قوله تعالى : { هنالك تبلو } ، أي : تختبر . وقيل : معناه : تعلم وتقف عليه ، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب : تتلو بتاءين ، أي : تقرأ ، { كل نفس } ، صحيفتها . وقيل : معناه تتبع كل نفس { ما أسلفت } ، ما قدمت من خير أو شر . وقيل : معناه تعاين ، { وردوا إلى الله } ، إلى حكمه فيتفرد فيهم بالحكم ، { مولاهم الحق } ، الذي يتولى ويملك أمورهم : فإن قيل : أليس قد قال : { وأن الكافرين لا مولى لهم } [ محمد-11 ] ؟ قيل : المولى هناك بمعنى الناصر ، وهاهنا بمعنى : المالك ، { وضل عنهم } ، زال عنهم وبطل ، { ما كانوا يفترون } ، في الدنيا من التكذيب .
عندئذ ، وفي هذا الموقف المكشوف ، تختبر كل نفس ما أسلفت من عمل ، وتدرك عاقبته إدراك الخبرة والتجربة :
هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت . .
وهنالك يتكشف الموقف عن رب واحد حق يرجع إليه الجميع ، وما عداه باطل :
( وردوا إلى الله مولاهم الحق ) . .
وهنالك لا يجد المشركون شيئا من دعاويهم ومزاعمهم وآلهتهم ، فكله شرد عنهم ولم يعد له وجود :
( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .
وهكذا يتجلى المشهد الحي ، في ساحة الحشر ، بكل حقائقه ، وبكل وقائعه ، وبكل مؤثراته واستجاباته . تعرضه تلك الكلمات القلائل ، فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الإخبار المجرد ، ولا براهين الجدل الطويل !
وقوله : { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ } أي : في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما أسلفت من [ عملها من ]{[14214]} خير وشر ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] ، وقال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] ، وقال تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 13 ، 14 ] .
وقد قرأ بعضهم : { هُنَالِكَ تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ } وفسَّرها بعضهم بالقراءة ، وفسّرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمته من خير وشر ، وفسّرها بعضهم بحديث : " تتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من
كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت " الحديث . {[14215]} وقوله : { وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ } أي : ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل ، ففصلها ، وأدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار .
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ } أي : ذهب عن المشركين { مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه .
و { هنالك } نصب على الظرف . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر :[ تبلو ]بالباء بواحدة بمعنى : تختبر ، وقرأ حمزة ، والكسائي :[ تتلو ]بالتاء بنقطتين من فوق بمعنى : تتبع ، أي :تطلب وتتبع ما أسلفت من أعمالها ، ويصح أن يكون بمعنى : تقرأ كتبها التي ترفع إليها . وقرأ يحيى بن وثاب «وردوا » بكسر الراء والجمهور «وردوا إلى الله » ، أي ردوا إلى عقاب مالكهم وشديد بأسه ، فهو مولاهم في الملك والإحاطة لا في الرحمة والنصر ونحوه .
{ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت }
تذييل وفذلكة للجمل السابقة من قوله : { والله يدعو إلى دار السلام } [ يونس : 25 ] إلى هنا . وهو اعتراض بين الجمل المتعاطفة .
والإشارة إلى المكان الذي أنبأ عنه قوله : { نَحْشرهم } [ يونس : 28 ] أي في ذلك المكان الذي نحشرهم فيه . واسم الإشارة في محل نصب على الظرفية . وعامله { تبلو } ، وقدم هذا الظرف للاهتمام به لأن الغرض الأهم من الكلام لعظم ما يقع فيه .
و { تبلو } تختبر ، وهو هنا كناية عن التحقق وعلم اليقين . و { أسلفت } قدّمتْ ، أي عملاً أسلفته . والمعنى أنها تختبر حالته وثمرته فتعرف ما هو حسن ونافع وما هو قبيح وضار إذ قد وضح لهم ما يفضي إلى النعيم بصاحبه ، وضدُه .
وقرأ الجمهور { تبلو } بموحدة بعد المثناة الفوقية . وقرأه حمزة والكسائي وخلف بمثناة فوقية بعد المثناة الأولى على أنه من التلو وهو المتابعة ، أي تتبع كل نفس ما قدمته من عمل فيسوقها إلى الجنة أو إلى النار .
{ وردوا إلى الله مولاهم الحق }
يجوز أن تكون معطوفة على جملة : { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } فتكون من تمام التذييل ، ويكون ضمير ( ردوا ) عائداً إلى ( كل نفس ) . ويجوز أن تكون معطوفة على قوله و { يوم نحشرهم جميعاً } [ يونس : 28 ] الآية فلا تتصل بالتذييل ، أي ونردهم إلينا ، ويكون ضمير ( ردوا ) عائداً إلى الذين أشركوا خاصة . والمعنى تحقق عندهم الحشر الذي كانوا ينكرونه . ويناسب هذا المعنى قوله : { مولاهم الحق } فإن فيه إشعاراً بالتورك عليهم بإبطال مواليهم الباطلة .
