المعصية بإثبات الجار فقال: {من بعد} وعدل عن أن يقول "سرقته "إلى {ظلمه} تعميماً للحكم في كل ظلم، فشمل ذلك فعل طعمة وما ذكر بعده مما تقدم في النساء وغير ذلك من كل ما يسمى ظلماً {وأصلح} أي أوجد الإصلاح وأوقعه بردّ الظلامة والثبات على الإقلاع {فإن الله} أي بما له من كمال العظمة {يتوب عليه} أي يقبل توبته ويرجع به إلى أتم ما كان عليه قبل الظلم من سقوط عذاب الآخرة دون عقاب الدنيا، رحمة من الله له ورفقاً به وبمن ظلمه وعدلاً بينهما، لا يقدر أحد أن يمنعه من ذلك و لا يحول بينه وبينه لحظة ما؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي له الكمال كله أزلاً وأبداً {غفور رحيم} أي بالغ المغفرة والرحمة، لا مانع له من ذلك ولا من شيء منه ولا من شيء يريد فعله، بل هو فعال لما يريد،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يفتح الله باب التوبة لمن يريد أن يتوب، على أن يندم ويرجع ويكف؛ ثم لا يقف عند هذه الحدود السلبية، بل يعمل عملا صالحا، ويأخذ في خير إيجابي:
(فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح، فإن الله يتوب عليه، إن الله غفور رحيم)..
فالظلم عمل إيجابي شرير مفسد؛ ولا يكفي أن يكف الظالم عن ظلمه ويقعد: بل لا بد أن يعوضه بعمل إيجابي خير مصلح.. على أن الأمر في المنهج الرباني أعمق من هذا.. فالنفس الإنسانية لا بد أن تتحرك، فإذا هي كفت عن الشر والفساد ولم تتحرك للخير والصلاح بقي فيها فراغ وخواء قد يرتدان بها إلى الشر والفساد. فأما حين تتحرك إلى الخير والصلاح فإنها تأمن الارتداد إلى الشر والفساد؛ بهذه الإيجابية وبهذا الامتلاء.. إن الذي يربي بهذا المنهج هو الله.. الذي خلق والذي يعلم من خلق..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإنّ الله يتوب عليه} أي من تاب من السارقين من بعد السرقة تاب الله عليْه، أي قبلت توبته. وقد تقدّم معناه عند قوله تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه} في سورة البقرة (37). وليس في الآية ما يدلّ على إسقاط عقوبة السرقة عن السارق إن تاب قبل عقابه، لأنّ ظاهر (تاب وتاب الله عليْه) أنّه فيما بين العبد وبين ربّه في جزاء الآخرة؛ فقوله: {فمن تاب من بعد ظلمه} ترغيب لهؤلاء العصاة في التّوبة وبشارة لهم. ولا دليل في الآية على إبطال حكم العقوبة في بعض الأحوال كما في آية المحاربين، فلذلك قال جمهور العلماء: توبة السارق لا تسقط القطع ولو جاء تائباً قبل القدْرة عليه. ويدلّ لصحّة قولهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد المخزومية ولا شكّ أنّها تائبة.
قال ابن العربي: لأنّ المحارب مستبدّ بنفسه معتصم بقوّته لا يناله الإمام إلاّ بالإيجاف بالخيل والركاب فأسقط إجزاؤه بالتّوبة استنزالاً من تلك الحالة كما فُعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافاً على الإسلام. وأمّا السارق والزاني فهما في قبضة المسلمين، اهـ.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كان قطع اليد هو العقوبة الرادعة، فإن التوبة تجبها وتقطعها في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط، فمن أقلع عن الذنب وأحس بالندم على ما ارتكبه، واعتزم على ألا يعود إليه، فإن الله سبحانه وتعالى يقبل توبته، وعبر سبحانه وتعالى عن قبوله توبته بقوله: {فإن الله يتوب عليه}. أي أنه جلت قدرته، وتعالت عظمته يقابل عمله القلبي في التوبة، والعمل الخارجي بالإصلاح ومنع الفساد، بعمل من جانبه سبحانه وهو أنه يتوب عليه، أي يعينه على التوبة ويقبلها، فقوله تعالى: {فإن الله يتوب عليه} يتضمن ثلاث معان أولها: المعاونة على التوبة إذا أخلص العبد، وخلص العمل له سبحانه، وأصلح في الأرض بعد الإفساد فيها، وثانيهما قبول التوبة وثالثها تطمين التائب بتأكيد القبول...
وذكر سبحانه أن التوبة الخالصة لا بد أن تقترن بالإصلاح لأن الإذعان القلبي لا يكون كاملا وناميا إلا إذا اقترن به العمل الصالح لأنه يزكيه ويسقيه... والتعبير بقوله تعالى: {من بعد ظلمه} إشارة إلى أن السرقة خاصة وارتكاب الذنوب عامة ظلم كبير، وقوله تعالى: {وأصلح} فيه إشارة إلى أن السرقة إفساد في الأرض والأمانة إصلاح أي إصلاح...
وقد ختم الله سبحانه و تعالى الآية بإثبات رحمته، وأنه سبحانه من صفاته الثابتة الغفران فقال: {إن الله غفور رحيم} أي أن الله يتوب على عبده إذا أذنب، لأن من صفاته أنه غفور كثير الغفران يتجاوز عن السيئات ويكافئ على الحسنات، لأن ذلك مقتضى رحمته، وهو الرحيم الدائم الرحمة وقد أكد سبحانه ذلك فضل تأكيد ب "إن"، وبإعادة لفظ الجلالة...