قوله تعالى :{ ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } أي : براً بهما وعطفاً عليهما ، معناه : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن . نزلت هذه الآية ، والتي في سورة لقمان والأحزاب في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري ، وأمه حمنة بنت أبي سفيان ابن أمية بن عبد شمس . لما أسلم ، وكان من السابقين الأولين ، وكان باراً بأمه ، قالت له أمه : ما هذا الدين الذي أحدثت ؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه ، أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ، يقال : يا قاتل أمه . ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ، فجاء سعد إليها وقال : با أماه لو كانت مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي ، فلما أيست منه أكلت وشربت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمره بالبر بوالديه والإحسان إليهما وأن لا تطعهما في الشرك ، فذلك قوله عز وجل : { وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } جاء في الحديث : " لا طاعة لمخلوق في معصية الله " . ثم أوعد بالمصير إليه فقال : { إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها .
يقول تعالى آمرا عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده ، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان ، ولهما عليه{[22491]} غاية الإحسان ، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق ؛ ولهذا قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [ الإسراء : 23 ، 24 ] .
ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما ، في مقابلة إحسانهما المتقدم ، قال : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } أي : وإن حَرَصا عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين ، فإياك وإياهما ، لا تطعهما في ذلك ، فإن مرجعكم إلي يوم القيامة ، فأجزيك بإحسانك إليهما ، وصبرك على دينك ، وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك ، وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا ، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع مَنْ أحب ، أي : حبا دينيا ؛ ولهذا قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ } .
وقال{[22492]} الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سِمَاك بن حرب قال : سمعت مُصعَب بن سعد يحدث عن أبيه سعد ، قال : نزلت فيَّ أربع آيات . فذكر قصة ، وقالت أم سعد : أليس قد أمرك الله بالبر ؟ والله لا أطعَمُ طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر ، قال : فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شَجَروا فاها ، فأنزل الله{[22493]} { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ } الآية .
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي أيضا{[22494]} ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَوَصّيْنا الإنْسانَ فيما أنزلنا إلى رسولنا بِوَالِدَيْهِ أن يفعل بهما حُسْنا .
واختلف أهل العربية في وجه نصب الحسن ، فقال بعض نحويّي البصرة : نُصب ذلك على نية تكرير وصّينا . وكأن معنى الكلام عنده : ووصينا الإنسان بوالديه ، ووصيناه حسنا . وقال : قد يقول الرجل وصيته خيرا : أي بخير .
وقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : ووصينا الإنسان أن يفعل حُسنا ، ولكن العرب تسقط من الكلام بعضه إذا كان فيما بقي الدلالة على ما سقط ، وتعمل ما بقي فيما كان يعمل فيه المحذوف ، فنصب قوله حُسْنا وإن كان المعنى ما وصفت وصينا ، لأنه قد ناب عن الساقط ، وأنشد في ذلك :
عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذْ تَشْكُونا *** وَمِنْ أبي دَهْماءَ إذْ يُوصِينا
*** خَيْرا بها كأنّنا جافُونا ***
وقال : معنى قوله : يوصينا خيرا : أن نفعل بها خيرا ، فاكتفى بيوصينا منه ، وقال : ذلك نحو قوله فَطَفِقَ مَسْحا أي يمسح مسحا .
وقوله : وَإنْ جاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما يقول : ووصينا الإنسان ، فقلنا له : إن جاهداك والداك لتشرك بي ما ليس لك به علم أنه ليس لي شريك ، فلا تطعهما فتشرك بي ما ليس لك به علم ابتغاء مرضاتهما ، ولكن خالفهما في ذلك إليّ مرجعكم يقول تعالى ذكره : إليّ معادكم ومصيركم يوم القيامة فَأُنَبّئكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول : فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال وسيئاتها ، ثم أجازيكم عليها المحسن بالإحسان ، والمسيء بما هو أهله .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب سعد بن أبي وقاص . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَوَصّيْنا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنا . . . إلى قوله فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال : نزلت في سعد بن أبي وَقّاص لما هاجر ، قالت أمه : والله لا يُظِلّني بيت حتى يرجع ، فأنزل الله في ذلك أن يُحْسِن إليهما ، ولا يطيعَهما في الشرك .
{ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } بإيتائهما فعلا ذا حسن ، أو كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه ووصى يجري مجرى أمر معنى وتصرفا . وقيل هو بمعنى قال أي وقلنا له أحسن بوالديك { حسنا } ، وقيل { حسنا } منتصب بفعل مضمر على تقدير قول مفسر للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما { حسنا } وهو أفق لما بعده وعليه يحسن الوقف على { بوالديه } ، وقرئ { حسنا } و " إحسانا " . { وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم } بإلهيته عبر عن نفيها بنفي العلم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلا عما علم بطلانه . { فلا تطعهما } في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل . { إلي مرجعكم } مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق . { فأنبئكم بما كنتم تعملون } بالجزاء عليه ، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة ، فإنها لما سمعت بإسلامه حلفت أنها لا تنتقل من الضح ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد ولبثت ثلاثة أيام كذلك وكذا التي في " لقمان " " والأحقاف " .