الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

قولُه تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } : الهمزةُ للإِنكارِ والتوبيخِ أو للتَّعجُّبِ مِنْ حالِهم . و " أَمَرَ " يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجرِّ ، وقد يُحْذَفُ ، وقد جَمَع الشاعرُ بين الأَمرين في قوله :

أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمِرتَ به *** فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ

فالناسَ مفعولٌ أولُ ، وبالبِرِّ مفعولٌ ثان . والبِرُّ : سَعَةُ الخيرِ مِن الصلة والطاعة ، ومنه البَرُّ والبَرِيَّة لسعَتِهما ، والفعلُ [ منه ] : بَرَّيَبَرُّ على فَعِل يَفْعَل كعَلِمَ يَعْلَم ، قال :

لا هُمَّ ربِّ إنَّ بَكْراً دونكا *** يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا

[ أي : يُطيعونك ، والبِرُّ أيضاً : ولدُ الثعلب وسَوْقُ الغَنَم ، ومنه قولُهم : " لا يَعْرِفُ الهِرَّ من البِرِّ " أي : لا يَعْرِفُ دُعاءَها مِنْ سَوْقِها ، والبِرُّ أيضاً الفؤادُ ، قال :

أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه *** وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ

والبَرُّ بالفتح الإِجلالُ والتعظيمُ ، ومنه : وَلَدٌ بَرٌّ بوالدَيْهِ ، أي : يُعَظِّمُهما ، واللهُ تعالى بَرُّ لسَعَةِ خيرِه على خَلْقِه ] .

قوله : " وَتَنْسَوْن " داخلٌ في حَيِّز الإِنكار ، وأصلُ تَنْسَوْن : تَنْسَيُون ، فأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ سُكونها ، وقد تقدَّم في { اشْتَرُواْ } [ البقرة : 16 ] ، فوزنُه تَفْعون ، والنِّسيانُ : ضدُّ الذِّكْر ، وهو السهوُ الحاصِلُ بعد حصولِ العلمِ ، وقد يُطْلَقُ على التِّركِ ، ومنه : { نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] ، وقَد يَدْخُلُه التعليقُ حَمْلاً على نقِيضه ، قال :

ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ *** وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ

قوله : { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال ، العاملُ فيها " تَنْسَوْن " . والتلاوةُ : التتابعُ ، ومنه تلاوة القرآنِ ، لأنَّ القارئ يُتْبِع كلماتِه بعضَها ببعضٍ ، ومنه : { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس : 2 ] ، وأَصل تَتْلُون : تَتْلُوون بواوين فاستُثْقِلتِ الضمة على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ فوزنُه : تَفْعُون .

قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزةُ للإِنكارِ أيضاً ، وهي في نيَّةِ التأخير عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 77 ] { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [ يونس : 51 ] ، والنيَّةُ بها التأخيرُ ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول : ما قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ . وزعم الزمخشري أن الهمزةَ في موضعها غيرُ مَنْوِيٍّ بها التأخيرُ ، ويُقَدِّرَ قبل الفاءِ والواوِ وثم فعلاً عُطِفَ عليه ما بعده ، فيقدِّر هنا : أتغْفَلون فَلاَ تَعْقلون ، وكذا : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ } [ سبأ : 9 ] أي : أَعَمُوا فلم يَرَوْا ، وقد خالف هذا الأصلَ ووافق الجمهورَ في مواضعَ يأتي التنبيهُ عليها . ومفعولُ " تَعْقِلون " غيرُ مرادٍ ، لأنَّ المعنى : أفلا يكونُ منكم [ عَقْلٌ ] . وقيل : تقديرهُ : أفلا تَعْقِلون قُبْحَ ما ارتكبتم مِنْ ذلك .

والعَقْلُ : الإِدراكُ المانعُ من الخطأ ، وأصلُه المَنْعُ : ومنه : العِقال ، لأنه يَمْنَعُ البعيرَ ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني ، والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى ، قال علقمة :

عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ *** كأنَّه من دم الأَجْوافِ مَدْمُومُ

قال ابن فارس : " ما كان منقوشاً طُولاً فهو عَقْلٌ ، أو مستديراً فهوَ رَقْمٌ " ولا محلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها .