البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

الأمر : طلب إيجاد الفعل ، ويطلق على الشأن ، والفعل منه : أمر يأمر ، على : فعل يفعل ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام ، فتقول : مر زيداً وإتمامه قليل ، أومر زيداً ، فإن تقدم الأمر واو أو فاء ، فإثبات الهمزة أجود ، وهو مما يتعدّى إلى مفعولين : أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف جر .

ويجوز حذف ذلك الحرف ، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازاً تحفظ ولا يقاس عليها .

البر : الصلة ، وأيضاً : الطاعة .

قال الراجز :

لا همّ ربّ إن بكراً دونكا *** يبرك الناس ويفخر ونكا

والبر : الفؤاد ، وولد الثعلب والهرّ ، وبرّ والده : أجله وأعظمه .

يبره : على وزن فعل يفعل ، ورجل بارّ ، وبرّ ، وبرت يمينه ، وبرّ حجه : أجلها وجمع أنواعاً من الخير ، والبر سعة المعروف والخير ، ومنه : البر والبريّة للسعة .

ويتناول كل خير ، والإبرار : الغلبة ، قال الشاعر :

ويبرّون على الآبي المبر***

النسيان : ضد الذكر ، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم ، ويطلق أيضاً على الترك ، وضده الفعل ، والفعل : نسي ينسى على فعل يفعل ، ويتعدّى لواحد ، وقد يعلق نسي حملاً على علم ، قال الشاعر :

ومن أنتم إنا نسينا من أنتم *** وريحكم من أي ريح الأعاصر

وفي البيت احتمال : التلاوة : القراءة ، وسميت بها لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضاً في الذكر .

والتلو : التبع ، وناقة مثل : يتبعها ولدها .

العقل : الإدراك المانع من الخطأ ، ومنه عقال البعير ، يمنعه من التصرف ، والمعقل : مكان يمتنع فيه ، والعقل : الدّية لأن جنسها إبل تعقل في فناء الولي ، أو لأنها تمنع من قتل الجاني ، والعقل : ثوب موشى ، قال الشاعر :

عقلاً ورقماً تظل الطير تتبعه *** كأنه من دم الأجواف مدموم

والعقال : زكاة العام ، قال الشاعر :

سعى عقالاً فلم يترك لنا سبداً *** فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

ورمل عقنقل : متماسك عن الانهيار .

{ أتأمرون الناس بالبرّ } الهمزة : للاستفهام وضعاً ، وشابها هنا التوبيخ والتقريع لأن المعنى : الإنكار ، وعليهم توبيخهم على أن يأمر الشخص بخير ، ويترك نفسه ونظيره في النهي ، قول أبي الأسود :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

وقول الآخر :

وابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإن انتهت عنه فأنت حكيم

فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه ، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله .

وفي تفسير البر هنا أقوال : الثبات على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يتبعونه ، أو اتباع التوراة وهم يخالفونها في جحدهم صفته .

وروي عن قتادة وابن جريج والسّدي : أو على الصدقة ويبخلون ، أو على الصدق وهم لا يصدّقون ، أو خص أصحابهم على الصلاة والزكاة ولا يأتونهما .

وقال السلمي : أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها ؟ وقال القشيري : أتحرّضون الناس على البدار وترضون بالتخلف ؟ وقال : أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا ؟ وألفاظاً من هذا المعنى .

وأتى بالمضارع في : أتأمرون ، وإن كان قد وقع ذلك منهم لأنه يفهم منه في الاستعمال في كثير من المواضع : الديمومة وكثرة التلبس بالفعل ، نحو قولهم : زيد يعطي ويمنع ، وعبر عن ترك فعلهم بالنسيان مبالغة في الترك ، فكأنه لا يجري لهم على بال ، وعلق النسيان بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة .

{ وتنسون } : معطوف على تأمرون ، والمنعي عليهم جمعهم بين هاتين الحالتين من أمر الناس بالبر الذي في فعله النجاة الأبدية ، وترك فعله حتى صار نسياً منسياً بالنسبة إليهم .

{ أنفسكم } ، والأنفس هنا : ذواتهم ، وقيل : جماعتهم وأهل ملتهم ، ثم قيد وقوع ذلك منهم بقوله : { وأنتم تتلون الكتاب } : أي أنكم مباشروا الكتاب وقارئوه ، وعالمون بما انطوى عليه ، فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم ؟ وخالفتموه بالنسبة إلى أنفسكم ؟ كقوله تعالى : { وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } والجملة حالية ولا يخفى ما في تصديرها بقوله : { وأنتم } ، من التبكيت لهم والتقريع والتوبيخ لأجل المخاطبة بخلافها لو كانت اسماً مفرداً .

والكتاب هنا : التوراة والإنجيل ، وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم ، وهذا قول الجمهور .

وقيل : الكتاب هنا القرآن ، قالوا : ويكون قد انصرف من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب المؤمنين ، ويكون ذلك من تلوين الخطاب ، مثل قوله تعالى : { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك } وفي هذا القول بعد ، إذ الظاهر أن هذا كله خطاب مع أهل الكتاب .

{ أفلا تعقلون } : مذهب سيبويه والنحويين : أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل { أو لم يسيروا } أثم إذا ما وقع ، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام ، قدمت على حرف العطف ، وذلك بخلاف هل .

وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها ، ولا تقديم ولا تأخير ، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها ، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير .

وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة ، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل .

فعلى قول الجماعة يكون التقدير : فألا تعقلون ، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير : أتعقلون فلا تعقلون ، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض ، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف ، ونبههم بقوله : { أفلا تعقلون } ، على ن فيهم إدراكاً شريفاً يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهم بالخير ونسيان أنفسهم عنه ، وإن هذه حالة من سلب العقل ، إذ العاقل ساع في تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولاً ، ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره ، ابدأ بنفسك ثم بمن تعول .

ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل لنفسه مصلحة ، فكيف يحصلها لغيره ؟ ألا ترى إلى قول الشاعر :

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه *** فليس على شيء سواه بخزان

فإذا صدر من الإنسان تحصيل المصلحة لغيره ، ومنع ذلك لنفسه ، كان ذلك خارجاً عن أفعال العقلاء ، خصوصاً في الأمور التي يرجى بسلوكها النجاة من عذاب الله ، والفوز بالنعيم السرمدي .

وقد فسروا قوله : { أفلا تعقلون } بأقوال : أفلا تعقلون : أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية بكم ، أو أفلا تفهمون قبح ما تأتون من معصية ربكم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به ، أو أفلا تنتهون ، لأن العقل ينهى عن القبيح ، أو أفلا ترجعون ، لأن العقل يراد إلى الأحسن ، أو أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه ، أو إن وبال ذلك عليكم راجع ، أو أفلا تمتنعون من المعاصي ، أو أفلا تعقلون ، إذ ليس في قضية العقل أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه ، أو أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه ، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقل ، لأن العقول تأباه وتدفعه .

وشبيه بهذه الآية { لم تقولون ما لا تفعلون } الآية .

والمقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : الإرشاد إلى المنفعة والتحذير عن المفسدة ، وذلك معلوم بشواهد العقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل ، ويصير ذلك الوعظ سبباً للرغبة في المعصية ، لأنه يقال : لولا اطلاع الواعظ على أن لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية ، فتكون النفس نافرة عن قبول وعظ من لم يتعظ ، وأنشدوا :

مواعظ الواعظ لن تقبلا *** حتى يعيها قلبه أولاً

وقال عليّ كرم الله وجهه : قصم ظهري رجلان : عالم متهتك ، وجاهل متنسك .

ولا دليل في الآية لمن استدل بها على أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ولا في قوله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون } ، ولا للمعتزلة في أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى ، قالوا : التوبيخ لا يحسن إلا إذا كانوا فاعلي أفعالهم ، وهذه مسألة مشكلة يبحث فيها في علم الكلام .

وهذا الإنكار والتوبيخ والتقريع ، وإن كان خطاباً لبني إسرائيل ، فهو عام من حيث المعنى .

وعن محمد بن واسع : بلغني أن ناساً من أهل الجنة أطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة ، قالوا : كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها .