فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

والهمزة في قوله : { أَتَامُرُونَ الناس بالبر } للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين ، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر ، فإنه فعل حسن مندوب إليه ، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله : { وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } مع التطهر بتزكية النفس ، والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس ، وتلبيساً عليهم ، كما قال أبو العتاهية :

وصفت التُّقي حتى كأنك ذو تُقىً *** وريحُ الخطايا من ثِيابك تسطع

والبرّ : الطاعة ، والعمل الصالح . والبر : سعة الخير والمعروف . والبر : الصدق . والبر : ولد الثعلب . والبر : سوق الغنم . ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر :

لا هُمُ ربّ أن بكراً دونكا *** يَبَرُّك الناسُ ويفجرونكا

أي : يطيعونك ، ويعصونك . والنسيان بكسر النون هو : هنا بمعنى الترك ، أي : وتتركون أنفسكم ، وفي الأصل خلاف الذكر ، والحفظ ، أي : زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة ، والحافظة . والنفس : الروح ، ومنه قوله تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ موْتِهَا } [ الزمر : 42 ] يريد الأرواح . وقال أبو خراش :

نجا سالم والنفس منه بشدقه *** . . .

والنفس أيضاً الدم ، ومنه قولهم : سالت نفسه ، قال الشاعر :

تسيل على حدّ السيوف نفوسنا *** وليس على غير الظبات تسيل

والنفس الجسد ، ومنه :

نُبئّتُ أن بني سُحَيم أدخلوا *** أبياتَهم تأمُور نَفسِ المُنذِر

والتأمور البدن . وقوله : { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب } جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع ، وأشد توبيخ ، وأبلغ تبكيت : أي : كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به ؟ وأنتم من أهل العلم العارفين بقبح هذا الفعل ، وشدّة الوعيد عليه ، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه ، والآيات التي تقرءونها من التوراة . والتلاوة : القراءة ، وهي المراد هنا ، وأصلها الاتباع ؛ يقال تلوته : إذا اتبعته ، وسمي القارئ تالياً ، والقراءة تلاوة ؛ لأنه يتبع بعض الكلام ببعض على النسق الذي هو عليه . وقوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } استفهام للإنكار عليهم ، والتقريع لهم ، وهو أشدّ من الأوّل ، وأشدّ . وأشدّ ما قرّع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ، ولا يفعله من العلماء ، الذين هم غير عاملين بالعلم ، فاستنكر عليهم أوّلاً أمرهم للناس بالبرّ مع نسيان أنفسهم في ذلك ، الأمر الذي قاموا به في المجامع ، ونادوا به في المجالس إيهاماً للناس بأنهم مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه ، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه ، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم ، وائتمنهم عليه ، وهم أترك الناس لذلك ، وأبعدهم من نفعه ، وأزهدهم فيه ، ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى ، جعلها مبينة لحالهم ، وكاشفة لعوارهم ، وهاتكة لأستارهم ، وهي أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة ، والخصلة الفظيعة على علم منهم ، ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عليهم ، وملازمة لتلاوته ، وهم في ذلك كما قال المعرّي :

وَإنَّما حمل التَّوْراة قارِئها *** كَسْبُ الفَوائِد لا حُب التلاواتِ

ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع ، ومن توبيخ إلى توبيخ فقال : إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم ، وحملة الحجة ، وأهل الدراسة لكتب الله ، لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلاً بينكم وبين ذلك ذائداً لكم عنه زاجراً لكم منه ، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم ؟ والعقل في أصل اللغة : المنع ، ومنه عقال البعير ؛ لأنه يمنعه عن الحركة ، ومنه العقل في الدية ؛ لأنه يمنع وليّ المقتول عن قتل الجاني .

والعقل نقيض الجهل ، ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو أصل معنى العقل عند أهل اللغة : أي : أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية ؟ ويصح أن يكون معنى الآية : أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم ؟

/خ46