الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أتأمرون الناس بالبر}، وذلك أن اليهود قالوا لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن محمدا حق فاتبعوه ترشدوا، فقال الله عز وجل لليهود: {وتنسون أنفسكم}، يعني أصحاب محمد.

{وتنسون أنفسكم}، يقول: وتتركون أنفسكم فلا تتبعوه.

{وأنتم تتلون الكتاب}، يعني التوراة، فيها بيان أمر محمد ونعته.

{أفلا تعقلون} أنتم فتتبعونه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في معنى البرّ الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم، بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى برّا. فروي عن ابن عباس:"أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ": أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوّة والعهد من التوراة، وتتركون أنفسكم: أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.

[وعنه]: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ.

وقال آخرون: عن السدي: "أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ "قال: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه.

[و] عن قتادة في قوله: أتأمُرُونَ النّاسَ بالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبرّ ويخالفون، فعيّرهم الله.

[وعن] ابن جريج: "أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ": أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيّرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشدّ الناس فيه مسارعة.

وقال آخرون: هؤلاء اليهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحقّ، فقال الله لهم: "أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ".

قال أبو جعفر: وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب المعنى لأنهم وإن اختلفوا في صفة البرّ الذي كان القوم يأمرون به غيرهم الذين وصفهم الله بما وصفهم به، فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضا من القول أو العمل، ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم.

فالتأويل الذي يدلّ على صحته ظاهر التلاوة إذا: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه، فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم معيرهم بذلك ومقبحا إليهم ما أتوا به.

ومعنى نسيانهم أنفسهم في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: "نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ "بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه.

"وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ": تَتْلُونَ: تدرسون وتقرءون. ويعني بالكتاب: التوراة.

"أفَلا تَعْقِلُونَ": أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حقّ الله وطاعته في اتباع محمد والإيمان به وبما جاء به مثل الذي على من تأمرونه باتباعه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

ويحتمل أن ذا الخطاب لهم ولجميع المسلمين ألا يأمر أحدا بمعروف إلا ويأمر نفسه بمثله، بل الواجب أن يبدأ بنفسه ثم بغيره؛ فذلك أنفع وأسرع إلى القبول.

(أفلا تعقلون) أن ذلك في العقل أن يجعل أول السعي في إصلاح نفسه ثم الأمر لغيره...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

ينبغي أن تقع البداية بإصلاح القلب وسياسة النفس، ومن لم يصلح نفسه وطمع في إصلاح غيره كان مغرورا... ومثال من عجز عن إصلاح نفسه وطمع في إصلاح غيره، مثال الأعمى إذا أراد أن يهدي العميان، وذلك لا يستتب له قط، وإنما يقدر على إصلاح النفس بمعرفة النفس. [فضائح الباطنية: 199].

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أَتَأْمُرُونَ} الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم. والبرّ سعة الخير والمعروف. ومنه البر لسعته، ويتناول كل خير.

وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتبعونه. وقيل: كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون، وإذا أتوا بصدقات ليفرّقوها خانوا فيها.

{وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} وتتركونها من البر كالمنسيات.

{وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} تبكيت مثل قوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني تتلون التوراة وفيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم، أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل.

{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} توبيخ عظيم بمعنى: أفلا تفطنون، لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول لأن العقول تأباه وتدفعه. ونحوه: {أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67].

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وأما قوله: {أفلا تعقلون} فهو تعجب للعقلاء من أفعالهم... [و] سبب التعجب [هنا له] وجوه:

الأول: أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال: {أفلا تعقلون}

الثاني: أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية لأن الناس يقولون أنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات وإلا لما أقدم على المعصية فيصير هذا داعيا لهم إلى التهاون بالدين والجراءة على المعصية، فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء، فلهذا قال: {أفلا تعقلون}

(الثالث): أن من وعظ فلابد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذا في القلوب... والإقدام على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول، فمن وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثرا في القلوب، ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرا في القلوب. فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء، ولهذا قال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك.

