الهمزة في " أتأمرون " للإنكار والتَّوبيخ ، أو للتعجُّب من حالهم .
و " أمر " يتعدى لاثنين : أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف الجر ، وقد يحذف ، وقد جمع الشاعرُ بين الأمرين في قوله : [ البسيط ]
449 أَمْرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ *** فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ
و " الناس " مفعول أول ، و " بالبر " مفعول ثانٍ ، و " البر " سَعَةُ الخير من الصّلة والطاعة ، ومنه : " البرّ " و " البَرِيّة " لسعتهما ، والفعل منه : " بَرَّ يَبَرُّ " ، على وزن " فَعِلَ يَفْعَلَ " ك " عَلِمَ يَعْلَمُ " ؛ قال : [ الرجز ]
450 لاهُمَّ رَبِّ إنَّ بَكْراً دُونَكَا *** يَبَرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا
و " البِرّ " أيضاً : ولد الثَّعْلب ، وسوق الغَنَم ، ومنه قولهم : " لا يعرفُ الهِرَّ مِنَ البِرِّ " ، أي لا يعرف دُعَاءها من سوقها .
و " البِرّ " أيضاً : الفؤادُ ، قال : [ الطويل ]
451 أَكُونُ مَكَانَ البِرِّ مِنْهُ ودُونَهُ *** وَأَجْعَلُ مَا لِي دُونَهُ وأُوَامِرُهْ
و " البَرّ " بالفتح الإجْلاَل والتعظيم ، ومنه : ولد بَرّ بوالديه ، أي يعظمهما ، والله تعالى بَرّ لِسَعَةِ خيره على خَلْقِهِ ، وقد يكون بمعنى الصدقِ كما يقال : بَرّ في يمينه أي : صدق ولم يَحْنَثْ ويقال : صَدَقْتُ وَبَرَرْتُ .
قوله : { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } داخل في حَيّز الإنكار ، وأصل " تنسون " : تَنْسَيُون " فأُعلّ بحذف الياء بعد سكونها ، وقد تقدّم في { اشْتَرُواْ } [ البقرة : 16 ] فوزنه " تَفْعُون " والنسيان : ضد الذِّكْر ، وهو السَّهو الحاصل بعد حصول العلم ، وقد يطلق على التَّرك ، ومنه : " نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ " ، وقد يدخله التعليق حملاً على نقيضه ، قال : [ الطويل ]
452 وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أنْتُمُ *** وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ{[1277]}
ويقال : رجل " نَسْيَان " [ بفتح النون كثير النِّسْيَان ونسيت الشيء نِسْيَاناً ، ولا يقال : " نَسَيَاناً " ] بالتحريك - لأن النَّسَيَان تثنية نَسَا العِرْق .
فإن قيل : النّسيان عبارة عن السّهو الحادث بعد حصول العلم ، والنَّاسي غير مكلّف ومن لا يكون مكلفاً لا يجوز أن يذمّه الله تعالى على ما صدر منه ، فالمراد بقوله : { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أنكم تغفلون عن حق أنفسكم ، وتعدلون عما لها فيه من النَّفْعِ .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } مبتدأ وخبر في محلّ نصب على حال ، العامل فيها " تنسون " .
و " التِّلاوة " : التتابع ، ومنه تلاوة القرآن ؛ لأن القارئ يتبع كلماته بَعْضَها ببعض ، ومنه : { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس :2 ] وأصل " تتلون " : " تتلوون " بواوين فاستثقلت الضمة على الواو الأولى فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى فوزنه " تفعون " .
ويقال : تلوته إذا تبعته تلواً ، وتلوت القرآن تِلاَوَةَ . وتلوت الرجل تلواً إذا خذلته . والتَّلِيَّة والتُّلاوة{[1278]} : البقية ، يقال : تليت{[1279]} لي من حقّي تلاوةً وتليةً أي بقيت .
وتتليت حقّي إذا تتبعته حتى تستوفيه .
قال " أبو زيد " : " تلي الرجل إذا كان بآخر رمق " .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزة للإنكار أيضاً ، وهي في نية التأخير عن الفاء ؛ لأنها حرف عطف ، وكذا تتقدّم أيضاً على " الواو " و " ثم " نحو :
{ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 77 ] { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [ يونس : 51 ] والنِّيّة بها التأخير ، ما عدا ذلك من حروف العطف فلا تتقدّم عليه ، تقول : " ما قام زيد بل أقعد ؟ " هذا مذهب الجُمْهور .
وزعم " الزَّمخشري " أن الهمزة في موضعها غير مَنْوِيّ بها التأخير ، ويقدر قبل " الفاء " و " الواو " و " ثم " فعلاً محذوفاً ، فاعطف عليه ما بعده فيقدر هنا : أتغفلون فلا تعقلون ، وكذا { أَفَلَمْ يَرَوْاْ } [ سبأ : 9 ] أي : أعموا فَلَم يروا ؟
وقد خالف هذا الأصل ووافق الجمهور في مواضع يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى .
ومفعول " تعقلون " غير مراد ؛ لأن المعنى : أفلا يكون منكم عَقْل ، وقيل تقديره : أفلا تعقلون قُبْحَ ما ارتكبتم من ذلك .