والرد : الإرجاع . والإرجاع إلى الله الإرجاع إلى تصرفه بالجزاء على ما يرضيه وما لا يرضيه وقد كانوا من قبل حين كانوا في الحياة الدنيا ممهلين غير مجازين .
والمولى : السيد ، لأن بينه وبين عبده ولاء عهد الملك . ويطلق على متولي أمور غيره وموفر شؤونه .
والحقّ : الموافق للواقع والصدق ، أي ردوا إلى الإله الحق دون الباطل . والوصف بالحق هو وصف المصدر في معنى الحاق ، أي الحاق المولوية ، أي دون الأولياء الذين زعموهم باطلاً .
هذه الجملة مختصه بالمشركين كما هو واضح .
و { ما كانوا يفترون } ما كانوا يكذبون من نسبتهم الإلهية إلى الأصنام ، فيجوز أن يكون ماصْدق ( ما ) الموصولة الأصنام ، فيكون قد حذف العائد مع حرف الجر بدون أن يجر الموصول بمثل ما جر به العائد والحق جوازه ، فالتقدير : ما كانوا يكذبون عليه أو له . وضلاله : عدم وجوده على الوصف المزعوم له .
ويجوز أن يكون ماصدق ( ما ) نفس الافتراء ، أي الافتراء الذي كانوا يفترونه . وضلاله : ظهور نَفْيِه وكذبه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {هنالك}، يعني عند ذلك، {تبلوا} يعني تختبر {كل نفس ما أسلفت}، يعني ما قدمت، {وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} يعني يعبدون في الدنيا من الآلهة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة قوله:"هُنالِكَ تَبْلُو كُلّ نَفْس" بالباء، بمعنى: عند ذلك تختبر كلّ نفس بما قدّمت من خير أو شرّ... وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز: «تَتْلُو كُلّ نَفْسٍ ما أسْلَفَتْ» بالتاء.
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: معناه وتأويله: هنالك تتبع كلّ نفس ما قدمت في الدنيا لذلك اليوم... وقال بعضهم: بل معناه: يتلو كتاب حسناته وسيئاته، يعني يقرأ، كما قال جلّ ثناؤه: "ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلْقاهُ مَنْشُورا".
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء، وهما متقاربتا المعنى؛ وذلك أن من تبع في الآخرة ما أسلف من العمل في الدنيا، هجم به على مورده، فيخبر هنالك ما أسلف من صالح أو سيئ في الدنيا، وإن من خير من أسلف في الدنيا من أعماله في الآخرة، فإنما يخبر بعد مصيره إلى حيث أحله ما قدم في الدنيا من علمه، فهو في كلتا الحالتين متبع ما أسلف من عمله مختبر له، فبأيتهما قرأ القارئ كما وصفنا فمصيب الصواب في ذلك.
أما قوله: "وَرُدّوا إلى اللّهِ مَوْلاهُمُ الحَقّ "فإنه يقول: ورجع هؤلاء المشركون يومئذ إلى الله الذي هو ربهم ومالكهم الحقّ لا شكّ فيه دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والأنداد.
"وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ" يقول: وبطل عنهم ما كانوا يتخرّصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء، وأنها تقرّبهم منه زلفى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ما أسْلَفَتْ"، والاسلاف: تقديم امر لما بعده، فمن أسلف الطاعة لله جزي بالثواب، ومن أسلف المعصية جزي بالعقاب.
وقوله "وردوا إلى الله "فالرد: هو الذهاب إلى الشيء بعد الذهاب عنه، فهؤلاء ذهبوا عن أمر الله فأعيدوا اليه. والرد والرجع نظائر، ويجوز أن يكون الرد بمعنى النشأة الثانية، وهو الأليق ههنا.
وقوله "مولاهم الحق "فالمولى: المالك للعبيد، ومعناه مالكهم، لأنه يملك أمرهم، وهو أملك بهم من أنفسهم. وقوله "وضل عنهم ما كانوا يفترون" يعني ما كانوا يدعونهم -بافترائهم من الشركاء- مع الله يضلون عنهم يوم القيامة ويبطلون.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنما يقفون على خسرانهم إذا ذاقوا طَعْمَ هوانِهم؛ فإذا رُدُّوا إلى الله لم يجدوا إلا البعدَ عن الله، والطرْدَ من قِبَل الله، وذلك جزاءُ مَنْ آثَرَ على اللَّهِ غيرَ الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هُنَالِكَ}: في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أوفى ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان.
{تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ}: تختبر وتذوق {مَّا أَسْلَفَتْ} من العمل فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن، أنافع أم ضارّ، أمقبول أم مردود؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرّفه ليكتنه حاله.
{مولاهم الحق} ربهم الصادق ربوبيته؛ لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة. أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم، العدل الذي لا يظلم أحداً.
{وردوا إلى الله مولاهم الحق} فاعلم أن الرد عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه، وههنا فيه احتمالات:
الأول: أن يكون المراد من قوله: {وردوا إلى الله} أي وردوا إلى حيث لا حكم إلا لله على ما تقدم من نظائره.
