والهمزة في قوله : { أَتَامُرُونَ الناس بالبر } للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين ، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر ، فإنه فعل حسن مندوب إليه ، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله : { وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } مع التطهر بتزكية النفس ، والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس ، وتلبيساً عليهم ، كما قال أبو العتاهية :
وصفت التُّقي حتى كأنك ذو تُقىً *** وريحُ الخطايا من ثِيابك تسطع
والبرّ : الطاعة ، والعمل الصالح . والبر : سعة الخير والمعروف . والبر : الصدق . والبر : ولد الثعلب . والبر : سوق الغنم . ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر :
لا هُمُ ربّ أن بكراً دونكا *** يَبَرُّك الناسُ ويفجرونكا
أي : يطيعونك ، ويعصونك . والنسيان بكسر النون هو : هنا بمعنى الترك ، أي : وتتركون أنفسكم ، وفي الأصل خلاف الذكر ، والحفظ ، أي : زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة ، والحافظة . والنفس : الروح ، ومنه قوله تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ موْتِهَا } [ الزمر : 42 ] يريد الأرواح . وقال أبو خراش :
نجا سالم والنفس منه بشدقه *** . . .
والنفس أيضاً الدم ، ومنه قولهم : سالت نفسه ، قال الشاعر :
تسيل على حدّ السيوف نفوسنا *** وليس على غير الظبات تسيل
نُبئّتُ أن بني سُحَيم أدخلوا *** أبياتَهم تأمُور نَفسِ المُنذِر
والتأمور البدن . وقوله : { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب } جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع ، وأشد توبيخ ، وأبلغ تبكيت : أي : كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به ؟ وأنتم من أهل العلم العارفين بقبح هذا الفعل ، وشدّة الوعيد عليه ، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه ، والآيات التي تقرءونها من التوراة . والتلاوة : القراءة ، وهي المراد هنا ، وأصلها الاتباع ؛ يقال تلوته : إذا اتبعته ، وسمي القارئ تالياً ، والقراءة تلاوة ؛ لأنه يتبع بعض الكلام ببعض على النسق الذي هو عليه . وقوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } استفهام للإنكار عليهم ، والتقريع لهم ، وهو أشدّ من الأوّل ، وأشدّ . وأشدّ ما قرّع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ، ولا يفعله من العلماء ، الذين هم غير عاملين بالعلم ، فاستنكر عليهم أوّلاً أمرهم للناس بالبرّ مع نسيان أنفسهم في ذلك ، الأمر الذي قاموا به في المجامع ، ونادوا به في المجالس إيهاماً للناس بأنهم مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه ، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه ، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم ، وائتمنهم عليه ، وهم أترك الناس لذلك ، وأبعدهم من نفعه ، وأزهدهم فيه ، ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى ، جعلها مبينة لحالهم ، وكاشفة لعوارهم ، وهاتكة لأستارهم ، وهي أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة ، والخصلة الفظيعة على علم منهم ، ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عليهم ، وملازمة لتلاوته ، وهم في ذلك كما قال المعرّي :
وَإنَّما حمل التَّوْراة قارِئها *** كَسْبُ الفَوائِد لا حُب التلاواتِ
ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع ، ومن توبيخ إلى توبيخ فقال : إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم ، وحملة الحجة ، وأهل الدراسة لكتب الله ، لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلاً بينكم وبين ذلك ذائداً لكم عنه زاجراً لكم منه ، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم ؟ والعقل في أصل اللغة : المنع ، ومنه عقال البعير ؛ لأنه يمنعه عن الحركة ، ومنه العقل في الدية ؛ لأنه يمنع وليّ المقتول عن قتل الجاني .
والعقل نقيض الجهل ، ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو أصل معنى العقل عند أهل اللغة : أي : أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية ؟ ويصح أن يكون معنى الآية : أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم ؟
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.