السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا لُقۡمَٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ وَمَن يَشۡكُرۡ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٞ} (12)

ثم إنه تعالى لما نفاها عنهم أثبتها لبعض أوليائه بقوله تعالى : { ولقد آتينا } بما لنا من العظمة والحكمة { لقمان } وهو عبد من عبيدنا المطيعين لنا { الحكمة } وهو العلم المؤيد بالعمل أو العمل المحكم بالعلم ، قال ابن قتيبة : لا يقال لشخص حكيم حتى يجتمع له الحكمة في القول والفعل .

قال : ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي العقل والفهم والفطنة ، واختلف في نسبه وفي سبب حكمته فقيل : هو لقمان بن باعورا ابن أخت أيوب عليه السلام أو ابن خالته ، وقيل : كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام فلما بعث قطع الفتوى فقيل له فقال : ألا أكتفي إذا كفيت ، وقيل كان قاضياً في بني إسرائيل وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً .

أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه سئل أكان لقمان نبياً قال : لا لم يوح إليه وكان رجلاً حكيماً ، وعن ابن عباس : لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان راعياً أسود ورزقه الله تعالى العتق ورضي قوله ووصيته فقص أمره في القرآن لتتمسكوا بوصيته ، وقال ابن المسيب : كان أسود من سودان مصر خياطاً ، وقال مجاهد : كان عبداً أسود غليظ الشفتين مشقق القدمين ، وقيل كان نجاراً ، وقيل كان راعياً ، وقيل كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة حطب ، وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً ، وقيل خير بين النبوّة والحكمة ، فاختار الحكمة ، وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه إن كنت تراني أسود فقلبي أبيض ، وعن عكرمة قال : كان لقمان أهون مملوك على سيده وأوّل ما رؤي من حكمته أنه بينما هو مع مولاه إذ دخل المخرج وأطال فيه الجلوس فنادى لقمان أنّ طول الجلوس على الحاجة يسيح منه الكبد ويكون منه الباسور ويصعد الحرّ إلى الرأس فخرج وكتب حكمته على الحش . قال : وسكر مولاه فخاطر قوماً على أن يشرب ماء بحيرة فلما أفاق عرف ما وقع منه فدعا لقمان فقال لمثل هذا كنت أخبؤك قال اجمعهم فلما اجتمعوا قال على أي . شيء خاطرتموه . قالوا : على أن يشرب ماء هذه البحيرة . قال : فإن لها موادّاً فاحبسوا موادها عنه ، قال : وكيف نستطيع أن نحبس موادها . قال : فكيف يستطيع أن يشربها ولها مواد .

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لقمان كان عبداً كثير التفكر ، حسن الظنّ ، كثير الصمت ، أحب الله فأحبه الله فمنّ عليه بالحكمة نودي بالخلافة قبل داود فقيل له يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس . قال لقمان : إن أجبرني ربي قبلت فإني أعلم أنه إن فعل ذلك أعانني وعلمني وعصمني ، وإن خيرني اخترت العافية ولم أسأل البلاء فقالت الملائكة : يا لقمان لم ؟ قال : لأنّ الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان فيخذل أو يعان ، فإن أصاب فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً فهو خير من أن يكون شريفاً ضائعاً ، ومن تخير الدنيا على الآخرة . نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة . فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها ، ثم نودي داود بعده بالخلافة فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فوقع في الذي حكاه الله عنه فصفح الله تعالى عنه وتجاوز ، وكان لقمان يؤازره أي : يساعده بعلمه وحكمته فقال داود طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة فصرفت عنك البلية وأوتي داود الخلافة فابتلى بالذنب والفتنة » .

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : «خير الله تعالى لقمان بين الحكمة والنبوّة فاختار الحكمة فأتاه جبريل وهو نائم فذرّ عليه الحكمة فأصبح ينطق بها فقيل له : كيف اخترت الحكمة على النبوّة وقد خيرك ربك ؛ فقال إنه لو أرسل إلي بالنبوّة عزمة لرجوت فيها الفوز منه ولكنت أرجو أن أقوم بها ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوّة فكانت الحكمة أحب إليّ » . وروي أنه دخل على داود وهو يصنع الدروع وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت . فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله . فقال له داود لحق ما سميت حكيماً ، وروي أنّ مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب ثم أمره بمثل ذلك وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا ، وروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال ألست فلان الراعي فيم بلغت ما بلغت ؟ قال بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني ، وعن ابن المسيب أنه قال لأسود : لا تحزن فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى عمر ولقمان كان أسود نوبياً ذا مشافر ، وروي سادات السودان أربعة لقمان الحبشي والنجاشي وبلال ومهجع .

وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في العزلة وواحد في الصمت » وقال لقمان : لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس ، وقال ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع ، ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال الله تعالى { أن اشكر لله } أي : وقلنا له أن أشكر لله على ما أعطاك من الحكمة { ومن يشكر } أي : يجدّد الشكر ويتعاهده بنفسه كائناً من كان { فإنما يشكر لنفسه } أي : لأنّ ثواب شكره له { ومن كفر } أي : النعمة { فإن الله غني } عن الشكر وغيره { حميد } أي : له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلق .