الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَمَن تَابَ مِنۢ بَعۡدِ ظُلۡمِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (39)

السادسة والعشرون : قوله تعالى " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح " شرط وجوابه " فإن الله يتوب عليه " " من بعد ظلمه " من بعد السرقة ، فإن الله يتجاوز عنه . والقطع لا يسقط بالتوبة . وقال عطاء وجماعة : يسقط بالتوبة قبل القدوة على السارق . وقال بعض الشافعية وعزاه إلى الشافعي قولا . وتعلقوا بقول الله تعالى : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدوا عليهم " وذلك استثناء من الوجوب ، فوجب حمل جميع الحدود عليه . وقال علماؤنا : هذا بعينه دليلنا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حد المحارب قال : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " وعطف عليه حد السارق وقال فيه : " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه " فلو كان مثله في الحكم ما غاير الحكم بينهما . قال ابن العربي : ويا معشر الشافعية سبحان الله ! أين الدقائق الفقهية{[5584]} ، والحكم الشرعية ، التي تستنبطونها من غوامض المسائل ؟ ! ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه ، المعتدي بسلاح ، الذي يفتقر الإمام معه إلى الإيجاف بالخيل والركاب كيف أسقط جزاءه بالتوبة استنزالا عن تلك الحالة ، كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام ، فأما السارق والزاني وهما في قبضة المسلمين وتحت حكم الإمام ، فما الذي يسقط عنهم حكم ما وجب عليهم ؟ ! أو كيف يجوز أن يقال : يقاس على المحارب وقد فرقت بينهما الحكمة والحالة ! هذا ما لا يليق بمثلكم يا معشر المحققين . وإذا ثبت أن الحد لا يسقط بالتوبة ، فالتوبة مقبولة والقطع كفارة له . " وأصلح " أي كما تاب عن السرقة تاب عن كل ذنب . وقيل : " وأصلح " أي ترك المعصية بالكلية ، فأما من ترك السرقة بالزنى أو التهود بالتنصر فهذا ليس بتوبة ، وتوبة الله على العبد أن يوفقه للتوبة . وقيل : أن تقبل منه التوبة .

السابعة والعشرون : يقال : بدأ الله بالسارق في هذه الآية قبل السرقة ، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني ما الحكمة في ذلك ؟ فالجواب أن يقال : لما كان حب المال على الرجال أغلب ، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب بدأ بهما في الموضع ، هذا أحد الوجوه في المرأة على ما يأتي بيانه في سورة " النور " {[5585]} من البداية بها على الزاني إن شاء الله . ثم جعل الله قطع السرقة قطع اليد لتناول المال ، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به لثلاثة معان : أحدها : أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية{[5586]} ، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه . الثاني : أن الحد زجر للمحدود وغيره ، وقطع اليد في السرقة ظاهر ، وقطع الذكر في الزنى باطن . الثالث : أن قطع الذكر فيه إبطال للنسل وليس في قطع اليد إبطال . والله أعلم .


[5584]:في ك: الفهمية.
[5585]:راجع ج 12 ص 159.
[5586]:في ك و ج: الباقية.