قوله تعالى : { ولقد آتينا لقمان الحكمة } يعني : العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور . قال محمد بن إسحاق : هو لقمان بن ناعور بن ناحور بن تارخ وهو آزر . وقال وهب : كان ابن أخت أيوب ، وقال مقاتل : ذكر أنه كان ابن خالة أيوب . قال الواقدي : كان قاضياً في بني إسرائيل . واتفق العلماء على أنه كان حكيماً ، ولم يكن نبياً ، إلا عكرمة فإنه قال : كان لقمان نبياً . وتفرد بهذا القول . وقال بعضهم : خير لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة . وروي أنه كان نائماً نصف النهار فنودي : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض لتحكم بين الناس بالحق ؟ فأجاب الصوت فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ، ولم أقبل البلاء ، وإن عزم علي فسمعاً وطاعةً ، فإني أعلم إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاها الظلم من كل مكان إن يعن ، فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ، ومن يخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة . فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأعطي الحكمة ، فانتبه وهو يتكلم بها ، ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان ، فهوى في الخطيئة غير مرة ، كل ذلك يعفو الله عنه ، وكان لقمان يؤازره بحكمته . وعن خالد الربعي قال : كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً . وقال سعيد بن المسيب : كان خياطاً . وقيل : كان راعي غنم . فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال : ألست فلاناً الراعي فبم بلغت ما بلغت ؟ قال : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني . وقال مجاهد : كان عبداً أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين . { أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد* }
بعد ذلك يبدأ الجولة الثانية . يبدؤها في نسق جديد . نسق الحكاية والتوجيه غير المباشر . ويعالج قضية الشكر لله وحدة ، وتنزيهه عن الشرك كله ، وقضية الآخرة والعمل والجزاء في خلال الحكاية .
( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ؛ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن الله غني حميد ) .
ولقمان الذي اختاره القرآن ليعرض بلسانه قضية التوحيد وقضية الآخرة تختلف في حقيقته الروايات : فمن قائل : إنه كان نبيا ، ومن قائل : إنه كان عبدا صالحا من غير نبوة - والأكثرون على هذا القول الثاني - ثم يقال : إنه كان عبدا حبشيا ، ويقال : إنه كان نوبيا . كما قيل : إنه كان في بني إسرائيل قاضيا من قضاتهم . . وأيا من كان لقمان فقد قرر القرآن أنه رجل آتاه الله الحكمة . الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ) . . وهذا توجيه قرآني ضمني إلى شكر الله اقتداء بذلك الرجل الحكيم المختار الذي يعرض قصته وقوله . وإلى جوار هذا التوجيه الضمني توجيه آخر ، فشكر الله إنما هو رصيد مذخور للشاكر ينفعه هو ، والله غني عنه . فالله محمود بذاته ولو لم يحمده أحد من خلقه : ( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه . ومن كفر فإن الله غني حميد ) . . وإذن فأحمق الحمقى هو من يخالف عن الحكمة ؛ ولا يدخر لنفسه مثل ذلك الرصيد .
اختلف السلف في لقمان ، عليه السلام : هل كان نبيًا ، أو عبدًا صالحا من غير نبوة ؟ على قولين ، الأكثرون على الثاني .
وقال سفيان الثوري ، عن الأشعث ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : كان لقمان عبدًا حبشيًا نجارًا .
وقال قتادة ، عن عبد الله بن الزبير ، قلت لجابر بن عبد الله : ما انتهى إليكم من شأن لقمان ؟ قال : كان قصيرًا أفطس من النوبة .
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب قال : كان لقمان من سودان مصر ، ذا مشافر ، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة .
وقال الأوزاعي : رحمه الله ، حدثني عبد الرحمن بن حَرْمَلة قال : جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله ، فقال له سعيد بن المسيب : لا تحزن من أجل أنك أسود ، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان : بلال ، ومهْجَع مولى عمر بن الخطاب ، ولقمان الحكيم ، كان أسود نوبيًا ذا مشافر{[22931]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن أبي الأشهب{[22932]} ، عن خالد الرَّبَعِيّ قال : كان لقمان عبدًا حبشيا نجارا ، فقال له مولاه : اذبح لنا هذه الشاة . فذبحها ، فقال : أخْرجْ أطيب مُضغتين فيها . فأخرج اللسان والقلب ، فمكث ما شاء الله ثم قال : اذبح لنا هذه الشاة . فذبحها ، فقال : أخرج أخبث مضغتين فيها . فأخرج اللسان والقلب ، فقال له مولاه : أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما ، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما . فقال لقمان : إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا أخبث منهما إذا خَبُثا{[22933]} .
وقال شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : كان لقمان عبدًا صالحًا ، ولم يكن نبيا .
وقال الأعمش : قال مجاهد : كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين ، مشقق القدمين .
وقال حَكَّام بن سَلْم ، عن سعيد الزبيدي ، عن مجاهد : كان لقمان الحكيم عبدا حبشيا غليظ الشفتين ، مُصَفح القدمين ، قاضيا على بني إسرائيل .
وذكر غيره : أنه كان قاضيا على بني إسرائيل في زمن{[22934]} داود ، عليه السلام .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا الحكم ، حدثنا عمرو بن قيس قال : كان لقمان ، عليه السلام ، عبدًا أسود غليظ الشفتين ، مُصَفَّح القدمين ، فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم ، فقال له : ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ، قال : نعم . فقال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث ، والصمت عما لا يعنيني{[22935]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا{[22936]} عبد الرحمن بن يزيد{[22937]} عن جابر قال : إن الله رفع لقمان الحكيم بحكمته ، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك ، فقال له : ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس ؟ قال : بلى . قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : قَدَرُ الله ، وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، وتركي ما لا يعنيني .
فهذه الآثار منها ما هو مُصرَّح فيه بنفي كونه نبيا ، ومنها ما هو مشعر بذلك ؛ لأن كونه عبدًا قد مَسَّه الرق ينافي كونه نبيا ؛ لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها ؛ ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا ، وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة - إن صح السند إليه ، فإنه رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث وَكِيع{[22938]} عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة فقال : كان لقمان نبيًا . وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي ، وهو ضعيف ، والله{[22939]} أعلم .
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عبد الله بن عياش القتْبَاني ، عن عُمَر مولى غُفرَة قال : وقف رجل على لقمان الحكيم فقال : أنت لقمان ، أنت عبد بني الحسحاس ؟ قال : نعم . قال : أنت راعي الغنم ؟ قال : نعم . قال : أنت الأسود ؟ قال : أما سوادي فظاهر ، فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال : وَطءْ الناس بسَاطك ، وغَشْيُهم بابك ، ورضاهم بقولك . قال : يا بن أخي{[22940]} إن صَغَيتَ{[22941]} إلى ما أقول لك كنت كذلك . قال لقمان : غضي بصري ، وكفي لساني ، وعفة طعمتي ، وحفظي فرجي ، وقولي بصدق ، ووفائي بعهدي ، وتكرمتي ضيفي ، وحفظي جاري ، وتركي ما لا يعنيني ، فذاك الذي صيرني إلى ما{[22942]} ( 10 ) ترى .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نُفَيل ، حدثنا عمرو بن واقد ، عن عَبْدَةَ بن رَبَاح ، عن ربيعة ، عن{[22943]} أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، أنه قال يومًا - وذُكرَ لقمان الحكيم - فقال : ما أوتي ما أوتي عن أهل ولا مال ، ولا حسب ولا خصال ، ولكنه كان رجلا صَمْصَامة سكيتا ، طويل التفكر ، عميق النظر ، لم ينم نهارًا قط ، ولم يره أحد قط يبزق ولا يتنخَّع ، ولا يبول ولا يتغوط ، ولا يغتسل ، ولا يعبث ولا يضحك ، وكان لا يعيد منطقًا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد ، وكان قد تزوج وولد له أولاد ، فماتوا فلم يبك عليهم . وكان يغشى السلطان ، ويأتي الحكام ، لينظر ويتفكر ويعتبر{[22944]} ، فبذلك أوتي ما أوتي .
وقد ورد أثر غريب عن قتادة ، رواه ابن أبي حاتم ، فقال :
حدثنا أبي ، حدثنا العباس بن الوليد ، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي ، حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة قال : خَيّر الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة ، فاختار الحكمة على النبوة . قال : فأتاه جبريل وهو نائم فَذرَّ عليه الحكمة - أو : رش عليه الحكمة - قال : فأصبح ينطق بها .
قال سعيد : فسمعت عن قتادة يقول : قيل للقمان : كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خَيَّرك ربك ؟ فقال : إنه لو أرسل إليَّ بالنبوة عَزْمَة لرجوت فيه الفوز منه ، ولكنت أرجو أن أقوم بها ، ولكنه خَيّرني فخفت أن أضعف عن النبوة ، فكانت الحكمة أحب إليَّ .
فهذا من رواية سعيد بن بشير ، وفيه ضعف قد تكلموا فيه بسببه ، فالله أعلم .
والذي رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، في قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } أي : الفقه في الإسلام ، ولم يكن نبيًا ، ولم يوح إليه .
وقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } أي : الفهم والعلم والتعبير ، { أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ } أي : أمرناه أن يشكر الله ، عز وجل ، على ما أتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل ، الذي خصَّه{[22945]} به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي : إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين {[22946]} لقوله{[22947]} تعالى : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] .
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : غني عن العباد ، لا يتضرر بذلك ، ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعًا ، فإنه الغني عمن سواه ؛ فلا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه .
{ لقمان } رجل حكيم بحكمة الله تعالى وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل{[9354]} ، واختلف هل هو نبي مع ذلك أو رجل صالح فقط ، فقال بنبوءته عكرمة والشعبي ، وقال بصلاحه فقط مجاهد وغيره ، وقال ابن عباس : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق ، فقال يا رب إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء وإن عزمت علي فسمعاً وطاعة فإنك ستعصمني{[9355]} وكان قاضياً في بني إسرائيل نوبياً أسود مشقق الرجلين ذا مشافر » ، قاله سعيد بن المسيب ومجاهد وابن عباس ، وقال له رجل كان قد رعى معه الغنم ما بلغ بك يا لقمان ما أرى ؟ قال : صدق الحديث والصمت عما لا يعني ، وقال ابن المسيب : كان سودان مصر من النوبة ، وقال خالد بن الربيع{[9356]} : كان نجاراً ، وقيل كان خياطاً ، وقيل كان راعياً ، وحكم لقمان كثيرة مأثورة ، قيل له وأي الناس شر ؟ قال الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئاً .
وقوله تعالى : { أن اشكر } يجوز أن تكون { أن } في موضع نصب على إسقاط حرف الجر أي «بأن اشكر لله » ، ويجوز أن تكون مفسرة أي كانت حكمته دائرة على الشكر لله ومعانيه وجميع العبادات والمعتقدات داخلة في شكر الله تعالى ، ثم أخبر تعالى أن الشاكر حظه عائد عليه وهو المنتفع بذلك . و { الله } تعالى { غني } عن الشكر فلا ينفعه شكر العباد { حميد } في نفسه فلا يضره كفر الكافرين و { حميد } بمعنى محمود أي هو مستحق ذلك بذاته وصفاته .
الواو عاطفة قصة لقمان على قصة النضر بن الحارث المتقدمة في قوله تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } [ لقمان : 6 ] باعتبار كونها تضمنت عجيب حاله في الضلالة من عنايته بلهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذ سبيل الله هزؤاً ، وباعتبار كون قصة لقمان متضمنة عجيب حال لقمان في الاهتداء والحكمة ، فهما حالان متضادان ؛ فقُطِع النظر عن كون قصة النضر سيقت مساق المقدمة والمدخل إلى المقصود لأن الكلام لما طال في المقدمة خرجت عن سَنن المقدمات إلى المقصودات بالذات فلذلك عطفت عطفَ القصص ولم تُفصل فَصْل النتائج عقب مقدماتها . وقد تتعدد الاعتبارات للأسلوب الواحد فيتخير البليغ في رعيها كقوله تعالى { يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم } في سورة البقرة ( 49 ) ، { ويذبحون أبناءكم } في سورة [ إبراهيم : 1 ] . وافتتاح القصة بحرفي التوكيد : لام القسم و ( قد ) للإنباء بأنها خبر عن أمر مهم واقع .
و { لقمان } اسم رجل حكيم صالح ، وأكثر الروايات في شأنه التي يعضد بعضها وإن كانت أسانيدها ضعيفة تقتضي أنه كان من السود ، فقيل هو من بلاد النوبة ، وقيل من الحبشة .
وليس هو لقمان به عاد الذي قال المثل المشهور : إحدى حُظيات لقمان . والذي ذكره أبو المهوش الأسدي أو يزيد بن عمر يصعق في قوله :
تراه يطوف الآفاق حرصاً *** ليأكل رأس لقمان بن عاد
ويعرف ذلك بلقمان صاحب النسور ، وهو الذي له ابن اسمه لقيم{[321]} وبعضهم ذكر أن اسم أبيه باعوراء ، فسبق إلى أوهام بعض المؤلفين{[322]} أنه المسمى في كتب اليهود بلعام بن باعوراء المذكور خبره في « الإصحاحين » ( 22 و23 ) من « سفر العدد » ، ولعل ذلك وهَم لأن بلعام ذلك رجل من أهل مَدْيَن كان نبيئاً في زمن موسى عليه السلام ، فلعل التوهم جاء من اتحاد اسم الأب ، أو من ظن أن بلعام يرادف معنى لقمان لأن بلعام من البلع ولقمان من اللّقم فيكون العرب سموه بما يرادف اسمه في العبرانية . وقد اختلف السلف في أن لقمان المذكور في القرآن كان حكيماً أو نبيئاً . فالجمهور قالوا : كان حكيماً صالحاً . واعتمد مالك في « الموطأ » على الثاني ، فذكره في « جامع الموطأ » مرتين بوصف لقمان الحكيم ، وذلك يقتضي أنه اشتهر بذلك بين علماء المدينة . وذكر ابن عطية : أن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لم يكن لقمان نبيئاً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسنَ اليقين أحبَّ الله تعالى فأحبه فمنَّ عليه بالحكمة " ويظهر من الآيات المذكورة في قصته هذه أنه لم يكن نبيئاً لأنه لم يمتن عليه بوحي ولا بكلام الملائكة . والاقتصارُ على أنه أوتي الحكمة يومىء إلى أنه أُلهم الحكمة ونطق بها ، ولأنه لما ذكر تعليمه لابنه قال تعالى : { وهو يعظه } [ لقمان : 13 ] وذلك مؤذن بأنه تعليم لا تبليغ تشريع .
وذهب عكرمة والشعبي : أن لقمان نبيء ولفظ الحكمة يسمح بهذا القول لأن الحكمة أطلقت على النبوءة في كثير من القرآن كقوله في داود { وءاتيناه الحكمة وفصلَ الخطاب } [ ص : 20 ] . وقد فسرت الحكمة في قوله تعالى { ومن يُؤْت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] بما يشمل النبوءة . وأن الحكمة « معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه » وأعلاها النبوءة لأنها علم بالحقائق مأمون من أن يكون مخالفاً لما هي عليه في نفس الأمر إذ النبوءة متلقاة من الله الذي لا يعزب عن عمله شيء . وسيأتي أن إيراد قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه } [ لقمان : 14 ] في أثناء كلام لقمان يساعد هذا القول .
وذكر أهل التفسير والتاريخ أنه كان في زمن داود . وبعضهم يقول : إنه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته ، فتعين أنه عاش في بلاد إسرائيل . وذكر بعضهم أنه كان عبداً فأعتقه سيده ، وذكر ابن كثير عن مجاهد : أن لقمان كان قاضياً في بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام ، ولا يوجد ذكر ذلك في كتب الإسرائيليين . قيل كان راعياً لغنم وقيل كان نجاراً وقيل خياطاً . وفي « تفسير ابن كثير » عن ابن وهب أن لقمان كان عبداً لبني الحسحاس وبنو الحسحاس من العرب وكان من عبيدهم سحيم العبد الشاعر المخضرم الذي قتل في مدة عثمان .
وحكمة لقمان مأثورة في أقواله الناطقة عن حقائق الأحوال والمقرّبة للخفيات بأحسن الأمثال . وقد عني بها أهل التربية وأهل الخير ، وذكر القرآن منها ما في هذه السورة ، وذكر منها مالك في « الموطأ » بلاغين في كتاب « الجامع » وذكر حكمة له في كتاب « جامع العتبية » وذكر منها أحمد بن حنبل في « مسنده » ولا نعرف كتاباً جمع حكمة لقمان . وفي « تفسير القرطبي » قال وهب بن منبه : قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب . ولعل هذا إن صح عن وهب بن منبه كان مبالغة في الكثرة .
وكان لقمان معروفاً عند خاصة العرب . قال ابن إسحاق في « السيرة » : قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجّاً أو معتمراً فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذي معك ؟ قال : مجلة لقمان . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرِضها عليّ ، فعرضها عليه ، فقال : إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله . قال ابن إسحاق : فقدم المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج وكان قتله قبل يوم بعاث . وكان رجال من قومه يقولون : إنّا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قومه يدْعُونه الكامل اهـ . وفي « الاستيعاب » لابن عبد البر : أنا شَاكّ في إسلامه كما شك غيري .
وقد تقدم في صدر الكلام على هذه السورة أن قريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقمان وابنه وذلك يقتضي أنه كان معروفاً للعرب . وقد انتهى إليّ حين كتابة هذا التفسير من حِكَم لقمان المأثورة ثمان وثلاثون حكمةً غير ما ذكر في هذه الآية وسنذكرها عند الفراغ من تفسير هذه الآيات .
والإيتاء : الإعطاء ، وهو مستعار هنا للإلهام أو الوحي .
و { لقمان } : اسم علَم مَادته مادة عربية مشتق من اللَّقْم ، والأظهر أن العرب عربوه بلفظ قريب من ألفاظ لغتهم على عادتهم كما عربوا شاول باسم طالوت وهو ممنوع من الصرف لزيادة الألف والنون لا للعجمة .
وتقدم تعريف الحكمة عند قوله تعالى { يؤتي الحكمة من يشاء } في سورة البقرة ( 269 ) ، وقوله { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } في سورة النحل ( 125 ) .
و{ أنْ } في قوله { أن اشكر لله } تفسيرية وليست تفسيراً لفعل { ءاتينا } لأنه نصب مفعوله وهو الحكمة ، فتكون { أنْ } مفسرة للحكمة باعتبار أن الحكمة هنا أقوال أوحيت إليه أو ألهمها فيكون في الحكمة معنى القول دون حروفه فيصلح أن تُفسر ب { أنْ } التفسيرية ، كما فسرت حاجة في قول الشاعر الذي لم يُعرف وهو من شواهد العربية :
إنْ تحملا حاجة لي خفّ محملها *** تستوجبا منة عندي بهــا ويَدا
أنْ تقرءان علي أسماء ويحكمـا *** منـي السلامَ وأن لا تُخبرا أحدا
والصوفية وحكماء الإشراق يرون خواطرَ الأصفياء حجة ويسمونها إلهاماً . ومال إليه جمّ من علمائنا . وقد قال قطب الدين الشيرازي في « ديباجة شرحه على المفتاح » : أما بعد إني قَد ألقي إليَّ على سبيل الإنذار ، من حضرة الملك الجبار ، بلسان الإلهام ، إلاَّ كوَهَم من الأوهام ، ما أورثني التجافيَ عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار السرور ، الخ .
وكان أول ما لُقنه لقمان من الحكمة هو الحكمة في نفسه بأن أمره الله بشكره على ما هو محفوف به من نعم الله التي منها نعمة الاصطفاء لإعطائه الحكمة وإعداده لذلك بقابليته لها . وهذا رأس الحكمة لتضمنه النظر في دلائل نفسه وحقيقته قبل النظر في حقائق الأشياء وقبل التصدي لإرشاد غيره ، وأن أهم النظر في حقيقته هو الشعور بوجوده على حالة كاملة والشعور بموجده ومفيض الكمال عليه ، وذلك كله مقتض لشكر موجده على ذلك . وأيضاً فإن شكر الله من الحكمة ، إذ الحكمة تدعو إلى معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه لقصد العمل بمقتضى العلم ، فالحكيم يبث في الناس تلك الحقائق على حسب قابلياتهم بطريقة التشريع تارة والموعظة أخرى ، والتعليم لقابليه مع حملهم على العمل بما علموه من ذلك ، وذلك العمل من الشكر إذ الشكر قد عُرف بأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من مواهب ونِعم فيما خلق لأجله ؛ فكان شكر الله هو الأهم في الأعمال المستقيمة فلذلك كان رأس الحكمة لأن من الحكمة تقديم العلم بالأنفع على العلم بما هو دونه ؛ فالشكر هو مبدأ الكمالات علماً ، وغايتها عملاً .
وللتنبيه على هذا المعنى أعقب الله الشكر المأمور به ببيان أن فائدته لنفس الشاكر لا للمشكور بقوله { ومَن يشكر فإنما يشكر لنفسه } لأن آثار شكر الله كمالات حاصلة للشاكر ولا تنفع المشكور شيئاً لغناه سبحانه عن شكر الشاكرين ، ولذلك جيء به في صورة الشرط لتحقيق التعلق بين مضمون الشرط ومضمون الجزاء ، فإن الشرط أدل على ذلك من الإخبار . وجيء بصيغة حصر نفع الشكر في الثبوت للشاكر بقوله { فإنما يشكر لنفسه } أي ما يشكر إلا لفائدة نفسه ، ولام التعليل مؤذنة بالفائدة . وزيد ذلك تبيناً بعطف ضده بقوله { ومَن كفر فإن الله غنيّ حميد } لإفادة أن الإعراض عن الشكر بعد استشعاره كفر للنعمة وأن الله غنيّ عن شكره بخلاف شأن المخلوقات إذ يكسبهم الشكر فوائد بين بني جنسهم تجر إليهم منافع الطاعة أو الإعانة أو الإغناء أو غير ذلك من فوائد الشكر للمشكورين على تفاوت مقاماتهم ، والله غني عن جميع ذلك ، وهو { حميد } ، أي : كثير المحمودية بلسان حال الكائنات كلها حتى حال الكافر به كما قال تعالى { ولله يسجد مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً } سورة الرعد ( 15 ) .
ومن بلاغة القرآن وبديع إيجازه أن كان قوله { أن اشكر لله } جامعاً لمبدأ الحكمة التي أوتيها لقمان ، ولأمره بالشكر على ذلك ، فقد جمع قوله { أن اشكر لله } الإرشاد إلى الشكر ، مع الشروع في الأمر المشكور عليه تنبيهاً على المبادرة بالشكر عند حصول النعمة . وإنما قوبل الإعراض عن الشكر بوصف الله بأنه حميد لأن الحمد والشكر متقاربان ، وفي الحديث : « الحَمدُ رأس الشكر » فلما لم يكن في أسماء الله تعالى اسم من مادة الشكر إلا اسمه الشكور وهو بمعنى شاكر ، أي : شاكر لعباده عبادتَهم إياه عُبر هنا باسمه { حميد } . وجيء في فعل { يشكر } بصيغة المضارع للإيماء إلى جدارة الشكر بالتجديد .
واللام في قوله { أن اشكر لي } [ لقمان : 14 ] داخلة على مفعول الشكر وهي لام ملتزم زيادتها مع مادة الشكر للتأكيد والتقوية ، وتقدم في قوله { واشكُرُوا لي } في سورة البقرة ( 152 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد آتينا لقمان الحكمة} أعطيناه العلم والفهم -من غير نبوة- فهذه نعمة، فقلنا له: {أن اشكر لله} عز وجل في نعمه، فيما أعطاك من الحكمة.
{ومن يشكر} لله تعالى في نعمه، فيوحده {فإنما يشكر} يعني فإنما يعمل الخير، {لنفسه ومن كفر} النعم، فلم يوحد ربه عز وجل.
{فإن الله غني} عن عبادة خلقه {حميد} عن خلقه في سلطانه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا لقمان الفقه في الدين، والعقل، والإصابة في القول... وقال آخرون: كان نبيا...
وقوله:"أنِ اشْكُرْ لِلّهِ": يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا لقمان الحكمة، أن احمد الله على ما آتاك من فضله، وجعل قوله "أنِ اشْكُرْ "ترجمة عن الحكمة، لأن من الحكمة التي كان أوتيها، كان شكره الله على ما آتاه. وقوله: "وَمَنْ يَشْكُرْ فإنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ "يقول: ومن يشكر الله على نعمه عنده فإنما يشكر لنفسه، لأن الله يُجزل له على شكره إياه الثواب، وينقذه به من الهلكة. "وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ" يقول: ومن كفر نعمة الله عليه، إلى نفسه أساء، لأن الله معاقبُه على كفرانه إياه، والله غنيّ عن شكره إياه على نعمه، لا حاجة به إليه، لأن شكره إياه لا يزيد في سلطانه، ولا ينقص كفرانه إياه مِن ملكه. ويعني بقوله: "حَمِيدٌ" محمود على كلّ حال، له الحمد على نعمه، كفر العبد نعمته أو شكره عليها. وهو مصروف من مفعول إلى فَعِيل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولقد آتينا لقمان الحكمة}:... أعطيناه العلم والفهم بالكتب المتقدمة.
والفلاسفة يقولون: الحكمة، هي المعرفة مع العمل. والحكيم، هو الذي له المعرفة والعلم والعمل جميعا، فحينئذ يسمى حكيما.
{أن اشكر لله} كأنه قال: {ولقد آتينا لقمان الحكمة} وقلنا له {أن اشكر لله} في ما أعطاك من الحكمة وغير ذلك من النعم...
{ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه} هذا يدل أن الله في ما يأمر عباده، وينهاهم، وفي ما امتحنهم إنما يمتحنهم، ويأمرهم، وينهاهم، لمنافع أنفسهم ولحاجاتهم لا لمنفعة نفسه أو لحاجته حين قال: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه} حتى يتم النعمة ويديمها له، فهو بالشكر ينفع نفسه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{الْحِكْمَةَ} الإصابة في العقل والعقد والنطق. ويقال {الْحِكْمَةَ} متابعة الطريق من حيث توفيق الحق لا من حيث هِمةَ النفس. ويقال {الْحِكْمَةَ} ألا تكون تحت سلطان الهوى. ويقال {الْحِكْمَةَ} الكوْن بحكم من له الحكم. ويقال {الْحِكْمَةَ} معرفة قدْر نَفسك حتى لا تمدّ رِجليك خارجاً عن كسائك. ويقال {الْحِكْمَةَ} ألا تستعصي عَلَى مَنْ تعلم أَنك لا تقاومه.
{أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}: حقيقة الشكر انفراج عين القلب بشهود ملاطفات الرَّبِّ. ويقال الشكرُ تحققكَ بعجزك عن شكره. ويقال الشكر ما به يحصل كمالُ استلذاذ النعمة. ويقال الشكر فضلةٌ تظهر عَلَى اللسان من امتلاء القلب بالسرور؛ فينطلق بمدح المشكور. ويقال الشكر نعتُ كلّ غنيِّ كما أن الكفرانَ وَصفُ كلِّ لَئيم.
قوله تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} لما بين الله فساد اعتقادهم بسبب عنادهم بإشراك من لا يخلق شيئا بمن خلق كل شيء بقوله: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} وبين أن المشرك ظالم ضال، ذكر ما يدل على أن ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة، وإن لم يكن هناك نبوة، وهذا إشارة إلى معنى: وهو أن اتباع النبي عليه السلام لازم فيما لا يعقل معناه إظهارا للتعبد، فكيف ما لا يختص بالنبوة، بل يدرك بالعقل معناه، وما جاء به النبي عليه السلام مدرك بالحكمة،... وذكر حكاية لقمان وأنه أدركه بالحكمة.
{ولقد آتينا لقمان الحكمة} عبارة عن توفيق العمل بالعلم، فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة، وإن أردنا تحديدها بما يدخل فيه حكمة الله تعالى، فنقول حصول العمل على وفق المعلوم، والذي يدل على ما ذكرنا أن من تعلم شيئا ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيما وإنما يكون مبخوتا، ثم الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: {أن اشكر لله} فإن أن في مثل هذا تسمى المفسرة ففسر الله إيتاء الحكمة بقوله: {أن اشكر لله} وهو كذلك، لأن من جملة ما يقال إن العمل موافق للعلم، لأن الإنسان إذا علم أمرين أحدهما أهم من الآخر، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وكان حكمة، وإن أهمل الأهم كان مخالفا للعلم ولم يكن من الحكمة في شيء، لكن شكر الله أهم الأشياء فالحكمة أول ما تقتضي.
وفي الآية مسائل ولطائف الأولى: فسر الله إيتاء الحكمة بالأمر بالشكر، لكن الكافر والجاهل مأموران بالشكر فينبغي أن يكون قد أوتي الحكمة والجواب: أن قوله تعالى: {أن اشكر لله} أمر تكوين معناه آتيناه الحكمة بأن جعلناه من الشاكرين، وفي الكافر الأمر بالشكر أمر تكليف.
المسألة الثانية: قال في الشكر {ومن يشكر} بصيغة المستقبل، وفي الكفران {ومن كفر فإن الله غني}، وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد، فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران، ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله، بل أبدا يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر إدخاله في الوجود، كما قال: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك} وكما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فأشار إليه بصيغة المستقبل تنبيها على أن الشكر بكماله لم يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام، فقال بصيغة الماضي.
المسألة الثالثة: قال تعالى هنا: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر} بتقديم الشكر على الكفران، لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الحكمة} وهو العلم المؤيد بالعمل والعمل المحكم بالعلم، وقال الحرالي: هي العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم، والحكم الحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهراً بالإيالة العالية، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم، وقال ابن ميلق: إن مدارها على إصابة الحق والصواب في القول والعمل، ولهذا قال ابن قتيبة: لا يقال لشخص حكيماً حتى تجتمع له الحكمة في القول والفعل، قال: ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها.
ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال: {أن اشكر} وهو وإن كان تقديره: قلنا له كذا، يؤول إلى "آتيناه الشكر".
{لله} بأن وفقناه له بما سببناه له من الأمر به لأن الحكمة في الحقيقة هي القيام بالشكر لا الإيصاء به، ويمكن أن تكون "أن" مصدرية، ويكون التقدير: آتيناه إياها بسبب الشكر، وعبر بفعل الأمر إعلاماً بأن شكره كان لامتثال الأمر ليكون أعلى.
{ومن كفر} فإنما يضر نفسه، وعبر بالماضي إشارة إلى أن من وقع منه كفر ولو مرة جوزي بالإعراض عنه.
{غني حميد} أي له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلائق، فإن تقدير الكفر عليهم بحيث لا يقدرون على الانفكاك عنه من جملة محامده بالقدرة والعزة والفهم والعظمة. ويجوز -وهو أقرب- أن يعود "غني" إلى الكافر و "حميد" إلى الشاكر، فيكون اسم فاعل، فيكون التقدير: ومن كفر فإنما يكفر على نفسه.
والآية على الأول من الاحتباك: تخصيص الشكر بالنفس أولاً يدل على حذف مثله من الكفر ثانيا، وإثبات الصفتين ثانيا يدل على حذف مثلهما أولاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأيا من كان لقمان فقد قرر القرآن أنه رجل آتاه الله الحكمة. الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله).. وهذا توجيه قرآني ضمني إلى شكر الله اقتداء بذلك الرجل الحكيم المختار الذي يعرض قصته وقوله. وإذن فأحمق الحمقى هو من يخالف عن الحكمة؛ ولا يدخر لنفسه مثل ذلك الرصيد...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل، وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين...
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين، بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه مشتق من (لقم) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى...
"وَلَقَدْ آتَيْنَا".. الإيتاء يقصد به الإلهام، ويكون حين تتوفر للإنسان آلة استقبال سليمة صالحة لاستقبال الإلهام والخاطر من الحق سبحانه وتعالى، وآلة الاستقبال لا تصلح للاستقبال عن الله تعالى إلا إذا كانت على مواصفات الخالق سبحانه صانعها ومبدعها. واقرأ قول الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال 29] وقال سبحانه: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)} [محمد]. إذن: كلّ ما علينا لنأخذ إلهامات الحق سبحانه أن نحتفظ بصفاء البنية التي خلقها الله لتظل بمواصفات خالقها، ثم نسير بها على منهجه تعالى في افعل ولا تفعل، وكان سيدنا لقمان من هذا النوع الصافي الطاهر النقي، الذي لم يخالط جسمه حرام، والذي لا يغفل عن منهج ربه، لذلك آتاه الله الحكمة.
وقد اختلف العلماء فيه: أهو نبي أم غير نبي، والغالب أنه غير نبي، لأن القائلين بنبوته ليس لهم سند صحيح، والجمهور اجتمعوا على أنه رجل صالح مرهف الحس، دقيق الإدراك، والحسّ كما قلنا هو الأصل الأول في المعلومات، وكان لقمان لا يمر على الأشياء إلا بهذا الحس المرهف والإدراك الدقيق العميق، فتتكون لديه مدركات ومواجيد دقيقة تختمر في نفسه، فتتجمع لديه مجموعة من الفضائل والقيم التي تسوس حركة حياته، فيسعد بها في نفسه، بل ويسعد غيره من حوله بما يملك من المنطق المناسب والتعبير الحسن، كذلك كان لقمان.
وهو ليس نبيا ولا رسولا، وسميت إحدى سور القرآن باسمه، وهذا يدلك على أن الإنسان إذا اعتدل مع الله وأخلص في طاعته فإن الله يعطيه من فيضه الواسع، فيكون له ذكر في مصاف الرسل والأنبياء. {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ.. فالذي آتى هو الله عز وجل.
والحكمة: مادة حكم تدل على وضع الشيء في موضعه، ومنها الحاكم؛ لأنه يضع الحق في نصابه، حتى في الدواب نسمي الحديدة التي توضع في فم الفرس لأتحكم في حركته (حكمه).وهي مجموعة من ملكات الفضائل تصدر عنها الأشياء التي تضع كل أمر في محله لكن بيسر وبلا مشقة ولا تعب.
وساعة تسمع من الله تعالى "وَلَقَدْ"... فاعلم أن هنا قسما فالواو واو القسم، والمقسم عليه مؤكد باللام ومؤكد بقد التي تفيد التحقيق.
قوله سبحانه: "آتَيْنَا"..الحق سبحانه وتعالى في إتيانه للأشياء يعني تعدّى ما قدره لمن قدره من خير ظاهر ومن خير مستور. وقبل أن يخلق الله الإنسان خلق له.
ثم يعطينا الحق سبحانه نموذجا للحكمة التي آتاها لقمان: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} هذه هي الحكمة الأولى في الوجود، لأنك إن شكرت الله على ما قدم لك قبل أن توجد، وعلى ما أعطاك قبل أن تسأل، وعلى ما هدى جوارحك لتؤدي مهمتها حتى وأنت نائم، كأنه تعالى يقول لعباده: ناموا أنتم فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم. فإن شكرك لله يهدم أول لبنة من لبنات الاغترار، فالذي يفسد خلافة الإنسان في الأرض أن يغتر بما أعطاه الله وبما وهبه، وينسى أنه خليفة، ويعتبر نفسه أصيلا في الكون.
"حَمِيدٌ": وجاءت هذه الصفة بعد "غَنِيٌّ".. لأن الكافر لو كان يعلم أن الله لم يقطع عنه نعمه رغم كفره به لحمد هذا الإله الذي حلم عليه، ولم يعامله بالمثل...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«اللام» في جملة (أن اشكر لله) لام الاختصاص، و «اللام» في (لنفسه) لام النفع، وبناءً على هذا، فإنّ نفع الشكر، والذي هو دوام النعمة وكثرتها، إضافة إلى ثواب الآخرة يعود على الإنسان نفسه، كما أنّ مضرّة الكفر تحيق به فقط.