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

ليبدأ المفتي بنفسه في كل خير يفتي به، فهو أصل استقامة الخلق بفعله وقوله، قال الله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}، ومتى كان المفتي متقيا لله تعالى وضع الله البركة في قوله، ويسر قبوله على مستمعه...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (45) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (46) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون}

الكلام موجه إلى بني إسرائيل وقد تقدم في الآيات السابقة أن الله ذكرهم بنعمته، وأمرهم بالوفاء بعهده، وأن يرهبوه ويتقوه وحده، وأن يؤمنوا بالقرآن، ونهاهم أن يكونوا أول كافر به، وأن يشتروا بآياته ثمنا قليلا، وأن يلبسوا الحق بالباطل ويكتموه عمدا. ثم أمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وطفق في هذه الآيات يوبخهم على سيرتهم المعوجة في الدين، ويهديهم إلى طريق الخروج منها.

اليهود كسائر الملل يدعون الإيمان بكتابهم والعمل به، والمحافظة على أحكامه والقيام بما يوجبه، ولكن الله تعالى علمنا أن من الإيمان – بل مما يسمى في العرف إيمانا – مالا يعبأ به، فيكون وجوده كعدمه، وهو الإيمان الذي لا سلطان له على القلب، ولا تأثير له في إصلاح العمل، كما قال {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} وكانت اليهود في عهد بعثه عليه الصلاة والسلام قد وصلوا في البعد عن جوهر الدين إلى هذا الحد. كانوا – ولا يزالون – يتلون الكتاب تلاوة يفهمون بها معاني الألفاظ، ويجلون أوراقه وجلده، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته، لأن الذين يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به كما قال تعالى وعلى الوجه الذي يرضاه تعالى: يتلون ألفاظه وفيها البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويأمرون بالعمل بأحكامه وآدابه من البر والتقوى، ولكن الأحبار القارئين الآمرين الناهين ما كانوا يبينون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم وتقاليدهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إلا إذا لم يعارض حظوظهم وشهواتهم. فقد عهد الله إليهم في الكتاب أنه يقيم من إخوانهم نبيا يقيم الحق 148 وفرض عليهم الزكاة، ولكنهم كانوا يحرفون البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويؤلونها. ويحتالون لمنع الزكاة فيمنعونها، وجعلت لهم مواسم واحتفالات دينية تذكرهم بما آتى الله أنبياءهم من الآيات وما منحهم من النعم لينشطوا إلى إقامة الدين والعمل بالكتاب. ولكن القلوب قست بطول الأمد ففسقت النفوس عن أمر ربها. وهذه التوراة التي بين أيديهم لا تزال حجة عليهم، فلو سألتهم عما فيها من الأمر بالبر والحث على الخير لاعترفوا وما أنكروا، ولكن أين العمل الذي يهدي إليه الإيمان، فيكون عليه أقوى حجة وبرهان.

كذلك كان شأن أحبار اليهود وعلمائهم في معرفة ظواهر الدين بالتفصيل وكان عامتهم يعرفون من الدين العبادات العامة والاحتفالات الدينية وبعض الأمور الأخرى بالإجمال، ويرجع المستمسك منهم بدينه في سائر أموره إلى الأحبار فيقلدهم فيما يأمرونه به، وكانوا يأمرونه صوابا فيما ليس لهم فيه هوى، وإلا لجأوا إلى التأويل والتحريف والحيلة ليأخذوا من الألفاظ ما يوافق الهوى ويصيب الغرض، فإذا وجه الخطاب في قوله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} إلى حملة الكتاب فذاك لأن الأمر والنهي وظيفتهم، وإذا كان عاما فذاك لأن شأن العامة فيما يعرفون من الدين بالإجمال كشأن الرؤساء فيما يعرفون بالتفصيل، ولا يكاد يوجد أحد لا يأمر بخيره ولا بحث على بر، فإذا كان الآمر لا يأتمر بما يأمر به فالحجة قائمة عليه بلسانه.

