قوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبر } . أي بالطاعة ، نزلت في علماء اليهود ، وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المؤمنين إذا سأله عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم : اثبت على دينه ، فإن أمره حق ، وقوله صدق . وقيل : هو خطاب لأحبارهم حيث أمروا أتباعهم بالتمسك بالتوراة ، ثم خالفوا وغيروا نعت محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وتنسون أنفسكم } . أي تتركون أنفسكم فلا تتبعونه .
قوله تعالى : { وأنتم تتلون الكتاب } . تقرؤون التوراة فيها نعته وصفته .
قوله تعالى : { أفلا تعقلون } . أنه حق فتتبعونه ، والعقل مأخوذ من عقال الدابة ، وهو ما يشد به ركبة البعير فيمنعه من الشرود ، فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والجحود .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو عمرو بكر بن محمد المزني ، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله حفيد العباس بن حمزة ، أنا الحسين بن الفضل البجلي ، أنا عفان ، أنا حماد بن سلمة ، أنا علي بن زيد عن أنس ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء خطباء من أمتك ، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا علي بن عبد الله ، أنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال : قال أسامة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار ، فيدور كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ! ما شأنك ؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " وقال شعبة عن الأعمش : " فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحله " .
ثم ينكر عليهم - وبخاصة أحبارهم - أن يكونوا من الدعاة إلى الإيمان بحكم أنهم أهل كتاب بين مشركين ، وهم في الوقت ذاته يصدون قومهم عن الإيمان بدين الله ، المصدق لدينهم القديم :
( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . .
ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل ، فإنه في إيحائه للنفس البشرية ، ولرجال الدين بصفة خاصة ، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل .
إن آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة - أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه ؛ ويدعون إلى البر ويهملونه ؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ؛ ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى ، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص ، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين ، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان ! كما كان يفعل أحبار يهود !
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه ، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها . وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم ، لأنهم يسمعون قولا جميلا ، ويشهدون فعلا قبيحا ؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة ؛ وينطفىء في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان ؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين .
إن الكلمة لتنبعث ميتة ، وتصل هامدة ، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة ، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها . ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول ، وتجسيما واقعيا لما ينطق . . عندئذ يؤمن الناس ، ويثق الناس ، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق . . إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها ؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها . . إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة ، لأنها منبثقة من حياة .
والمطابقة بين القول والفعل ، وبين العقيدة والسلوك ، ليست مع هذا أمرا هينا ، ولا طريقا معبدا . إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة . وإلى صلة بالله ، واستمداد منه ، واستعانة بهديه ؛ فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره ، أو عما يدعو إليه غيره . والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته ، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه ؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ؛ ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى ، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله ؛ فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي ، أقوى من كل قوي . قوي على شهوته وضعفه . قوي على ضروراته واضطراراته . قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه .
يقول تعالى : كيف يليق بكم - يا معشر أهل الكتاب ، وأنتم تأمرون الناس بالبر ، وهو جماع الخير - أن تنسوا أنفسكم ، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به ، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب ، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله ؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم ؛ فتنتبهوا من رَقدتكم ، وتتبصروا من عمايتكم . وهذا كما قال عبد الرزاق عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } قال : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه ، وبالبر ، ويخالفون ، فَعَيّرهم الله ، عز وجل . وكذلك قال السدي .
وقال ابن جريج : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ، وَيَدَعُونَ العملَ بما يأمرون به الناس ، فعيرهم الله بذلك ، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي : تتركون أنفسكم { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعَهْد من التوراة ، وتتركون أنفسكم ، أي : وأنتم{[1654]} تكفرون بما فيها من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي ، وتنقضون ميثاقي ، وتجحدون ما تعلمون{[1655]} من كتابي .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في هذه الآية ، يقول : أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم{[1656]} به من إقام الصلاة ، وتنسون أنفسكم .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني علي بن الحسن ، حدثنا مُسلم الجَرْمي ، حدثنا مَخْلَد بن الحسين ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قِلابة في قول الله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } قال : قال أبو الدرداء : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقُت الناس في ذات الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية : هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق ، فقال الله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُون }
والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم{[1657]} في حق أنفسهم ، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه ، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له ، بل على تركهم له ، فإن الأمر بالمعروف [ معروف ]{[1658]} وهو واجب على العالم ، ولكن [ الواجب و ]{[1659]} الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به ، ولا يتخلف عنهم ، كما قال شعيب ، عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] . فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف . وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها ، وهذا ضعيف ، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية ؛ فإنه لا حجة لهم فيها . والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف ، وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه ، [ قال مالك عن ربيعة : سمعت سعيد بن جبير يقول له : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر . وقال مالك : وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء ؟ قلت ]{[1660]} ولكنه - والحالة هذه - مذموم على ترك{[1661]} الطاعة وفعله المعصية ، لعلمه بها ومخالفته على بصيرة ، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك ، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي المعمري ، قالا حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا علي بن سليمان الكلبي ، حدثنا الأعمش ، عن أبي تَميمة الهُجَيمي ، عن جندب بن{[1662]} عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه " {[1663]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا وَكِيع ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد هو ابن جدعان ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم تُقْرَض بمقاريض{[1664]} من نار . قال : قلت : من هؤلاء ؟ " قالوا : خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون ؟{[1665]} .
ورواه عبد بن حميد في مسنده ، وتفسيره ، عن الحسن بن موسى ، عن حماد بن سلمة به .
ورواه ابن مردويه في تفسيره ، من حديث يونس بن محمد المؤدب ، والحجاج بن مِنْهَال ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به .
وكذا رواه يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة به .
ثم قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا عمر بن قيس ، عن علي بن زيد{[1666]} عن ثمامة ، عن أنس ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار . قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ " قال : هؤلاء خطباء أمتك ، الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم .
وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه - أيضًا - من حديث هشام الدَّستَوائيّ ، عن المغيرة - يعني ابن حبيب - ختن مالك بن دينار ، عن مالك بن دينار ، عن ثمامة ، عن أنس بن مالك ، قال : لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم تُقْرض شفاههم{[1667]} ، فقال : " يا جبريل ، من هؤلاء ؟ " قال : هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ؛ أفلا يعقلون ؟{[1668]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : قيل لأسامة - وأنا رديفه - : ألا تكلم عثمان ؟ فقال : إنكم تُرَون أني لا أكلمه إلا أسمعكم . إني لا أكلمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا - لا أحب أن أكون أول من افتتحه ، والله لا أقول لرجل إنك خير الناس . وإن كان عليّ أميرًا - بعد أن{[1669]} سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، قالوا : وما سمعته يقول ؟ قال : سمعته يقول : " يُجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق به أقتابه{[1670]} ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهلُ النار ، فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " {[1671]} .
ورواه البخاري ومسلم ، من حديث سليمان بن مِهْرَان الأعمش ، به نحوه{[1672]} .
[ وقال أحمد : حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء " {[1673]} . وقد ورد في بعض الآثار : أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ، ليس من يعلم كمن لا يعلم . وقال تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ } [ الزمر : 9 ] . وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون : بم دخلتم النار ؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم ، فيقولون : إنا كنا نقول ولا نفعل " {[1674]} رواه من حديث الطبراني عن أحمد بن يحيى بن حيان{[1675]} الرقي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الداهري{[1676]} عن عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره ]{[1677]} .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : إنه جاءه رجل ، فقال : يا ابن عباس ، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، قال : أو بلغت ذلك ؟ قال : أرجو . قال : إن لم تخش أن تفْتَضَح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل . قال : وما هن ؟ قال : قوله عز وجل{[1678]} { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أحكمت هذه ؟ قال : لا . قال : فالحرف الثاني . قال : قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ، 3 ] أحكمت هذه ؟ قال : لا . قال : فالحرفَ الثالث . قال : قول العبد الصالح شعيب ، عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [ هود : 88 ] أحكمت هذه الآية ؟ قال : لا . قال : فابدأ بنفسك .
وقال الطبراني{[1679]} حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا زيد بن الحريش ، حدثنا عبد الله بن خِرَاش ، عن العوام بن حوشب ، عن [ سعيد بن ]{[1680]} المسيب بن رافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال ، أو دعا إليه " {[1681]} .
إسناده فيه ضعف ، وقال إبراهيم النخعي : إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } وقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ، 3 ] وقوله إخبارا عن شعيب : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] .
وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو :
ما أقبح التزهيد من واعظ *** يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا *** أضحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الناس فما باله *** يستفتح الناس ويسترقد
الرزق مقسوم على من ترى *** يسقى له الأبيض والأسود
وقال بعضهم : جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال السكوت ، ثم أنشأ يقول :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي والطبيب مريض
قال : فضج الناس بالبكاء . وقال أبو العتاهية الشاعر :
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى *** وريح الخطايا من شأنك تقطع . . .
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى *** بالقول منك وينفع التعليم
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال : دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة ، فقيل لي في المنام : هي امرأة في الكوفة يقال لها : ميمونة السوداء ، فقصدت الكوفة لأراها . فقيل لي : هي ترعى غنما بواد هناك ، فجئت إليها فإذا هي قائمة تصلي والغنم ترعى حولها وبينهن الذئاب لا ينفرن منه ، ولا يسطو الذئاب عليهن . فلما سلمت قالت : يا ابن زيد ، ليس الموعد هنا إنما الموعد ثَمّ ، فسألتها عن شأن الذئاب والغنم . فقالت : إني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم . فقلت لها : عظيني . فقالت : يا عجبا من واعظ يوعظ ، ثم قالت : يا ابن زيد ، إنك لو وضعت موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها ، يا ابن زيد ، إنه بلغني ما من عبد أعطى من الدنيا شيئا فابتغى إليه تائبا إلا سلبه الله حب الخلوة وبدله بَعْدَ القرب البعد وبعد الأنس الوحشة ثم أنشأت تقول :
يا واعظًا قام لا حساب *** يزجر قوما عن الذنوب
تنه عنه وأنت السقيم حقا *** هذا من المنكر العجيب
تنه عن الغي والتمادي *** وأنت في النهي كالمريب
لو كنت أصلحت قبل هذا *** غيك أو تبت من قريب
كان لما قلت يا حبيبي *** موضع صدق من القلوب{[1682]}
{ أتأمرون الناس بالبر } تقرير مع توبيخ وتعجيب . والبر : التوسع في الخير ، من البر وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ، ولذلك قيل ثلاثة : بر في عبادة الله تعالى ، وبر في مراعاة الأقارب . وبر في معاملة الأجانب .
{ وتنسون أنفسكم } وتتركونها من البر كالمنسييات ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في أحبار المدينة ، كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه .
وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون { وأنتم تتلون الكتاب } تبكيت كقوله : { وأنتم تعلمون } أي تتلون التوراة ، وفيها الوعيد على العناد وترك البر ومخالفة القول العمل .