والثاني: أن يكون المراد {وردوا} إلى ما يظهر لهم من الله من ثواب وعقاب، منبها بذلك على أن حكم الله بالثواب والعقاب لا يتغير.
{وضل عنهم ما كانوا يفترون} فالمراد أنهم كانوا يدعون فيما يعبدونه أنهم شفعاء وأن عبادتهم مقربة إلى الله تعالى، فنبه تعالى على أن ذلك يزول في الآخرة، ويعلمون أن ذلك باطل وافتراء واختلاق.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} أي في ذلك المكان -وهو موقف الحساب- أو في ذلك الوقت أو اليوم تختبر كل نفس من عابدة ومعبودة، ومؤمنة وجاحدة، وشاكرة وكافرة، ما قدمت في حياتها الدنيا من عمل، وما كان لكسبها في صفاتها من أثر، من خير وشر، ونفع وضر، بما ترى من الجزاء عليه، وكونه ثمرة طبيعية له، لا شأن فيه لولي ولا شفيع، ولا معبود ولا شريك. وهنالك مواقف وأوقات أخرى لا سؤال فيها ولا جدال، تغني فيها دلالة الحال عن المقال، ولكل مقام مقال.
{ورُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} أي أرجعوا إلى الله الذي هو مولاهم الحق دون ما اتخذوا من دونه بالباطل من الأولياء والشفعاء، والأنداد والشركاء- على اختلاف الأسماء- كما ثبت في الآيات الكثيرة كقوله: {إلى الله مرجعكم} {إلى ربكم مرجعكم} {إلى ربهم مرجعهم} {وإلى ربهم مرجعهم} {وإلى الله المصير} {وإليه المصير}.
{وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي وضاع وذهب عنهم ما كانوا يفترونه عليه من الشفعاء والأولياء، فلم يجدوا أحدا ينصرهم ولا ينقذهم {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 19].
هذه الآيات في موقف المشركين مع الشركاء، والمرؤوسين مع الرؤساء، والمتكبرين مع الضعفاء، والمضلين مع الضالين، والغاوين مع المغوين، قد تكرر بيانها في سور أخرى مجملا مبهما، وفي بعضها مفصلا ومبينا، فمنها ما يسأل الله فيه العابدين، ومنها ما يسأل فيه المعبودين، من غير تعيين، ومنها ما عين فيه اسم الملائكة والجن والشياطين، وفي كل منها يتبرأ المضلون من الضالين، فتراجع فيها سورة الفرقان [17 ـ19] وسورة الأنعام [22 ـ 24] وسورة سبأ [40 ـ 42] وسورة القصص [62ـ 64]، ومنها ما يتناقش فيها الفريقان، فراجع سورة إبراهيم [21، 22] وسورة الصافات [22،23]، فبمراجعة هذه الآيات كلها وما في معناها كآيات سورة البقرة (2: 166 و167) ومع تفسيرنا لهاتين (ج 2) يتبين لك ما يفسر به بعضها بعضا، وقد بينا حكمة هذا التكرار في موضعه الذي دللنا عليه آنفا.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وردوا إلى الله مولاهم الحق} تنبيه لجميع عباده إلى أنهم مهما فروا وهربوا، وتحايلوا وتلاعبوا، فلا ملجأ لهم في نهاية المطاف إلا إليه سبحانه، فهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يحاسب ويعاقب، والخلق كلهم حيثما كانوا في قبضته، ورهن مشيئته وقدرته، ولذلك يجب عليهم أن يعبدوه ويطيعوه، وأن يحسبوا لسخطه ورضاه كل الحساب...
{وردوا إلى الله مولاهم الحق} وكأنهم كانوا في الدنيا عند مولى آخر غير الإله الحق سبحانه، والمولى غير الحق هو الشريك أو الشركاء الذين اتخذتهم بعض الناس موالي لهم، وهنا في اليوم الآخر يردون إلى الإله الحق والمولى الحق سبحانه.
وكلمة "ردوا إلى كذا "لا تدل على أنهم كانوا مع الضد، وجاءوا له، بل تدل على أنهم كانوا معه أولا، ثم ذهبوا إلى الضد، ثم ردوا أليه ثانيا، مثل قوله سبحانه عن موسى عليه السلام: {فرددناه إلى أمه} [القصص 13]: فدلت على أنه كان مع أمه، ثم فارقها، ثم رد إليها.
وقوله الحق سبحانه هنا: {وردوا إلى الله مولاهم الحق} أي: أنهم كانوا مع الله أولا، ثم أخذهم الشركاء، وفي هذا اليوم الآخر يرجعون لربهم سبحانه.
والإنسان يكون مع ربه أولا بالفطرة التكوينية المؤمنة، ثم يتجه به أبواه إلى المجوسية أو أي ديانة أخرى تحمل الشرك بالله، وهم في ظل تلك الديانات المشركة، كانوا عند مولى وسيد وآمر ومشرع، ولكنه مولى غير حق؛ لأن الحق هو الثابت الذي لا تدركه الأغيار...