قولُه تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } : الهمزةُ للإِنكارِ والتوبيخِ أو للتَّعجُّبِ مِنْ حالِهم . و " أَمَرَ " يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجرِّ ، وقد يُحْذَفُ ، وقد جَمَع الشاعرُ بين الأَمرين في قوله :
أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمِرتَ به *** فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ
فالناسَ مفعولٌ أولُ ، وبالبِرِّ مفعولٌ ثان . والبِرُّ : سَعَةُ الخيرِ مِن الصلة والطاعة ، ومنه البَرُّ والبَرِيَّة لسعَتِهما ، والفعلُ [ منه ] : بَرَّيَبَرُّ على فَعِل يَفْعَل كعَلِمَ يَعْلَم ، قال :
لا هُمَّ ربِّ إنَّ بَكْراً دونكا *** يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا
[ أي : يُطيعونك ، والبِرُّ أيضاً : ولدُ الثعلب وسَوْقُ الغَنَم ، ومنه قولُهم : " لا يَعْرِفُ الهِرَّ من البِرِّ " أي : لا يَعْرِفُ دُعاءَها مِنْ سَوْقِها ، والبِرُّ أيضاً الفؤادُ ، قال :
أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه *** وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ
والبَرُّ بالفتح الإِجلالُ والتعظيمُ ، ومنه : وَلَدٌ بَرٌّ بوالدَيْهِ ، أي : يُعَظِّمُهما ، واللهُ تعالى بَرُّ لسَعَةِ خيرِه على خَلْقِه ] .
قوله : " وَتَنْسَوْن " داخلٌ في حَيِّز الإِنكار ، وأصلُ تَنْسَوْن : تَنْسَيُون ، فأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ سُكونها ، وقد تقدَّم في { اشْتَرُواْ } [ البقرة : 16 ] ، فوزنُه تَفْعون ، والنِّسيانُ : ضدُّ الذِّكْر ، وهو السهوُ الحاصِلُ بعد حصولِ العلمِ ، وقد يُطْلَقُ على التِّركِ ، ومنه : { نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] ، وقَد يَدْخُلُه التعليقُ حَمْلاً على نقِيضه ، قال :
ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ *** وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ
قوله : { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال ، العاملُ فيها " تَنْسَوْن " . والتلاوةُ : التتابعُ ، ومنه تلاوة القرآنِ ، لأنَّ القارئ يُتْبِع كلماتِه بعضَها ببعضٍ ، ومنه : { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس : 2 ] ، وأَصل تَتْلُون : تَتْلُوون بواوين فاستُثْقِلتِ الضمة على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ فوزنُه : تَفْعُون .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزةُ للإِنكارِ أيضاً ، وهي في نيَّةِ التأخير عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 77 ] { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [ يونس : 51 ] ، والنيَّةُ بها التأخيرُ ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول : ما قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ . وزعم الزمخشري أن الهمزةَ في موضعها غيرُ مَنْوِيٍّ بها التأخيرُ ، ويُقَدِّرَ قبل الفاءِ والواوِ وثم فعلاً عُطِفَ عليه ما بعده ، فيقدِّر هنا : أتغْفَلون فَلاَ تَعْقلون ، وكذا : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ } [ سبأ : 9 ] أي : أَعَمُوا فلم يَرَوْا ، وقد خالف هذا الأصلَ ووافق الجمهورَ في مواضعَ يأتي التنبيهُ عليها . ومفعولُ " تَعْقِلون " غيرُ مرادٍ ، لأنَّ المعنى : أفلا يكونُ منكم [ عَقْلٌ ] . وقيل : تقديرهُ : أفلا تَعْقِلون قُبْحَ ما ارتكبتم مِنْ ذلك .
والعَقْلُ : الإِدراكُ المانعُ من الخطأ ، وأصلُه المَنْعُ : ومنه : العِقال ، لأنه يَمْنَعُ البعيرَ ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني ، والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى ، قال علقمة :
عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ *** كأنَّه من دم الأَجْوافِ مَدْمُومُ
قال ابن فارس : " ما كان منقوشاً طُولاً فهو عَقْلٌ ، أو مستديراً فهوَ رَقْمٌ " ولا محلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.