{ أفلا تعقلون } قبح صنيعكم فيصدكم عنه ، أو أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون وخامة عاقبته . والعقل في الأصل الحبس ، سمي به الإدراك الإنساني لأنه يحبسه عما يقبح ، ويعقله على ما يحسن ، ثم القوة التي بها النفس تدرك هذا الإدراك . والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه سوء صنيعه وخبث نفسه ، وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل ، فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته ، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم غيره ، لا منع الفاسق عن الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر .
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( 44 )
وقوله تعالى : { أتأمرون الناس } خرج مخرج الاستفهام ، ومعناه التوبيخ( {[551]} ) ، و «البر » يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على كل واحد منها اسم بر ، { وتنسون } بمعنى تتركون كما قال الله تعالى : { نسوا الله فنسيهم }( {[552]} ) [ التوبة : 67 ] .
واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية ، فقال ابن عباس : «كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة ، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم » .
وقالت فرقة : كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد دلوه على ذلك ، وهم لا يفعلونه .
وقال ابن جريج : «كان الأحبار يحضون الناس على طاعة الله ، وكانوا هم يواقعون المعاصي » . وقالت فرقة : كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون .
وقوله تعالى : { وأنتم تتلون } معناه : تدرسون وتقرؤون ، ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به ، و { الكتاب } التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة .
وقوله تعالى : { أفلا تعقلون } معناه : أفلا تمنعون أنفسكم( {[553]} ) من مواقعة هذه الحال المردية لكم ؟ والعقل : الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير ، أي يمنعه من التصرف ، ومنه المعقل أي موضع الامتناع .
اعتراض بين قوله : { وأقيموا الصلاة } [ البقرة : 43 ] وقوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] ووجه المناسبة في وقوعه هنا أنه لما أمرهم بفعل شعائر الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وذيل ذلك بقوله : { واركعوا مع الراكعين } [ البقرة : 43 ] ليشير إلى أن صلاتهم التي يفعلونها أصبحت لا تغني عنهم ، ناسب أن يزاد لذلك أن ما يأمر به دينهم من البر ليسوا قائمين به على ما ينبغي ، فجيء بهذا الاعتراض ، وللتنبيه على كونه اعتراضاً لم يقرن بالواو لئلا يتوهم أن المقصود الأصلي التحريض على الأمر بالبر وعلى ملازمته ، والغرض من هذا هو النداء على كمال خسارهم ومبلغ سوء حالهم الذي صاروا إليه حتى صاروا يقومون بالوعظ والتعليم كما يقوم الصانع بصناعته والتاجر بتجارته لا يقصدون إلا إيفاء وظائفهم الدينية حقها ليستحقوا بذلك ما يعوضون عليه من مراتب ورواتب فهم لا ينظرون إلى حال أنفسهم تجاه تلك الأوامر التي يأمرون بها الناس .
والمخاطب بقوله : { أتأمرون } جميع بني إسرائيل الذين خوطبوا من قبل ، فيقتضي أن هذه الحالة ثابتة لجميعهم أي أن كل واحد منهم تجده يصرح بأوامر دينهم ويشيعها بين الناس ولا يمتثلها هو في نفسه ، ويجوز أن يكون المقصود بهذا الخطاب فريقاً منهم فإن الخطاب الموجه للجماعات والقبائل يأخذ كل فريق ما هو حظه من ذلك الخطاب ، فيكون المقصود أحبارهم وعلماءهم وهم أخص بالأمر بالبر ، فعلى الوجه الأول يكون المراد بالناس إما المشركين من العرب فإن اليهود كانوا يذكرون لهم ما جاء به دينهم والعرب كانوا يحفلون بسماع أقوالهم كما قال تعالى : { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } [ البقرة : 89 ] وإما أن يكون المراد من { الناس } مَن عدا الآمر كما تقول أفعل كما يفعل الناس وكقوله : { إن الناس قد جمعوا لكم } [ آل عمران : 173 ] أي أيأمر الواحد غيره وينسى نفسه ، وعلى الوجه الثاني يكون المراد بالناس العامة من أمة اليهود أي كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم ؟ ففيه تنديد بحال أحبارهم أو تعريض بأنهم يعلمون أن ما جاء به رسول الإسلام هو الحق فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ ولا يطلبون نجاة أنفسهم .
والاستفهام هنا للتوبيخ لعدم استقامة الحمل على الاستفهام الحقيقي فاستعمل في التوبيخ مجازاً بقرينة المقام وهو مجاز مرسل لأن التوبيخ يلازم الاستفهام لأن من يأتي ما يستحق التوبيخ عليه من شأنه أن يتساءل الناس عن ثبوت الفعل له ويتوجهون إليه بالسؤال فينتقل من السؤال إلى التوبيخ ويتولد منه معنى التعجيب من حال الموبخ وذلك لأن الحالة التي وبخوا عليها حالة عجيبة لما فيها من إراد الخير للغير وإهمال النفس منه فحقيق بكل سامع أن يعجب منها ، وليس التعجب بلازم لمعنى التوبيخ في كل موضع بل في نحو هذا مما كان فيه الموبخ عليه غريباً غير مألوف من العقلاء فإذا استعمل الاستفهام في لازم واحد فكونه مجازاً مرسلاً ظاهر وإذا استعمل في لازمين يتولد أحدهما من الآخر أو متقاربين فهو أيضاً مجاز مرسل واحد لأن تعدد اللوازم لا يوجب تعدد العلاقة ولا تكرر الاستعمال لأن المعاني المجازية مستفادة من العلاقة لا من الوضع فتعدد المجازات للفظ واحد أوسع من استعمال المشترك وأيّاً ما كان فهو مجاز مرسل على ما اختاره السيد في « حاشية المطول » في باب الإنشاء علاقته اللزوم وقد تردد في تعيين علاقته التفتزاني وقال : إنه مما لم يحم أحد حوله .
والبر بكسر الباء : الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة والمعاملة ، وفعله في الغالب من باب علم إلا البر في اليمين فقد جاء من باب علم وباب ضرب ، ومن الأقوال المأثورة البر ثلاثة : بر في عبادة الله وبر في مراعاة الأقارب وبر في معاملة الأجانب ، وذلك تبع للوفاء بسعة الإحسان في حقوق هذه الجوانب الثلاثة .
والنسيان ذهاب الأمر المعلوم من حافظة الإنسان لضعف الذهن أو الغفلة ويرادفه السهو وقيل السهو الغفلة اليسيرة بحيث يتنبه بأقل تنبيه ، والنسيان زواله بالكلية وبعض أهل اللغة فسر النسيان بمطلق الترك وجعله صاحب « الأساس » مجازاً وهو التحقيق وهو كثير في القرآن . والنسيان هنا مستعار للترك عن عمد أو عن التهاون بما يذكر المرء في البر على نحو ما . قيل في قوله تعالى : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } [ الماعون : 5 ] أي وتتركون أنفسكم من ذلك أي من أمرها بالبر أو وتنسون أن تأمروا أنفسكم بالبر وفي هذا التقدير يبقى النسيان على حقيقته لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون بمثل ما ينهون عنه فإذا تصدوا إلى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه وقد يرى الإنسان عيب غيره لأنه يشاهده ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهدها ولأن العادة تنسيه حاله . ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس فيكون البر راجعاً إلى جميع ما تضمنته الأوامر السابقة من التفاصيل فهم قد أمروا غيرهم بتفاصيلها ونسوا أنفسهم عند سماعها وذلك يشمل التصديق بدين الإسلام لأنه من جملة ما تضمنته التوراة التي كانوا يأمرون الناس بما فيها .
وجملة : { وتنسون أنفسكم } يجوز أن تكون حالاً من ضمير { تأمرون } أو يكون محل التوبيخ والتعجب هو أمر الناس بالبر بقيد كونه في حال نسيان ، ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على { تأمرون } وتكون هي المقصودة من التوبيخ والتعجيب ويجعل قوله : { أتأمرون الناس } تمهيداً لها على معنى أن محل الفظاعة الموجبة للنهي هي مجموع الأمرين .
وبهذا تعلم أنه لا يتوهم قصد النهي عن مضمون كلا الجملتين إذ القصد هو التوبيخ على اتصاف بحالة فظيعة ليست من شيم الناصحين لا قصد تحريم فلا تقع في حيرة من تحير في وجه النهي عن ذلك ولا في وهم من وهم فقال : إن الآية دالة على أن العاصي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر كما نقل عنهم الفخر في « التفسير » فإنه ليس المقصود نهي ولا تحريم وإنما المقصود تفظيع الحالة ويدل لذلك أنه قال في تذييلها { أفلا تعقلون } ولم يقل أفلا تتقون أو نحوه .
والأنفس جمع نفس بسكون الفاء وهي مجموع ذات الإنسان من الهيكل والروح كما هنا وباعتبار هذا التركيب الذي في الذات اتسع إطلاق النفس في كلام العرب تارة على جميع الذات كما في التوكيد نحو جاء فلان نفسه وقوله : { النفس بالنفس } [ المائدة : 47 ] وقوله : { تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 84 ] وتارة على البعض كقول القائل أنكرت نفسي وقوله : { وتنسون أنفسكم } وعلى الإحساس الباطني كقوله : { تعلم ما في نفسي } [ المائدة : 118 ] أي ضميري . وتطلق على الروح الذي به الإدراك { إن النفس لأمارة بالسوء } [ يوسف : 53 ] وسيأتي لهذا زيادة إيضاح عند قوله تعالى : { يوم تأتي كل نفس } في سورة النحل ( 111 ) .
وقوله : { وأنتم تتلون الكتاب } جملة حالية قيد بها التوبيخ والتعجيب لأن نسيان أنفسهم يكون أغرب وأفظع إذا كان معهم أمران يقلعانه ، وهما أمر الناس بالبر ، فإن شأن الأمر بالبر أن يذكر الآمر حاجة نفسه إليه إذا قدر أنه في غفلة عن نفسه ، وتلاوة الكتاب أي التوراة يمرون فيها على الأوامر والنواهي من شأنه أن تذكرهم مخالفة حالهم لما يتلونه .
وقوله : { أفلا تعقلون } استفهام عن انتفاء تعقلهم استفهاماً مستعملاً في الإنكار والتوبيخ نزلوا منزلة من انتفى تعقله فأُنكر عليهم ذلك ، ووجه المشابهة بين حالهم وحال من لا يعقلون أن من يستمر به التغفل عن نفسه وإهمال التفكر في صلاحها مع مصاحبة شيئين يذكرانه ، قارب أن يكون منفياً عنه التعقل .
وفعل { تعقلون } منزل منزلة اللازم أو هو لازم . وفي هذا نداء على كمال غفلتهم واضطراب حالهم . وكون هذا أمراً قبيحاً فظيعاً من أحوال البشر مما لا يشك فيه عاقل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أتأمرون الناس بالبر}، وذلك أن اليهود قالوا لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن محمدا حق فاتبعوه ترشدوا، فقال الله عز وجل لليهود: {وتنسون أنفسكم}، يعني أصحاب محمد.
{وتنسون أنفسكم}، يقول: وتتركون أنفسكم فلا تتبعوه.
{وأنتم تتلون الكتاب}، يعني التوراة، فيها بيان أمر محمد ونعته.
{أفلا تعقلون} أنتم فتتبعونه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى البرّ الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم، بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى برّا. فروي عن ابن عباس:"أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ": أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوّة والعهد من التوراة، وتتركون أنفسكم: أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
[وعنه]: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ.
وقال آخرون: عن السدي: "أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ "قال: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه.
[و] عن قتادة في قوله: أتأمُرُونَ النّاسَ بالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبرّ ويخالفون، فعيّرهم الله.
[وعن] ابن جريج: "أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ": أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيّرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشدّ الناس فيه مسارعة.
وقال آخرون: هؤلاء اليهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحقّ، فقال الله لهم: "أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ".
قال أبو جعفر: وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب المعنى لأنهم وإن اختلفوا في صفة البرّ الذي كان القوم يأمرون به غيرهم الذين وصفهم الله بما وصفهم به، فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضا من القول أو العمل، ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم.
فالتأويل الذي يدلّ على صحته ظاهر التلاوة إذا: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه، فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم معيرهم بذلك ومقبحا إليهم ما أتوا به.
ومعنى نسيانهم أنفسهم في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: "نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ "بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه.
"وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ": تَتْلُونَ: تدرسون وتقرءون. ويعني بالكتاب: التوراة.
"أفَلا تَعْقِلُونَ": أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حقّ الله وطاعته في اتباع محمد والإيمان به وبما جاء به مثل الذي على من تأمرونه باتباعه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ويحتمل أن ذا الخطاب لهم ولجميع المسلمين ألا يأمر أحدا بمعروف إلا ويأمر نفسه بمثله، بل الواجب أن يبدأ بنفسه ثم بغيره؛ فذلك أنفع وأسرع إلى القبول.
(أفلا تعقلون) أن ذلك في العقل أن يجعل أول السعي في إصلاح نفسه ثم الأمر لغيره...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
ينبغي أن تقع البداية بإصلاح القلب وسياسة النفس، ومن لم يصلح نفسه وطمع في إصلاح غيره كان مغرورا... ومثال من عجز عن إصلاح نفسه وطمع في إصلاح غيره، مثال الأعمى إذا أراد أن يهدي العميان، وذلك لا يستتب له قط، وإنما يقدر على إصلاح النفس بمعرفة النفس. [فضائح الباطنية: 199].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَتَأْمُرُونَ} الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم. والبرّ سعة الخير والمعروف. ومنه البر لسعته، ويتناول كل خير.
وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتبعونه. وقيل: كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون، وإذا أتوا بصدقات ليفرّقوها خانوا فيها.
{وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} وتتركونها من البر كالمنسيات.
{وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} تبكيت مثل قوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني تتلون التوراة وفيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم، أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل.
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} توبيخ عظيم بمعنى: أفلا تفطنون، لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول لأن العقول تأباه وتدفعه. ونحوه: {أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67].
وأما قوله: {أفلا تعقلون} فهو تعجب للعقلاء من أفعالهم... [و] سبب التعجب [هنا له] وجوه:
الأول: أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال: {أفلا تعقلون}
الثاني: أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية لأن الناس يقولون أنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات وإلا لما أقدم على المعصية فيصير هذا داعيا لهم إلى التهاون بالدين والجراءة على المعصية، فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء، فلهذا قال: {أفلا تعقلون}
(الثالث): أن من وعظ فلابد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذا في القلوب... والإقدام على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول، فمن وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثرا في القلوب، ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرا في القلوب. فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء، ولهذا قال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
ليبدأ المفتي بنفسه في كل خير يفتي به، فهو أصل استقامة الخلق بفعله وقوله، قال الله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}، ومتى كان المفتي متقيا لله تعالى وضع الله البركة في قوله، ويسر قبوله على مستمعه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (45) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (46) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون}
الكلام موجه إلى بني إسرائيل وقد تقدم في الآيات السابقة أن الله ذكرهم بنعمته، وأمرهم بالوفاء بعهده، وأن يرهبوه ويتقوه وحده، وأن يؤمنوا بالقرآن، ونهاهم أن يكونوا أول كافر به، وأن يشتروا بآياته ثمنا قليلا، وأن يلبسوا الحق بالباطل ويكتموه عمدا. ثم أمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وطفق في هذه الآيات يوبخهم على سيرتهم المعوجة في الدين، ويهديهم إلى طريق الخروج منها.
اليهود كسائر الملل يدعون الإيمان بكتابهم والعمل به، والمحافظة على أحكامه والقيام بما يوجبه، ولكن الله تعالى علمنا أن من الإيمان – بل مما يسمى في العرف إيمانا – مالا يعبأ به، فيكون وجوده كعدمه، وهو الإيمان الذي لا سلطان له على القلب، ولا تأثير له في إصلاح العمل، كما قال {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} وكانت اليهود في عهد بعثه عليه الصلاة والسلام قد وصلوا في البعد عن جوهر الدين إلى هذا الحد. كانوا – ولا يزالون – يتلون الكتاب تلاوة يفهمون بها معاني الألفاظ، ويجلون أوراقه وجلده، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته، لأن الذين يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به كما قال تعالى وعلى الوجه الذي يرضاه تعالى: يتلون ألفاظه وفيها البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويأمرون بالعمل بأحكامه وآدابه من البر والتقوى، ولكن الأحبار القارئين الآمرين الناهين ما كانوا يبينون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم وتقاليدهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إلا إذا لم يعارض حظوظهم وشهواتهم. فقد عهد الله إليهم في الكتاب أنه يقيم من إخوانهم نبيا يقيم الحق 148 وفرض عليهم الزكاة، ولكنهم كانوا يحرفون البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويؤلونها. ويحتالون لمنع الزكاة فيمنعونها، وجعلت لهم مواسم واحتفالات دينية تذكرهم بما آتى الله أنبياءهم من الآيات وما منحهم من النعم لينشطوا إلى إقامة الدين والعمل بالكتاب. ولكن القلوب قست بطول الأمد ففسقت النفوس عن أمر ربها. وهذه التوراة التي بين أيديهم لا تزال حجة عليهم، فلو سألتهم عما فيها من الأمر بالبر والحث على الخير لاعترفوا وما أنكروا، ولكن أين العمل الذي يهدي إليه الإيمان، فيكون عليه أقوى حجة وبرهان.
كذلك كان شأن أحبار اليهود وعلمائهم في معرفة ظواهر الدين بالتفصيل وكان عامتهم يعرفون من الدين العبادات العامة والاحتفالات الدينية وبعض الأمور الأخرى بالإجمال، ويرجع المستمسك منهم بدينه في سائر أموره إلى الأحبار فيقلدهم فيما يأمرونه به، وكانوا يأمرونه صوابا فيما ليس لهم فيه هوى، وإلا لجأوا إلى التأويل والتحريف والحيلة ليأخذوا من الألفاظ ما يوافق الهوى ويصيب الغرض، فإذا وجه الخطاب في قوله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} إلى حملة الكتاب فذاك لأن الأمر والنهي وظيفتهم، وإذا كان عاما فذاك لأن شأن العامة فيما يعرفون من الدين بالإجمال كشأن الرؤساء فيما يعرفون بالتفصيل، ولا يكاد يوجد أحد لا يأمر بخيره ولا بحث على بر، فإذا كان الآمر لا يأتمر بما يأمر به فالحجة قائمة عليه بلسانه.
وبخ الله هؤلاء القوم على أنهم كانوا يأمرون الناس بالبر كالأخذ بالحق ومعرفته لأهله، وعمل الخير والوعد عليه بالسعادة مع الغفلة عن أنفسهم وعدم تذكيرها بذلك، وما أجمل التعبير عن هذه الحالة بنسيان الأنفس، فإن من شأن الإنسان أن لا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، كأنه يقول: إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البر ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم {وأنتم تتلون الكتاب} وتأمرون الناس بإتباعه وتعرفون منه ما لا يعرفه المأمورون؟ أفيعلمون مع نقص العلم بفائدة العمل، ولا تعملون على كمال العلم وسعته؟ ولما كان هذا غير معقول قفى على استفهام التوبيخ بقوله {أفلا تعقلون} يعني ألا يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا السفه؟ فإن من له مسكة من العقل لا يدعى كمال العلم بالكتاب والإيمان اليقيني به والقيام بالإرشاد إليه: هذا كتاب الله، هذه وصايا الله، هذا أمر الله، قد وعد العامل به السعادة في الدنيا أو الآخرة أو كليهما، فخذوا به واستمسكوا بعراه، وحافظوا عليه، -ثم هو لا يعمل ولا يستمسك؟
مثل من كانت هذه حاله كمثل رجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى بحيث لا يضل سالكه، ثم هو يسلك طريقا آخر مظلما طامس الأعلام وكلما لقي في طريقه شخصا نصح له أن لا يمشي معه، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه، أو مثل ساغب يدعو الناس على المائدة الشهية، ويبيت على الجوع والطوى، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم.
إذا كان هذا لا يقع من صحيح العقل فكذلك أمر المؤمن بشعب الإيمان وعدم الائتمار بها، مع تذكرها وتلاوة كلام الله فيها. فلا بد لتعقل هذا من القول بأن الإيمان بالوعد على البر والوعيد على الفجور غير يقيني عند الآمر المخالف. ويؤيده أن القوم كانوا عقلاء في كسب المال وحفظ الجاه الدنيوي وإنما ضلوا من جهة الدين بأخذه على غير وجهه.
الخطاب عام لليهود الذين كان هذا حالهم وعبرة لغيرهم لأنه منبئ عن حال طبيعية للأمم في مثل ذلك الطور الذي كانوا فيه، ولذلك كان القرآن هداية للعالمين إلى يوم الدين، لا حكاية تاريخ يقصد بها هجاء الإسرائيليين، فلتحاسب أمة نفسها في أفرادها ومجموعها لئلا يكون حالها كحال من ورد النص فيهم فيكون حكمها عند الله كحكمهم، لأن الجزاء على أعمال القلوب والجوارح، لا لمحاباة الأشخاص والأقوام أو معاداتهم.
(فإن قيل) إن من يأمر غيره بالبر وينسى نفسه قد يكون متكلا في ترك العمل على الشفاعات والمكفرات، كالأذكار والصدقات، لا أنه يترك لعدم اليقين في الإيمان، وإذا أمر غيره بالبر مع هذا فذاك لأنه يلاحظ المكفرات في شأن نفسه ولا يلاحظها في شأن غيره.
