فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } : قال قتادة : . . كان بنوا إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه ويخالفون ، فعيرهم الله عز وجل قال أبوا الدرداء : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا والاستفهام هنا ليس على بابه- إذ أصله طلب الفهم – لكنه ربما يراد به التعجيب والتقبيح لمخالفة القول العمل والبر : مجامع الخير ، فقد بين القرآن جوانب منه في الآية الكريمة { . . . ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين وآتَى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون }{[251]} { وتنسون } : تتركون والأنفس جمع نفس وهي الروح بدليل قول الله تعالى : { الله يتوفى الأنفس . . . }{[252]} أي الأرواح وأصل التلاوة : الإتباع وسمي القارئ تاليا ربما لأنه يتبع بعض الكلام ببعض . وأصل العقل : المنع ثم استعمل في الدلالة على الإدراك والقوة التي يتأتى بها الفهم قال الزجاج : العاقل من عمل بما أوجب الله عليه فمن لم يعمل فهو جاهل روى الإمام مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقطاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما تلك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه{[253]} وأنهى عن المنكر وآتيه ) وهكذا ذم الله تعالى في كتابه قوما يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها ولقد نهى سبحانه أن يخالف عمل المسلم قوله وجعل هذا التخالف من عظائم موجبات سخطه فقال جل وعز : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }{[254]} وعلمنا- تقدست أسماؤه- أن المصطفين الأخيار كانوا يقيمون الحجة على أقوامهم بأنهم إنما يدعون إلى سنن استقامت عليه أنبياؤهم فيقول شعيب عليه السلام لقومه : { . . وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت . . }{[255]} وسبيل الدعاة أن يتجردوا مخلصين لدعوتهم وأن يستقيموا على المنهاج{[256]} الذي يرتضونه لجماعتهم ، فقد بين الكتاب الحكيم كيف جاء صاحب القرية بالسلطان المبين على القوم المكذبين إذ قال : { . . . يا قوم اتبعوا المرسلين{[257]} . اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون }{[258]} .


[251]:سورة البقرة من الآية 177.
[252]:سورة الزمر من الآية 42.
[253]:جمهور السلف والخلف على أن فعل المعروف واجب، والأمر به واجب كذلك، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، وذهب البعض إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره، وهذا ضعيف فقد قال سعيد بن جبير: لو كان المرء يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء، أو قال: ليس عليه شيء. ومما أورد القرطبي: دل الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلم... اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر.
[254]:سورة الصف الآيتان 2-3.
[255]:سورة هود. من الآية88.
[256]:ولقد صور بعض الحكماء كيف ترد الدعوة ولا تقبل إذا لم تكن بالحال كما هي بالمقال وأجرى ذلك على لسان الحيوان وأنشد: إني رأيت أحد الأدبـــــــــاب قام خطيبا في وحوش الغاب يأمرهم بالحلم أثناء الغضب والعفو عن كل مذنب ولم يزل يحتد في المقال يشير باليمين والشمال حتى أتى من خلفه نسناس يبدو عليه اللطف والإيناس فهشم النسناس أي هشمة دق بها أعصابه وعظمه فانفضت الجموع عن ذي الجلسة تقول ينهاها وينسى نفسه إنا سمعنا خطبة فصيحة لكن رأينا فعلة قبيحة والناس لا تعتبر الأقوالا وإنما تعتبر الأفعالا فكان ما أظهر من إرشاد كنفخة النافخ في رماد والفعل من قول الهواة أفصح إذا أرادوا مرة أن يفصحوا ونسب إلى أبي الأسود الدؤلي: يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا *** كيما يصح به وأنت سقيم ونراك تصلح بالرشاد عقولنا *** أبدا وأنت من الرشاد عدو لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم فابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقول ويهتدي *** بالقول منك وينفع التعليم نقل عن أبي عمر وابن مطر: حضرت مجلس أبي عثمان الحيري فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير فسكت حتى طال سكوته فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقول في سكوتك شيئا؟ فأنشأ يقول: وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي والطبيب مريض قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.
[257]:كانوا رسل رسول الله عيسى عليه السلام.
[258]:سورة يس من الآية 20 والآية 21.