اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا لُقۡمَٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ وَمَن يَشۡكُرۡ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٞ} (12)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } لقمان قيل : أعجمي وهو الظاهر فمنعه للتعريف والعجمة الشخصية{[42382]} ، وقيل : عربي مشتق من اللّقْم وهو حينئذ مُرَجَّل لأنه لم يسبق له وضعٌ في النكرات{[42383]} ومنعه حينئذ للتعريف وزيادة الألف والنون{[42384]} ، والعامل في «إذ » مضمر .

قال ابن إسحاق{[42385]} لقمانُ هو نَاعور{[42386]} بن ناحور بن تَارخ ، وهو آزر ، وقال وهب{[42387]} كان ابن أخت أيوب وقال مقاتل : ذكر أنه كان ابن خالة أيوب ، وقال الواقدي{[42388]} : كان قاضياً في بني إسرائيل{[42389]} واتفق العلماء على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً إلا عكرمة فإنه قال كان{[42390]} نبياً وانفرد بهذا القول وقال بعضهم خُيِّرَ لُقْمَانُ بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة ، وروي أنه كان نائماً نصف النهار{[42391]} فنودي يا لقمان : هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض فتحكم بين الناس بالحقّ فأجاب الصوت وقال : إن خَيَّرَنِي ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعاً وطاعة فإني أعْلَمُ إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني فقالت الملائكة بصوت لا يراهم{[42392]} لِمَ يا لقمانُ ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان أن يعن فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ، ومن يختر الدنيا على الآخرة تُغْنه الدنيا ولا يصيب الآخرة فتعجبت الملائكة من حسن مَنْطِقِه فقام من نومه فأعطي الحكمة فانْتَبَه وهو يتكلم بها ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة ، كُلّ ذلك بعفو الله عنه وكان لقمان تؤازره الحكمة ، قال خالد الربعي{[42393]} : كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً ، وقال سعيد بن المسيب{[42394]} : كان خياطاً ، وقيل : كان راعِيَ غنم{[42395]} ، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال : ألستَ فلاناً الراعيَ فبم بَلَغْتَ ما بَلَغْتَ ؟ قال : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة وترك ما لا يَعْنِينِي ، وقال مجاهد{[42396]} : كان عبداً أسود عظيم الشَّفَتَيْنِ مُشَقَّقَ القَدَمَيْنِ ، وقال الحسن : اعتزل لقمان الناس فنزل ما بين الرقّة ( وبيت{[42397]} ) المقدس لا يخالطهم ، وقال أبو جعفر{[42398]} : كان لقمانُ الحبشيُّ عبداً لرجل فجاء به إلى السوق ليبيعه{[42399]} فكَانَ كلما جاء إنسانٌ يشتريه قال له لقمان : ما تصنع بي ( فاعل{[42400]} فيقول : أصنع بك كذا وكذا فيقول : حاجتي إليك أن لا تَشْتِرِيَنِي حتى جاء رجل فقال له : ما تصنع بي ) قال أُصَيِّرُك بواباً على بابي فقال : أنت اشتري{[42401]} فاشتراه وجاء به إلى جاره قال : وكان لمولاه ثلاثُ بناتٍ يَبْغِين في القرية ، وأراد أن يخرج إلى ضيعةٍ له فقال له : إني أَدْخَلْتُ إليهن طعامَهُنَّ وما يَحْتَجْنَ إليه فإذا خرجت فأغلق الباب واقعد من ورائه ولا تفتحه حتى أحضر قال : ففعل فَخَرَجْنَ إليه كما كُنَّ يَخْرُجْنَ فقلن ( له{[42402]} ) : افتح الباب فأبى ( عليهن{[42403]} ) فَسَجَنَّه{[42404]} فَغَسَل الدم وجلس ، فلما قدم{[42405]} مولاه لم يخبره ( ثم عاد{[42406]} مولاه بعد ذلك فخرج إليه وقال : إني قد أدخلت إليهن ما يحتجن إليه فلا تفتح الباب فأغلق الباب فجئن إليه فقلن له : افتح الباب فأبى فَشَجَجْنَه ورجَعنَ فغسل الدم وجلس فلما جاء مولاه لم يخبره ) قال : فقالت الكبرى : ما بال هذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله - عز وجل - مني والله لأتوبَنَّ فتَابَتْ ، ( وقالت{[42407]} ) الصغرى : ما بال هذا العبد الحبشيّ وهذه الكبرى أولى بطاعة الله - عز وجل - مني والله لأتوبَنَّ فَتَابَتْ فقالت الوسطى : ما بال هَاتَيْن وهذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله مني والله لأتوبن فتابت فتُبْنَ إلى الله تعالى وكُنَّ عَوَابِدَ{[42408]} القرية فقال غُوَاةُ القرية ما بال هذا العبد الحبشيّ وبنات فلان أولى بطاعة الله - عز وجل - منّا فتابوا ، وعن مكحول : أن لقمانَ كان عبداً حبشياً لرجل من بني إسرائيل وكان مولاه يلعب بِالنَّرْدِ{[42409]} ويخاطر عليه ، وكان على بابه نهرٌ جارٍ فلعب يوماً بالنَّرْدِ على أن من قهر{[42410]} صاحبه شرب{[42411]} الماء الذي في البحر كله أو افتدى منه فقمر سيد لقمان فقال له القامر : اشرب ما في النهر كله وإلا فافتديه فقال سَلْنِي الفداء فقال : عينيك أَفْقَأهُما أو جميع ما تملك فقال : أمْهِلْنِي يوماً قال لك ذلك .