والعَقْل : الإدراك المانع من الخطأ ، وأصله المَنْع ، ومنه العِقَال ، لأنه يمنع البعير عن الحَرَكَةِ ، وَعَقْل الدِّيَةِ ، لأنه يمنع من قَتْلِ الجَانِي ، والعَقْل أيضاً ثُوْب موشًّى ؛ قال علقمة : [ البسيط ]
453 عَقْلاً وَرَقْماً يَظَلُّ الطَّيْرُ يَتْبَعُهُ *** كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الأَجْوافِ مَدْمُومُ{[1280]}
قال ابن فارس : " والعَقْل من شِيَاتِ الثياب ما كان نقشه طولاً ، وما كان نقشه مستديراً فهو الرَّقم " . ولا محلّ لهذه الجملة لاستئنافها .
اختلفوا في المراد بالبرّ في هذا الموضع على وجوه :
أحدها : قال " السُّدّي " إنهم كانوا يأمرون النَّاس بطاعة الله ، وينهونهم عن معصية الله ، وهم يتركون الطّاعة ، ويقدمون على المعصية{[1281]} .
وثانيها : قال " ابن جُرَيْجٍ " : إنهم كانوا يأمرون النَّاس بالصَّلاة والزكاة ، وهم يتركونهما{[1282]} .
وثالثها : كان إذا جاءهم أحد في الخُفْية لاستعلام أمر محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : هو صادق فيما يقول ، وأمره حقّ فاتبعوه ، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهَدَايا والصّلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم .
ورابعها : أن جماعة من اليهود كانوا قبل مَبْعَثِ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام يخبرون مشركي العرب أن رسولاً سيظهر فيكم ، ويدعو إلى الحَقّ وكانوا يرغبونهم في اتباعه ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حَسَدُوهُ وكفروا به ، فبكّتهم الله تعالى بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره ، فلما ظهر تركوه ، وأعرضوا عن دينه ، وهذا اختيار " أبي مُسْلِم " .
وخامسها : قال " الزَّجَّاج " : " إنهم كانوا يأمرون الناس ببَذْلِ الصدقة ، وكانوا يشحُّون بها ، لأن الله تعالى وصفهم بقَسَاوَةِ القلوب ، وأكل الربا والسُّحت " .
الأوّل : أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغَيْر إلى تحصيل المصلحة ، وتحذيره عما يوقعه في المَفْسَدَةِ ، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير .
الثاني : أنّ من وعظ النَّاس ، وأظهر علمه للخلق ، ثم لم يَتَّعظ صار ذلك الوَعْظُ سبباً لرغبة الناس في المعصية ؛ لأن الناس يقولون : إنه مع هذا العلم لولا أنه مُطّلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات ، وإلاّ لما أقدم على المَعْصية ، وإذا كان الوَاعِظ زاجراً عن المعصية ، ويأتي بفعل يوجب الجَرَاءة على المعصية ، فكأنه جمع بين المُتَناقضين ، وذلك لا يليق بالعاقل .
والثالث : أنّ من وعظ ، فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذاً في القلوب ، والإقدام على المعصية مما يُنَفّر القلوب عن القبول .
فصل في دفع شبه المبتدعة في اشتراطهم العدالة في الأمر بالمعروف
قال : " القُرْطبي " : " احتجّت المبتدعة بقوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } ، وقوله تعالى : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] على أنه يشترط فيمن يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر أن يكون عدلاً .
قال : وهذا استدلال سَاقِطٌ ؛ لأن الذم هاهنا إنما وقع على ارتكاب ما نهى عنه لا عن نهيه عن المنكر ، ولا شك أن النهي عن المنكر ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه ، وأيضاً فإن العَدَالَة محصورة في القليل من الناس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس .
وذكر عن " ابن عبد البر " أنه قال : أجمع المسلمون على أنه لا يَجِبُ على كلّ من قدر على إزالة المنكر أن يغيره إذا لم يحصل له بتغييره إلا اللَّوم الذي لا يصل إلى الأذى .
قال بعض الفلاسفة : العَقْلُ جَوْهَرٌ لطيف في البَدَنِ ينبثّ شعاعه منه بمنزلة السِّرَاج في البيت ، يفصل بين حَقَائق المعلومات .
ومنهم من قال : إنه جَوْهَرٌ بسيط ، ثم اختلفوا في محلّه .
فقالت طائفة منهم : محلّه الدِّماغ ؛ لأن الدماغ محل الحسّ .
ومنهم من قال : محله القلب ؛ لأن القلب معدن الحَيَاة ، ومادّة الحواس .
وقالت طائفة : محله القلب وله أشعة إلى الدماغ .
وقال " أبو الحسن الأشعري وأبو إسحاق الإسفراييني " وغيرهما : العقل هو العِلْم .
وقال " القاضي أبو بكر " : العَقْلُ علوم ضرورية بوجوب الواجبات ، وجواز الجائزات ، واستحالة المستحيلات .
واختار " أبو المَعَالي " في " البُرْهان " أنه صفة يتأتى بها دَرْكُ العُلُوم .
وقال " الشافعي " : العَقْلُ غريزةٌ .
وقال " أبو العَبَّاس القلانسي " : العقل قوة التَّمييز .
وحكي عن " المحاسبي " أنه قال : العَقْل أنوار وبصائر .
احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالوا قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } إنما يصحّ ، ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم ، فأما إذا كان مخلوقاً فيهم على سبيل الاضطرار ، فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود : لم لا تبيض ؟
والجواب : أنّ قدرته لما صلحت للضدين بأن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك مَحْض الاتفاق ، والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه ، وإن حصل المرجح فإن كان ذلك المرجح منه عاد البَحْث فيه ، وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحاً ، والآخر مرجوحاً ، والمرجوح ممتنع الوقوع ؛ لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع ، فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع ، وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر ، فيعود عليهم ما أوردوه ، ثم الجواب الحَقِيقي عن الكل : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] .