المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} (101)

101- وممن يجاور المدينة من أهل البادية مَنْ يضمر الكفر ويُظهر الإيمان ، ومن سكان المدينة قوم مرنوا على النفاق ، حتى برعوا فيه ، ستروه عن الناس حتى لقد خفي أمرهم عليك - أيها الرسول - ولكن اللَّه هو الذي يعلم حقيقتهم ، وسيعذبهم في الدنيا مرتين : مرة بنصركم على أعدائكم الذين يغيظهم ، ومرة بفضيحتهم وكشف نفاقهم ، ثم يردون في الآخرة إلى عذاب النار وهولها الشديد .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} (101)

قوله تعالى : { وممن حولكم من الأعراب منافقون } ، وهم من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار ، كانت منازلهم حول المدينة ، يقول : من هؤلاء الأعراب منافقون ، " ومن أهل المدينة " ، أي : ومن أهل المدينة من الأوس والخزرج قوم منافقون ، { مردوا على النفاق } ، أي : مرنوا على النفاق ، يقال : تمرد فلان على ربه أي : عتا ومرد على معصيته . أي : مرن وثبت عليها واعتادها . ومنه : المريد والمارد . وقال ابن إسحاق : لجوا فيه وأبوا غيره . وقال ابن زيد : أقاموا عليه ولم يتوبوا . { لا تعلمهم } ، أنت يا محمد ، { نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين } ، اختلفوا في هذين العذابين . قال الكلبي و السدي : " قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان . أخرج ناسا من المسجد وفضحهم ، فهذا هو العذاب الأول . والثاني : عذاب القبر . وقال مجاهد : الأول : القتل و السبي ، والثاني : عذاب القبر . وعنه رواية أخرى : عذبوا بالجوع مرتين . وقال قتادة : الدبيلة في الدنيا وعذاب القبر . وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا ، والأخرى عذاب الآخرة . وعن ابن عباس : الأولى إقامة الحدود عليهم ، والأخرى عذاب القبر . وقال ابن إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسبه ثم عذاب القبر . وقيل : إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، والأخرى عذاب القبر . وقيل الأولى إحراق مسجدهم ، مسجد الضرار ، والأخرى إحراقهم بنار جهنم . { ثم يردون إلى عذاب عظيم } ، أي : إلى عذاب جهنم يخلدون فيه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} (101)

97

ذلك مستوى . . وفي مقابله مستوى :

( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ، مردوا على النفاق ، لا تعلمهم نحن نعلمهم ، سنعذبهم مرتين ، ثم يردون إلى عذاب عظيم ) . .

ولقد سبق الحديث والكشف عن المنافقين عامة - سواء من منافقي المدينة أو منافقي الأعراب - ولكن الحديث هنا عن صنف خاص من المنافقين . صنف حذق النفاق ومرن عليه ، ولجّ فيه ومرد ، حتى ليخفى أمره على رسول اللّه [ ص ] ، مع كل فراسته وتجربته ! فكيف يكون ?

واللّه سبحانه يقرر أن هذه الفئة من الناس موجودة في أهل المدينة وفي الأعراب المحيطين بالمدينة . ويطمئن رسول اللّه - [ ص ] - والمؤمنين معه ، من كيد هذه الفئة الخفية الماكرة الماهرة ؛ كما ينذر هؤلاء الماكرين المهرة في النفاق بأنه سبحانه لن يدعهم ، فسيعذبهم عذابا مضاعفا في الدنيا والآخرة :

( لا تعلمهم نحن نعلمهم . سنعذبهم مرتين . ثم يردون إلى عذاب عظيم ) . . والعذاب مرتين في الدنيا ، الأقرب في تأويله أنه عذاب القلق النازل بهم من توقع انكشاف أمرهم في المجتمع المسلم ؛ وعذاب الموت والملائكة تسألهم أرواحهم وتضرب وجوههم وأدبارهم . أو هو عذاب الحسرات التي تصيبهم بانتصار المسلمين وغلبتهم ؛ وعذاب الخوف من انكشاف نفاقهم وتعرضهم للجهاد الغليظ . . واللّه أعلم بما يريد . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} (101)

يخبر تعالى رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقين ، وفي أهل المدينة أيضا منافقون { مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } أي : مرنوا واستمروا عليه : ومنه يقال : شيطان مريد ومارد ، ويقال : تمرد فلان على الله ، أي : عتا وتجبر .