(نقول) إن العالم بالدين لا يخفى عليه أن حكم الله تعالى واحد عام، فكيف يحتم البر على غيره ويوهمه أنه لا يقر به من رضوان الله ويبعده من سخطه إلا هو، وينسى نفسه فلا يحتم عليها ذلك؟ ثم كيف يجهل أن الشفاعات والأعمال الصالحة التي ورد أنها تكفر السيئات لا يصح أن تكون مثبطة عن عمل البر أو سببا لتركه لأنه خلاف المقصود من الدين؟ فهل يكون فرع من فروع الدين هادما لأصوله وسائر فروعه؟ كل ذلك كان ينبغي أن يكون بعيدا عن العالم بالدين الذي يتلو كتاب الله تعالى ولكن هذا الضرب من الخذلان يعرض لأرباب الأديان عند فساد حال الأمم، فنبه الله تعالى عليه بهذا التعبير اللطيف وهو نسيان النفس مع تلاوة الكتاب، فكأن الزاعم أنه مؤمن ولا يعمل عمل الإيمان، نسي أنه هو الذي يزعم الإيمان، وصاحب هذا النسيان يمضي في العمل القبيح من غير فكر ولا روية بل انبعاثا مع الحظوظ والشهوات التي حكمها في نفسه، وملكها زمام عقله وحسه، ولكنه لا يلاحظها في غيره عند ما يعرض عليه عمله السيء أو يراه معرضا عن عمل البر ولذلك يعظه ويذمه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} أي: بالإيمان والخير {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي: تتركونها عن أمرها بذلك، والحال: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وسمى العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه، دل على عدم عقله وجهله، خصوصا إذا كان عالما بذلك، قد قامت عليه الحجة.
وهذه الآية، وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما، لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل، فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين بصفة خاصة، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل.
إن آفة رجال الدين -حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة- أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه؛ ويدعون إلى البر ويهملونه؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه؛ ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود!
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها. وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولا جميلا، ويشهدون فعلا قبيحا؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة؛ وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها...
والمطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك، ليست مع هذا أمرا هينا، ولا طريقا معبدا. إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة. وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستفهام هنا للتوبيخ لعدم استقامة الحمل على الاستفهام الحقيقي فاستعمل في التوبيخ مجازاً بقرينة المقام وهو مجاز مرسل لأن التوبيخ يلازم الاستفهام لأن من يأتي ما يستحق التوبيخ عليه من شأنه أن يتساءل الناس عن ثبوت الفعل له ويتوجهون إليه بالسؤال فينتقل من السؤال إلى التوبيخ ويتولد منه معنى التعجيب من حال الموبخ وذلك لأن الحالة التي وبخوا عليها حالة عجيبة لما فيها من إرادة الخير للغير وإهمال النفس منه فحقيق بكل سامع أن يعجب منها، وليس التعجب بلازم لمعنى التوبيخ في كل موضع بل في نحو هذا مما كان فيه الموبخ عليه غريباً غير مألوف من العقلاء فإذا استعمل الاستفهام في لازم واحد فكونه مجازاً مرسلاً ظاهر وإذا استعمل في لازمين يتولد أحدهما من الآخر أو متقاربين فهو أيضاً مجاز مرسل واحد لأن تعدد اللوازم لا يوجب تعدد العلاقة ولا تكرر الاستعمال لأن المعاني المجازية مستفادة من العلاقة لا من الوضع فتعدد المجازات للفظ واحد أوسع من استعمال المشترك...
والنسيان ذهاب الأمر المعلوم من حافظة الإنسان لضعف الذهن أو الغفلة ويرادفه السهو وقيل السهو الغفلة اليسيرة بحيث يتنبه بأقل تنبيه، والنسيان زواله بالكلية وبعض أهل اللغة فسر النسيان بمطلق الترك وجعله صاحب « الأساس» مجازاً وهو التحقيق وهو كثير في القرآن. والنسيان هنا مستعار للترك عن عمد أو عن التهاون بما يذكر المرء في البر على نحو ما.
قيل في قوله تعالى: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 5] أي وتتركون أنفسكم من ذلك أي من أمرها بالبر أو وتنسون أن تأمروا أنفسكم بالبر وفي هذا التقدير يبقى النسيان على حقيقته لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون بمثل ما ينهون عنه فإذا تصدوا إلى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه وقد يرى الإنسان عيب غيره لأنه يشاهده ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهدها ولأن العادة تنسيه حاله. ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس فيكون البر راجعاً إلى جميع ما تضمنته الأوامر السابقة من التفاصيل فهم قد أمروا غيرهم بتفاصيلها ونسوا أنفسهم عند سماعها وذلك يشمل التصديق بدين الإسلام لأنه من جملة ما تضمنته التوراة التي كانوا يأمرون الناس بما فيها.