فأمسى كئيباً حزيناً فكلمه لقمان فأعرض عنه فأعاد عليه القول فأعرض عنه فقال أخبرني فلعل لك عندي فرجاً فأخبره فقال : إذا قال لك الرجلُ اشرب ما في النهر فقل له أشرب ما بين حفتي النهر أو المد ( فإنه{[42412]} ) يقول لك ما بين حفتي النهر فقل له احبس عني المد حتى أشرب ما بين الحفتين فإنه لا يستطيع وتكون قد خرجت مما{[42413]} ضمنته له فعرف الرجل أنه قد صدق فطابت نفسه ، فلما أصبح الرجل جاء فقال أَوْفِ لي شرطي فقال له نعم أشرب ما بين الضفتين أو المد فقال ما بين الضفتين{[42414]} قال فاحبس عني المد قال كيف أستطيع فخصمه قال فأعتقه مولاه فأكرمه الله تعالى وكان يختلف إلى داودَ - عليه السلام - يقتبس منه فاختلف إليه سنة وداود يتخذ درعاً يسأله ما هذا ولم يخبره داود حتى فرغ منها ولَبِسَها{[42415]} على نفسه فقال عند ذاك : الصمت حكمة .

فصل :

لما بين الله تعالى فساد اعتقاد المشركين في عبادة من لا يَخْلٌُق شَيْئاً قوله : { هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } بين أن المشرك ظالم ضالٌّ ذكر ما يدل على أن ضلالهم وظلمهم نقيض الحكمة إن لم يكن هناك نبوة وذكر حكاية لقمان فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } . ( والحكمة{[42416]} ) عبارة عن توفيق العمل بالعلم ، فإن أريد تَحْدِيدُها بما يدخل فيه حكمة الله فنقول : حصول العلم على وفق المعلوم{[42417]} .

قوله : «أَنْ اشْكُرْ » هذه «أن » المفسرة ، فسر الله إيتاء الحكمة بقوله : { أَنِ اشكر للَّهِ } ثم بين أن الشكر لا يشفع{[42418]} إلا الشاكر بقوله : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } وبين أن من كفر لا يتضرر غير الكافر ، فقال : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي غير محتاج إلى شكره ، وقدم الشكر على الكُفْرَانِ ههنا وقال في الروم : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ }{[42419]} لأن الذكر في الروم كان للترهيب ولذلك قال : { يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } فقدم التخويف ، وههنا الذكر للترغيب ؛ لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد{[42420]} .


[42382]:القرطبي 14/59 وإعراب القرآن للنحاس 3/283.
[42383]:السابقان.
[42384]:السابقان.
[42385]:ابن إسحاق محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولى قيس بن مخرمة أبو عبد الله المدنيّ أحد الأئمة الأعلام لا سيما في المغازي والسير عن أبيه وعطاء والزهري وعنه يحيى الأنصاري وعبد الله بن عون، مات سنة 151. انظر: خلاصة الكمال 327 وانظر رأيه في القرطبي 14/59.
[42386]:في القرطبي "باعوراء".
[42387]:وهب بن منبه بن كامل الأنباري الصنعاني أبو عبد الله الإخباري عن ابن عباس وجابر وأبي سعيد، وعنه همام بن نافع وخلق، قتل سنة 110 هـ. انظر: خلاصة الكمال "419". وانظر رأيه في القرطبي 14/59.
[42388]:الواقدي محمد بن عمران بن واقد الأسلمي مولاهم الواقدي أبو عبد الله المدني أحد الأعلام وقاضي العراق عن ابن عجلان وابن جريج ومالك وعنه أحمد بن منصور الرمادي وابن سعد مات سنة 207، انظر: خلاصة الكمال 353.
[42389]:زاد المسير 6/317 والقرطبي 14/59.
[42390]:المرجع السابق.
[42391]:في "ب" وسط النهار.
[42392]:في "ب" لا يراه.
[42393]:السابق والقرطبي 14/59.
[42394]:المراجع السابقة.
[42395]:المراجع السابقة.
[42396]:المراجع السابقة.
[42397]:سقط من "ب".
[42398]:هو ابن جرير الطبري وقد سبقت ترجمته.
[42399]:في "ب" يبيعه بدون لام.
[42400]:ما بين القوسين ساقط من "ب".
[42401]:في "ب" اشترني وهو الأصح.
[42402]:ساقط من "ب".
[42403]:ساقط من "ب".
[42404]:الأصح فشججنه أي الباب- كما في الكلمة الثانية التي ذكرها وكما في "ب".
[42405]:في "ب" جاء.
[42406]:ما بين القوسين كله ساقط من "ب".
[42407]:ساقط أيضاً من "ب".
[42408]:في "ب" عابدات.
[42409]:قال في اللسان "والنرد معروف شيء يلعب به فارسي معرب وليس بعربيّ وهو النردشير" اللسان:" ن ر د" "4392".
[42410]:في "ب" قمر.
[42411]:في "ب" يشرب.
[42412]:ساقط من "ب".
[42413]:في "ب" عما.
[42414]:في "ب" الحفتين بدل من الضفتين.
[42415]:في "ب" ولبسه بتذكيره.
[42416]:ساقط من "ب".
[42417]:قال بذلك فخر الدين الرازي في كتابه: " التفسير الكبير" 25/145.
[42418]:المرجع السابق وفيه ثم بين أن بالشكر لا ينتفع وما في "ب" ثم بين أن الشكر لا ينفع.
[42419]:الآية 44 من السورة السابقة.
[42420]:المرجع السابق.