وقوله : { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } لا ينافي قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } الآية[ محمد : 30 ] ؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين . وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان يراه صباحا ومساء ، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال :

حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن رجل ، عن جُبَير بن مطعم ، رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ، فقال : لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جُحر ثعلب وأصغى إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال : " إن في أصحابي منافقين " {[13799]} ومعناه : أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ، ومن مثلهم صَدَر هذا الكلام الذي سمعه جُبَير بن مطعم . وتقدم في تفسير قوله : { وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } [ التوبة : 74 ] أنه عليه السلام{[13800]} أعلم حُذَيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقًا ، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم ، والله أعلم .

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " أبي عمر البيروتي " من طريق هشام بن عمار : حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا بن جابر ، حدثني شيخ بيروت يكنى أبا عمر ، أظنه حدثني عن أبي الدرداء ؛ أن رجلا يقال له " حرملة " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الإيمان هاهنا - وأشار بيده إلى لسانه - والنفاق هاهنا - وأشار بيده إلى قلبه ولم يذكر الله إلا قليلا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وارزقه حُبّي ، وحبَّ من يحبني ، وصَيِّر أمره إلى خير " . فقال : يا رسول الله ، إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم ، أفلا آتيك بهم ؟ قال : " من أتانا استغفرنا له ، ومن أصر على دينه فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا " {[13801]} قال : وكذا رواه أبو أحمد الحاكم ، عن أبي بكر الباغندي ، عن هشام بن عمار ، به .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في هذه الآية أنه قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس ؟ فلان في الجنة وفلان في النار . فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري ! لعمري أنت بنفسك{[13802]} أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك . قال نبي الله نوح : { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الشعراء : 112 ] وقال نبي الله شعيب : { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [ هود : 86 ] وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } {[13803]} .

وقال السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : " اخرج يا فلان ، فإنك منافق ، واخرج يا فلان فإنك منافق " . فأخرج من المسجد ناسا منهم ، فضحهم . فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة{[13804]} وظن أن الناس قد انصرفوا ، واختبئوا هم من عمر ، ظنوا أنه قد علم بأمرهم . فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا ، فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر ، قد{[13805]} فضح الله المنافقين اليوم . قال ابن عباس : فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد ، والعذاب الثاني عذاب القبر{[13806]} وكذا قال الثوري ، عن السدي ، عن أبي مالك نحو هذا .

وقال مجاهد في قوله : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } يعني : القتل والسباء{[13807]} وقال - في رواية - بالجوع ، وعذاب القبر ، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }

وقال ابن جريج : عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، ثم يردون إلى عذاب النار .

وقال الحسن البصري : عذاب في الدنيا ، وعذاب في القبر{[13808]} وقال عبد الرحمن بن زيد : أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد ، وقرأ قول الله{[13809]} { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا } [ التوبة : 85 ] فهذه المصائب لهم عذاب ، وهي للمؤمنين أجر ، وعذاب في الآخرة في النار { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } قال : النار .

وقال محمد بن إسحاق : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } قال : هو - فيما بلغني - ما هم فيه من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه ، عذاب الآخرة والخلد فيه .

وقال سعيد ، عن قتادة في قوله : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }

ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين ، فقال : " ستة منهم تكفيكهم الدُّبَيْلة : سراج من نار جهنم ، يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتًا " . وذكر لنا أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان إذا مات رجل ممن يُرى أنه منهم ، نظر إلى حذيفة ، فإن صلى عليه وإلا تركه . وَذُكر لنا أن عمر قال لحذيفة : أنشدك بالله ، أمنهم أنا ؟ قال : لا . ولا أومن منها أحدًا بعدك{[13810]} .


[13799]:- المسند (4/83).
[13800]:- في أ : "صلى الله عليه وسلم".
[13801]:- انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (29/76).
[13802]:- في جميع النسخ : "بنصيبك" والتصويب من الطبري. مستفاد من هامش ط. الشعب.
[13803]:- تفسير عبد الرزاق (1/253).
[13804]:- في أ" : "المسجد".
[13805]:- في ت ، ك ، أ : "فقد".
[13806]:- رواه الطبري في تفسيره (14/441).
[13807]:- في أ : "والسبي".
[13808]:- في ت ، أ : "النار".
[13809]:- في ت : "قوله" ، وفي أ : "قول الله تعالى".
[13810]:- رواه الطبري في تفسيره (14/443). والدبيلة : خراج ودمل كبير يظهر في الجوف فيقتل صاحبه غالبا.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} (101)

والإشارة بقوله { وممن حولكم من الأعراب } هي إلى جهينة ومزينة وأسلم وغفار وعصية ولحيان وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة ، فأخبر الله عن منافقيهم ، وتقدير الآية : ومن أهل المدينة قوم أو منافقون هذا أحسن ما حمل اللفظ ، و { مردوا } قال أبو عبيدة : معناه مرنوا عليه ولجوا فيه ، وقيل غير هذا مما هو قريب منه ، وقال ابن زيد : أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون .

والظاهر من معنى اللفظ أن التمرد في الشيء أو التمرد في الشيء أو المرود عليه إنما هو اللجاج والاستهتار به والعتو على الزاجر وركوب الرأي في ذلك ، وهو مستعمل في الشر لا في الخير ، ومن ذلك قولهم شيطان مارد ومريد ، ومن هذا سميت مراد لأنها تمردت ، قال بعض الناس : يقال تمرد الرجل في أمر كذا إذا تجرد له ، وهو من قولهم شجرة مرداء إذا لم يكن عليها ورق ، ومنه { صرح ممرد }{[5857]} ومنه قولهم : تمرد مارد وعز الأبلق{[5858]} ومنه الأمرد الذي لا لحية له ، فمعنى { مردوا } في هذه الآية لجوا فيه واستهتروا به وعتوا على زاجرهم ، ثم نفى عز وجل علم نبيه بهم على التعيين ، وأسند الطبري عن قتادة في قوله { لا تعلمهم نحن نعلمهم } قال : فما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة فلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري ، أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الرسل ، قال نبي الله نوح صلى الله عليه وسلم { وما علمي بما كانوا يعملون }{[5859]} وقال نبي الله شعيب صلى الله عليه وسلم { بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ }{[5860]} وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { لا تعلمهم نحن نعلمهم }{[5861]} .

قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : { سنعذبهم مرتين ثم يردهم إلى عذاب عظيم } في مصحف أنس بن مالك «سيعذبهم » بالياء والكلام على القراءتين وعيد ، واللفظ يقتضي ثلاثة مواطن من العذاب ، ولا خلاف بين المتأولين أن «العذاب العظيم » الذي يردون إليه هو عذاب الآخرة ، وأكثر الناس أن العذاب المتوسط هو عذاب القبر ، واختلف في عذاب المرة الأولى فقال مجاهد وغيره : هو عذابهم بالقتل والجوع ، وهذا بعيد لأن منهم من لم يصبه هذا ، وقال ابن عباس أيضاً{[5862]} : عذابهم هو بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه ، وقال ابن إسحاق : عذابهم هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته ، وقال ابن عباس وهو الأشهر عنه : عذابهم هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق ، وروي في هذا التأويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم جمعة فندد بالمنافقين وصرح وقال اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق واخرج أنت يا فلان واخرج أنت يا فلان حتى أخرج جماعة منهم ، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناس انتشروا وأن الجمعة فاتته فاختبأ منهم حياء ، ثم وصل إلى المسجد فرأى أن الصلاة لم تقض وفهم الأمر{[5863]} .

قال القاضي أبو محمد : وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بهم على جهة التأديب اجتهاداً منه فيهم ، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون ، ولا عذاب أعظم من هذا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين ، فهذا أيضاً من العذاب ، وقال قتادة وغيره : العذاب الأول هو علل وأدواء أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يصيبهم بها ، وأسند الطبري في ذلك عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلاً من المنافقين وقال «ستة منهم تكفيكهم الدبيلة{[5864]} سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تقضي إلى صدره ، وستة يموتون موتاً » ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يظن أنه منهم نظر إلى حذيفة فإن صلى صلى عمر عليه وإلا ترك .

وذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال لحذيفة أنشدك بالله أمنهم أنا ؟ قال لا والله ولا أؤمن منها أحداً بعدك ؟ وقال ابن زيد في قوله تعالى : { سنعذبهم مرتين } أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد ، لكل صنف عذاب ، فهو مرتان ، وقرأ قول الله تعالى : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا }{[5865]} وقال ابن زيد أيضاً «المرتان » هي{[5866]} في الدنيا ، الأولى القتل والجوع والمصائب ، والثانية الموت إذ هو للكفار عذاب ، وقال الحسن : الأولى هي أخذ الزكاة من أموالهم ، و «العذاب العظيم » هو جميع ما بعد الموت ، وأظن الزجّاج أشار إليه .


[5857]:- من قوله تعالى في الآية (44) من سورة النمل: {قال إنه صرح ممرد من قوارير}.
[5858]:- مارد: حصن دومة الجندل، والأبلق: حصن للسمؤل بن عاديا، قيل: وصف بالأبلق لأنه بُني من حجارة مختلفة الألوان بأرض تيماء، وهما حصنان قصدتهما الزباء ملكة الجزيرة فلم تقدر عليهما فقالت: "تمرّد مارد وعزّ الأبلق"، فصار مثلا لكل ما يعزّ ويمتنع على طالبه. (اللسان- مجمع الأمثال للميداني- المستقصى للزمخشري).
[5859]:- من الآية (112) من سورة (الشعراء).
[5860]:- الآية (86) من سورة (هود).
[5861]:- أخرجه عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله تعالى عنه- (الدر المنثور).
[5862]:- قال (أيضا) نظرا للرأي الأساسي لابن عباس رضي الله عنهما وإن كان سيأتي ذكره بعد ذلك.
[5863]:-أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه ابن مردويه عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، وفي آخر هذه الرواية: (فلقي عمر رضي الله عنه رجلا كان بينه وبينه إخاء فقال ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فقال كذا وكذا، فقال عمر رضي الله عنه: أبعدك الله سائر اليوم). (الدر المنثور).
[5864]:-الدّبيلة: الداهية (مصغرة للتكبير)، ويقال: دبلته الدّبيلة.
[5865]:- من الآية (55) من سورة (التوبة).
[5866]:- هكذا في جميع النسخ التي بين يديّ
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} (101)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة} منافقون، {مردوا على النفاق} يعني: حذقوا... {لا تعلمهم} يا محمد، {نحن نعلمهم} يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تعرف نفاقهم، نحن نعرف نفاقهم، {سنعذبهم مرتين} عند الموت تضرب الملائكة الوجوه والأدبار، وفي القبر منكر ونكير، {ثم يردون إلى عذاب عظيم} يعني عذاب جهنم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون، ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون. وقوله:"مَرَدُوا على النّفاقِ" يقول: مرنوا عليه ودربوا به، ومنه شيطان مارد ومريد: وهو الخبيث العاتي، ومنه قيل: تمرّد فلان على ربه: أي عتا ومرد على معصيته واعتادها.

وقال ابن زيد في ذلك:... أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون.

...عن ابن إسحاق: "وَمِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَردُوا على النّفاقِ "أي لجّوا فيه وأبوا غيره. "لا تَعْلَمُهُمْ" يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم يا محمد أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة، ولكنا نحن نعلمهم...

عن قتادة، في قوله: "وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِن الأعْرَابِ مُنافِقُون" إلى قوله: "نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ" قال: فما بال أقوام يتكلفون علم الناس؛ فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري، لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك، قال نبيّ الله نوح عليه السلام: "وما عِلْمِي بِمَا كانُوا يَعْمَلُون"، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: "بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ وما أنا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ"، وقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: "لا تَعْلَمُهُمْ نحْنُ نَعْلَمُهُمْ".

وقوله: "سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ" يقول: سنعذّب هؤلاء المنافقين مرّتين: إحداهما في الدنيا، والأخرى في القبر.

ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا ما هي؛

فقال بعضهم: هي فضيحتهم، فضحهم الله بكشف أمورهم وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم...

والعذاب الثاني: عذاب القبر...

وقال آخرون: معنى ذلك: سنعذّبهم عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة...

وقال آخرون: كان عذابهم إحدى المرّتين مصائبهم في أموالهم وأولادهم، والمرّة الأخرى في جهنم...

وقال آخرون: بل إحدى المرّتين: الحدود، والأخرى: عذاب القبر...

وقال آخرون: بل إحدى المرّتين: أخذ الزكاة من أموالهم، والأخرى: عذاب القبر...

وقال آخرون: بل إحدى المرّتين عذابهم بما يدخل عليهم من الغيظ في أمر الإسلام...ثم عذابهم في القبر إذ صاروا إليه، ثم العذاب العظيم الذي يردّونَ إليه عذاب الآخرة ويخلدون فيه.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذب هؤلاء الذين مردوا على النفاق مرّتين، ولم يضع لنا دليلاً نتوصل به إلى علم صفة ذينك العذابين، وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم، وليس عندنا علم بأيّ ذلك من أيّ، على أن في قوله جلّ ثناؤه: "ثُمّ يِرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ" دلالة على أن العذاب في المرّتين كلتيهما قبل دخولهم النار، والأغلب من إحدى المرّتين أنها في القبر.

وقوله: "ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ" يقول: ثم يردّ هؤلاء المنافقون بعد تعذيب الله إياهم مرّتين إلى عذاب عظيم، وذلك عذاب جهنم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فقَالَ بَعْضُهُمْ: المرد في الشيء: هو النهاية في الشر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)، أي: ثبتوا عليه وداموا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَرَدُوا) أي: عتوا عليه وبالغوا فيه.

أخبر أنهم لشدة مكرهم وخداعهم وعتوهم (لَا تَعْلَمُهُمْ): أنت، (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)؛ لأن من المنافقين من كان يعرفهم الرسول في لحن القول؛ كقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، ومنهم من كان يعرفهم في صلاته؛ كقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى)، ومنهم من كان يعرف نفاقه في تخلفه عن رسول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يعني: عن الغزو -فأخبر- عَزَّ وَجَلَّ -أن هَؤُلَاءِ لشدة عتوهم ومكرهم وفضل خداعهم لا تعرف نفاقهم، نحن نعرف نفاقهم...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

...وأصل المرود: الملاسة. ومنه قوله "صرح ممرد من قوارير "أي مملس، ومنه الأمرد الذي لا شعر على وجهه، والمرودة والمرداء: الرملة التي لا تنبت شيئا، والتمراد: بيت صغير يتخذ للحمام مملس بالطين، والمرداء الصخرة الملساء...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

تشاكل المخلِصُ والمنافِقُ في الصورة فلم يَتَمَيَّزا بالمباني، وإن تنافَيا في الحقائق والمعاني وتقاصر عِلْمُهم عن العرفان فَهَتَك الله لنبيِّه أستارَهم.. فَعَرَفَهم، وهم بإشرافه عليهم جاهلون، وعلى الإقامة في أوطان نفاقهم مصروفون، فلم ينفعهم طولُ إمهاله لهم.

{سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ}: الأولى في الدنيا بالفضيحة فيما ينالهم من المحن والفتن والأمراض، ولا يحصل لهم عليها في الآخرة عِوَضٌ ولا أَجْرٌ ولا مَسَرَّةٌ، والثانية عذابُ القبر.

وقيل المرة الأولى بِقَبْضِ أرواحهم، والثانية عذاب القبر ثم يوم القيامة يُمْتحنون بالعذاب الأكبر.

ويقال المرة الأولى: ظنُّهم أنهم على شيء، والمرة الثانية بخيبة آمالهم وظهور ما لم يحتسبوه لهم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... {مَرَدُواْ عَلَى النفاق}: تمهروا فيه، من مرن فلان عمله، ومرد عليه: إذا درب به وضرى، حتى لان عليه ومهر فيه، ودّل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} أي يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك، لفرط تنوّقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم، {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا يعلمهم إلاّ الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً، ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به، فلهم فيه اليد الطولى...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{منافقون} أي راسخون في النفاق، وكأنه قدمهم لجلافتهم وعتوهم، وأتبعهم من هو أصنع منهم في النفاق فقال: {ومن أهل المدينة}...

{مردوا} أي صُلبوا وداموا وعتوا وعسوا وعصوا وصار لهم به دربة عظيمة وضراوة حتى ذلت لهم فيه جميع أعضائهم الظاهرة والباطنة وصار لهم خلقاً...

ثم استأنف جزاءهم بقوله: {سنعذبهم} أي بوعد لا خلف فيه {مرتين} أي إحداهما برجوعك سالماً وشفوف أمرك وعلو شأنه وضخامة أركانه وعز سلطانه وظهور برهانه، فإنهم قطعوا لغباوتهم وجلافتهم وقساوتهم كما أشرت إليه بقولي {ويتربص بكم الدوائر} -أنك لا ترجع هذه المرة من هذه السفرة لما يعرفون من ثباتك للأقران، وإقدامك على الليوث الشجعان، واقتحامك للأهوال، إذا ضاق المجال، ونكص الضراغمة الأبطال، ومن عظمة الروم وقوتهم وتمكنهم وكثرتهم، وغاب عن الأغبياء وخفي عن الأشقياء الأغنياء أن الله الذي خلقهم أعظم منهم وأكبر، وجنوده أقوى من جنودهم وأكثر؛ والثانية بعد وفاتك بقهر أهل الردة ومحقهم ورجوع ما أصلته بخليفتك الصديق رضي الله عنه إلى ما كان عليه في أيامك من الظهور وانتشار الضياء والنور والحكم على من خالفه بالويل والثبور...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{ومِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ومِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} بعد أن بين تعالى حال كملة المؤمنين كلهم قفى عليه بذكر مردة المنافقين من أهل البدو والحضر، وعطفهم عليهم من باب عطف الضد على الضد، فهو يقول: إن بعض الأعراب الذين حولكم أيها المؤمنون منافقون... وإن من أهل المدينة نفسها منافقين أيضا من الأوس والخزرج غير مَن أعلم الله رسوله بهم في هذه السورة بما صدر عنهم من الأقوال والأفعال المنافية للإيمان، وقد وصف هؤلاء بقوله: {مردوا على النفاق} أي مرنوا عليه وحذقوه حتى بلغوا الغاية من إتقانه، وجعله بحيث لا يشعر أحد به، لاتقائهم جميع الأمارات والشبهات التي تدل عليه. يقال مرد على الشيء يمرد (كقعد يقعد) مرودا إذا مرن عليه. وإذا عتا واشتد فيه حتى يتعذر إرجاعه عنه. ومن الأول الغلام الأمرد الذي لم ينبت الشعر في وجهه، والشجرة المرداء التي لا ورق فيها، ومنه مرد الشيء تمريدا إذا صقله وملسه حتى صار أملس لا حرشة فيه ولا خشونة، ومنه (صرح ممرد من قوارير) قال في اللسان: وتأويل المرود أن يبلغ الغاية التي تخرج من جملة ما عليه الصنف. ثم قال: والمرود على الشيء: المرون عليه، ومرد على الكلام أي مرن عليه لا يعبأ به [أي لا يعني أن يتكلف له] قال الله تعالى {ومِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ}، قال الفراء: يريد مرنوا عليه وجربوا، كقولك تمردوا، وقال ابن الأعرابي المرد التطاول بالكبر والمعاصي ومنه قوله: {مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} أي تطاولوا اه.

{لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا تعرفهم أيها الرسول بفطنتك ودقة فراستك التي تنظر فيها بنور الله لحذقهم في التقية وتجنب مثارات الشبهة، وأكد هذا النفي بإثبات العلم بأعيانهم له وحده عز وجل، ولعلهم أخفى نفاقا وأشد تقية ممن قال فيهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ولَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ واللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:29، 30].

فهؤلاء ممن لم يعلمه الله بأعيانهم كما أعلمه بمن أشير إليهم في الآية [74]، ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم في هذه السورة، لأنهم بمرودهم على النفاق يتحامون ما يكون شبهة على إيمانهم، فضرره قاصر عليهم، وحكمة إخباره تعالى إياه بذلك أن يعلموا هم أنه الله عليم بما يسرون من نفاقهم، ويحذروا أن يفضحهم كما فضح غيرهم، ليتوب المستعد للإيمان منهم وهو في ستر الله تعالى قبل أن ينجز ما أوعدهم بقوله: {سنعذبهم مرتين} أي في الحياة الدنيا: إحداهما ما يصيبهم من المصائب وتوبيخ الضمائر، وانتظار الفضيحة بهتك أستار السرائر، وما يتلو ذلك من جهادهم إذا ظهر نفاقهم كغيرهم، والثانية آلام الموت وزهوق أنفسهم وهم كافرون وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند موتهم، فأقرب ما يفسر به العذاب مرتين هو ما تقدم في تفسير الآيات 55 و73 و74 و82 و83، ففيه بيان لكل ما يصيب المنافقين في الدنيا من عذاب الوجدان الباطن، وعذاب من يفتضح أمرهم في الظاهر، وورد في التفسير المأثور أقوال في هاتين المرتين بعضها في معنى ما ذكرنا وبعضها مردود ومتناقض.

{ثم يردون إلى عذاب عظيم} أي في الآخرة وهو عذاب جهنم، وهم في الدرك الأسفل منها كما تقدم...

والعبرة في هذا السياق أن هؤلاء المنافقين فريقان: فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى صار أملس ناعما لا يكاد يشعر أحد بشيء يستنكره منه فيظهر عليه، وكل من الفريقين يوجد في كل عصر...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

كانت الأعراب الذين حول المدينة قد خلصوا للنبيء صلى الله عليه وسلم وأطاعوه وهم جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ولحيان، وعصية، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن في هؤلاء منافقين لئلا يغتر بكل من يظهر له المودة. وكانت المدينة قد خلص أهلها للنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعوه فأعلمه الله أن فيهم بقية مردوا على النفاق لأنه تأصل فيهم من وقت دخول الإسلام بينهم. وتقديم المجرور للتنبيه على أنه خبر، لا نعت. و (مِن) في قوله {وممن حولكم} للتبعيض و (مِن) في قوله: {من الأعراب} لبيان (مَن) الموصولة.

وأشير بقوله: {لا تعلمهم نحن نعلمهم} إلى أن هذا الفل الباقي من المنافقين قد أراد الله الاستئثار بعلمه ولم يُطلع عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أطلعه على كثير من المنافقين من قبلُ. وإنما أعلمه بوجودهم على الإجمال لئلا يغتر بهم المسلمُون، فالمقصود هو قوله: {لا تعلمهم}. وجملة {نحن نعلمهم} مستأنفة. والخبر مستعمل في الوعيد، كقوله: {وسيرى الله عملكم ورسوله} [التوبة: 94]، وإلا فإن الحكم معلوم للمخاطب فلا يحتاج إلى الإخبار به. وفيه إشارة إلى عدم الفائدة للرسول صلى الله عليه وسلم في علمه بهم، فإن علم الله بهم كاف.

.. {ثم يردون إلى عذاب عظيم}.

وقد تحير المفسرون في تعيين المراد من المرتين. وحملوه كلهم على حقيقة العدد. وذكروا وجوهاً لا ينشرح لها الصدر. والظاهر عندي أن العدد مستعمل لمجرد قصد التكرير المفيد للتأكيد كقوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4] أي تأمل تأملاً متكرراً. ومنه قول العرب: لبيك وسعديك، فاسم التثنية نائب مناب إعادة اللفظ. والمعنى: سنعذبهم عذاباً شديداً متكرراً مضاعفاً، كقوله تعالى: {يضاعَف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30]. وهذا التكرر تختلف أعداده باختلاف أحوال المنافقين واختلاف أزمان عذابهم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

أوضح سبحانه: وطِّنوا أنفسكم على أن من حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون، وهذا التوطّين يعطي مناعة اليقظة؛ حتى لا يندس واحد من المنافقين على أصحاب الغفلة الطيبين من المؤمنين، فينبههم الحق: انتبهوا فأنتم تعيشون في مجتمع محاط بالمنافقين. والتطعيم ضد الداءات التي تصيب الأمم وسيلة من وسائل محاربة العدو... وهكذا يربي الحق المناعة بحيث لا يمكن أن يهاجم المؤمنون عن غفلة، فيقول: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} و "مرد "يمرد أي: تدرب وتمرن، ويبقى الأمر عنده حرفة، وكأن الواحد منهم يجيد النفاق إجادة تامة، وكل ذلك ليوجد مناعة في الأمة الإسلامية؛ ، حتى يكون المؤمن على بصيرة في مواجهة أي شيء، فإذا رأى أي سلوك فيه نفاق اكتشفه على الفور. واليقظة تدفع عنك الضر، ولا تمنع عنك الخير...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

...إنّ هذا التفاوت في التعبير عن المنافقين الداخليين والخارجيين في الآية يلاحظ جلياً، وربّما كان ذلك إِشارة إِلى أنّ المنافقين الداخليين أكثر تسلطاً على النفاق، وبالتالي فهم أشد خطراً، فعلى المسلمين أن يراقبوا هؤلاء بدقّة، لكن يجب أن لا يغفلوا عن المنافقين الخارجين، بل يراقبونهم أيضاً. لذلك تقول الآية مباشرة بعد ذلك (لا تعلمهم نحن نعلمهم) ومن الطبيعي أنّ هذا إشارة العلم الطبيعي للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملا على أسرارهم عن طريق الوحي والتعليم الإِلهي.

وفي النهاية تبيّن الآية صورة العذاب الذي سيصيب هؤلاء: (سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردون إِلى عذاب عظيم).

لا شك أنّ العذاب العظيم إِشارة إلى عذاب يوم القيامة، إلاّ أنّ بين المفسّرين نقاشاً واحتمالات عديدة في نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما. إلاّ أنّ الذي يرجحه النظر أن واحداً من هذين العذابين هو العقاب الاجتماعي لهؤلاء، والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم، والكشف عمّا في ضمائرهم من خبيث النوايا، وهذا يستتبع خسرانهم لكل وجودهم الاجتماعي، والدليل على ذلك ما قرأناه في الآيات السابقة، وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ أعمال هؤلاء عندما كانت تبلغ حد الخطر، كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف هؤلاء الناس بأسمائهم وصفاتهم، بل وربّما طردهم من المسجد.

والعذاب الثّاني هو ما أشارت إِليه الآية (50) من سورة الأنفال، حيث تقول هناك: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم).

ويحتمل أيضاً أن يكون العذاب الثّاني إشارة إلى المعاناة النفسية والعذاب الروحي الذي كان يعيشه هؤلاء نتيجة انتصارات المسلمين في كل الجوانب والأبعاد والمجالات.