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
وما أكثر علماء السوء وأحبار الضلال في هذه الأمة، وما أعظم بلاءهم وأشد فتنتهم على الناس، فهم يتقمصون الدين لأجل أن يأكلوا به أموال الناس، ويرتقوا على أكتافهم إلى المناصب التي يتطلعون إليها، يأمرون الناس بالخير ولا يأتمرون، وينهونهم عن الشر ولا ينتهون، يتباكون في مواعظهم ولا يبكون، كل همهم جمع حطام الدنيا ونيل ما يشتهونه من ملذاتها، والارتقاء إلى أوج مناصبها ليست في نفوسهم على حرمات الله غيرة، ولا لدينه حمية، يتجاذبون الدنيا كما تتجاذب الكلاب الجيف، ويغار بعضهم من بعض إذا نال منها نيلا كما تغار الضرة من ضرتها إذا استأثرت عليها بمودة الزوج أو عطائه، ويتقربون إلى الحكام بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، وإبطال الحق، وإحقاق الباطل، تتقلب فتاواهم بين عشية وضحاها بحسب ما يملي عليهم الهوى، ويقتضيه رضى ساداتهم الذين يؤثرون طاعتهم على طاعة الله. وإن دعوا يوما الى الحق أو أرشدوا إلى الهدى ناقضت أعمالهم أقوالهم، وكذبت أحوالهم دعوتهم، ورأى الناس فجوة سحيقة بين ما هم فيه وما يدعون إليه، فبقوا حائرين بين اتباع القول أو الاقتداء بالعمل، فلا تلبث دعوتهم أن تتطاير هباء في الفضاء، ولا يكون لها أي أثر في نفوس ساميعها، بل كثيرا ما تكون دعوة هؤلاء الحق الى الحق أعمل المعاول في هدم صرحه لأن الفجوة بين القول والعمل تجعل الناس يستخفون بالدعوة من اساسها إذ لا تقف سخريتهم عند الداعية بل تتجاوزه إلى ما يدعو إليه فيصبح أثر دعوته عكسيا، فلربما ظن الناس أنه لم يرد بدعوته إلا شغلهم بما يأمرهم به والاستئثار بما ينهاهم عنه، كما لو نهى عن أكل الربا وكان آكله، أو حذرهم من الرشوة وعُرف عنه الارتشاء، أو حض على ملازمة الجماعة وهو لا يأتي المساجد. أما الدعوة النافعة التي تحول الناس من الضلال الى الهدى ومن الفساد إلى الصلاح، فهي الدعوة التي يصدقها فعل الداعية، ويترجمها واقعه، ويزكيها إخلاصه، واذا لم يتفاعل الداعية مع دعوته فكيف يتفاعل معها غيره؟ وهل أمكن لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أن يخرجوا الأمم الضالة الحائرة في أرجاء الأرض مما كانت فيه وعليه من الغي والانحراف والفساد والظلمات، الى الرشد والاستقامة والصلاح والنور -في ذلك العصر الذي لم تكن توجد فيه وسائل إعلام ولا دور نشر- إلا بتجسيد ما كانوا يدعون إليه من الحق، ويبينونه من الهدى في واقع أنفسهم بحيث كانوا صورة حية ومثالا واقعيا للإِيمان العميق والإسلام الخالص، وبهذا أخذ الناس يتسابقون إلى تلبية هذا النداء، واتباع هذه الحق. لقد خبر أولئك الصحابة رضوان الله عليهم ومن كان على هديهم الدعوة فعرفوا أنها دين وعقيدة وتضحية وفداء وبذل وعطاء، ليست حرفة ولا صناعة، فبذلوا كل ما في وسعهم من جهد مال ووقت في سبيلها، وكانوا أحرص ما يكونون على دعوة أنفسهم أولا، فلم يكونوا يتساهلون فيها أو يتهاونون في محاسبتها.
وقد أدركوا قيمة الدعوة من خلال معرفتهم بقيمة ما يدعون إليه، والهدف المنشود منها، فرأوا الحياة بجانبها رخيصة، فلم يكن أحدهم يتردد في التضحية بحياته من أجلها، وقد سجل لنا التاريخ من مآثرها التابعين وتابعيهم -بله الصحابة- ما تتطأطأ أمامه الرؤوس وتخضع الرقاب، وتمتلئ به النفوس إعجابا كقصة سلمة بن سعد رضي الله عنه الذي خرج من موطنه بجنوبي الجزيرة العربية ليلتحق بمدرسة جابر وأبي عبيدة بالبصرة، وعندما عرض عليه أبو عبيدة -رحمه الله- الاتجاه نحو بلاد المغرب لنشر دعوة الحق لم يتردد في الاستجابة لذلك بل قال قولته المشهورة:"وددت لو ظهر هذا الأمر يوما واحدا بالمغرب ثم لا أبالي أن تضرب عنقي"، ولم تكن هذه القولة مجرد كلمات يثرثر بها اللسان ولكنها كانت عقيدة راسخة متمكنة في نفسه وشعورا عميقا ينبض به قلبه، وقد صدقها عمله إذ خرج بين رصد عملاء بني أمية وتحت ضغط إرهابهم الرهيب، وما كاد يطأ تراب المغرب الأدنى حتى أخذ يغشى مجتمعات أقوام لا يعرف لغتهم، ولا يتصور عاداتهم يبث بينهم دعوة الحق ويشرح لهم حقيقة الإسلام، وأخذ يواصل سيره مضطلعا بهذه المهمة إلى أن وصل إلى المغرب الأقصى. إن هذا المنهج هو منهج رجال الدعوة وحملة الرسالة الذين لا يجعلون من دعوتهم فخا يصطادون به المال، ولا سلما يرقون عليه إلى المناصب. أما الدعاة الذين لا يهمهم من الدعوة إلى ما يكسبونه من المال وينالونه من الجاه، فهم أحرى بالمثل الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه عنه الخطيب والطبراني من طريق جندب ابن عبدالله رضي الله عنه "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه "وضرب قطب الأئمة -رحمه الله- في هيميان الزاد لهؤلاء أمثالا عدة منها أنهم كمن يشفق على غيره أن يسقط في هوة أو يقع في نار ويغفل عن نفسه وهو مشرف على ذلك. ومثلهم صاحب المنار برجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى بحيث لا يضل سالكه ثم هو يسلك طريقا آخر مظلما طامس الأعلام، وكلما لقى في طريقه شخصا نصح له أن لا يمشي معه وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه، وساغب يدعو الناس إلى المائدة الشهية ويبيت على الجوع والطوى، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم.