قوله تعالى : { والذين يؤتون ما آتوا } أي : يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات ، وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ { والذين يؤتون ما آتوا } أي : يعملون ما عملوا من أعمال البر ، { وقلوبهم وجلة } أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأن أعمالهم لا تقبل منهم ، { أنهم إلى ربهم راجعون } لأنهم يوقنون أنهم يرجعون إلى الله عز وجل . قال الحسن : عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها ، وخافوا أن ترد عليهم .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا محمد بن حامد ، حدثنا محمد بن الجهم ، أنبأنا عبد الله بن عمرو ، أنبأنا وكيع عن مالك بن مغول ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق ؟ قال :لا يا بنت الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه .
ولكنهم بعد هذا كله : ( يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون )لإحساسهم بالتقصير في جانب الله ، بعد أن بذلوا ما في طوقهم ، وهو في نظرهم قليل .
عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : يا رسول الله ( الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة )هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عز وجل ? قال : " لا يا بنت الصديق ! ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو يخاف الله عز وجل "
إن قلب المؤمن يستشعر يد الله عليه . ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة . . ومن ثم يستصغر كل عباداته ، ويستقل كل طاعاته ، إلى جانب آلاء الله ونعمائه . كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه جلال الله وعظمته ؛ ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله . . ومن ثم يشعر بالهيبة ، ويشعر بالوجل ، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه ، لم يوفه حقه عبادة وطاعة ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرا .
وقوله : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } أي : يعطون العطاء{[20576]} وهم خائفون{[20577]} ألا يتقبل منهم ، لخوفهم{[20578]} أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء . وهذا من باب الإشفاق والاحتياط ، كما قال الإمام أحمد
حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك بن مِغْوَل ، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، عن عائشة ؛ أنها قالت : يا رسول الله ، { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } ، هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : " لا يا بنت أبي بكر ، يا بنت الصديق ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو يخاف الله عز وجل " .
وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم ، من حديث مالك بن مِغْوَل ، به بنحوه{[20576]} . وقال : " لا يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ، وهم يخافون ألا يقبل منهم ، { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } قال الترمذي : ورُوي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا{[20577]} .
وهكذا قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والحسن البصري في تفسير هذه الآية .
وقد قرأ آخرون هذه الآية : " والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة " أي : يفعلون ما يفعلون وهم خائفون ، وروي هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ كذلك .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا صخر بن جُوَيْرِية ، حدثنا إسماعيل المكي ، حدثني أبو خلف مولى بني جُمَح : أنه دخل مع عُبَيد بن عُمَيْر على{[20578]} عائشة ، رضي الله عنها ، فقالت : مرحبًا بأبي عاصم ، ما يمنعك أن تزورنا - أو : تُلِمّ بنا ؟ - فقال : أخشى أن أمُلَّك . فقالت : ما كنت لتفعل ؟ قال : جئت لأسأل{[20582]} عن آية في كتاب الله عز وجل ، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ؟ قالت : أيَّة آية ؟ فقال : { الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا } أو { الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } ؟ فقالت : أيتهما{[20583]} أحب إليك ؟ فقلت : والذي نفسي بيده ، لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعًا{[20584]} - أو : الدنيا وما فيها - قالت : وما هي ؟ فقلت : { الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا } فقالت : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها ، وكذلك أنزلت ، ولكن الهجاء حرف{[20585]} .
إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو ضعيف .
والمعنى على القراءة الأولى - وهي قراءة الجمهور : السبعة وغيرهم - أظهر ؛ لأنه قال : { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } ، فجعلهم من السابقين . ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك ألا يكونوا من السابقين ، بل من المقتصدين أو المقصرين ، والله تعالى أعلم .
معنى : { يؤتون ما آتوا } يُعطون الأموال صدقات وصلات ونفقات في سبيل الله . قال تعالى : { وآتى المال على حبه ذوي القربى } [ البقرة : 177 ] الآية وقال : { وويل للمشركين الذين لا يُؤتُون الزكاة } [ فصلت : 6 ، 7 ] . واستعمال الإيتاء في إعطاء المال شائع في القرآن متعين أنه المراد هنا .
وإنما عُبر ب { ما آتوا } دون الصدقات أو الأموال ليعم كل أصناف العطاء المطلوب شرعاً وليعم القليل والكثير ، فلعل بعض المؤمنين ليس له من المال ما تجب فيه الزكاة وهو يعطي مما يكسب .
وجملة { وقلوبهم وجلة } في موضع الحال وحق الحال إذا جاءت بعد جمل متعاطفة أن تعود إلى جميع الجمل التي قبلها ، أي يفعلون ما ذكر من الأعمال الصالحة بقلوبهم وجوارحهم وهم مضمرون وجَلاً وخوفاً من ربهم أن يرجعوا إليه فلا يجدونه راضياً عنهم ، أو لا يجدون ما يجده غيرهم ممن يفوتهم في الصالحات ، فهم لذلك يسارعون في الخيرات ويكثرون منها ما استطاعوا وكذلك كان شأن المسلمين الأولين . وفي الحديث « أن أهل الصّفة قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم . قال : أو ليس قد جعل الله لكم ما تصّدّقون به ، إن لكم بكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة » .
وقال أبو مسعود الأنصاري : لما أمرنا بالصدقة كما نحامل فيصيب أحدنا المد فيتصدق به . ومما يشير إلى معنى هذه الآية قوله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً } [ الإنسان : 8 10 ] الآيات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.