وبخ الله هؤلاء القوم على أنهم كانوا يأمرون الناس بالبر كالأخذ بالحق ومعرفته لأهله، وعمل الخير والوعد عليه بالسعادة مع الغفلة عن أنفسهم وعدم تذكيرها بذلك، وما أجمل التعبير عن هذه الحالة بنسيان الأنفس، فإن من شأن الإنسان أن لا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، كأنه يقول: إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البر ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم {وأنتم تتلون الكتاب} وتأمرون الناس بإتباعه وتعرفون منه ما لا يعرفه المأمورون؟ أفيعلمون مع نقص العلم بفائدة العمل، ولا تعملون على كمال العلم وسعته؟ ولما كان هذا غير معقول قفى على استفهام التوبيخ بقوله {أفلا تعقلون} يعني ألا يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا السفه؟ فإن من له مسكة من العقل لا يدعى كمال العلم بالكتاب والإيمان اليقيني به والقيام بالإرشاد إليه: هذا كتاب الله، هذه وصايا الله، هذا أمر الله، قد وعد العامل به السعادة في الدنيا أو الآخرة أو كليهما، فخذوا به واستمسكوا بعراه، وحافظوا عليه، -ثم هو لا يعمل ولا يستمسك؟

مثل من كانت هذه حاله كمثل رجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى بحيث لا يضل سالكه، ثم هو يسلك طريقا آخر مظلما طامس الأعلام وكلما لقي في طريقه شخصا نصح له أن لا يمشي معه، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه، أو مثل ساغب يدعو الناس على المائدة الشهية، ويبيت على الجوع والطوى، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم.

إذا كان هذا لا يقع من صحيح العقل فكذلك أمر المؤمن بشعب الإيمان وعدم الائتمار بها، مع تذكرها وتلاوة كلام الله فيها. فلا بد لتعقل هذا من القول بأن الإيمان بالوعد على البر والوعيد على الفجور غير يقيني عند الآمر المخالف. ويؤيده أن القوم كانوا عقلاء في كسب المال وحفظ الجاه الدنيوي وإنما ضلوا من جهة الدين بأخذه على غير وجهه.

الخطاب عام لليهود الذين كان هذا حالهم وعبرة لغيرهم لأنه منبئ عن حال طبيعية للأمم في مثل ذلك الطور الذي كانوا فيه، ولذلك كان القرآن هداية للعالمين إلى يوم الدين، لا حكاية تاريخ يقصد بها هجاء الإسرائيليين، فلتحاسب أمة نفسها في أفرادها ومجموعها لئلا يكون حالها كحال من ورد النص فيهم فيكون حكمها عند الله كحكمهم، لأن الجزاء على أعمال القلوب والجوارح، لا لمحاباة الأشخاص والأقوام أو معاداتهم.

(فإن قيل) إن من يأمر غيره بالبر وينسى نفسه قد يكون متكلا في ترك العمل على الشفاعات والمكفرات، كالأذكار والصدقات، لا أنه يترك لعدم اليقين في الإيمان، وإذا أمر غيره بالبر مع هذا فذاك لأنه يلاحظ المكفرات في شأن نفسه ولا يلاحظها في شأن غيره.

(نقول) إن العالم بالدين لا يخفى عليه أن حكم الله تعالى واحد عام، فكيف يحتم البر على غيره ويوهمه أنه لا يقر به من رضوان الله ويبعده من سخطه إلا هو، وينسى نفسه فلا يحتم عليها ذلك؟ ثم كيف يجهل أن الشفاعات والأعمال الصالحة التي ورد أنها تكفر السيئات لا يصح أن تكون مثبطة عن عمل البر أو سببا لتركه لأنه خلاف المقصود من الدين؟ فهل يكون فرع من فروع الدين هادما لأصوله وسائر فروعه؟ كل ذلك كان ينبغي أن يكون بعيدا عن العالم بالدين الذي يتلو كتاب الله تعالى ولكن هذا الضرب من الخذلان يعرض لأرباب الأديان عند فساد حال الأمم، فنبه الله تعالى عليه بهذا التعبير اللطيف وهو نسيان النفس مع تلاوة الكتاب، فكأن الزاعم أنه مؤمن ولا يعمل عمل الإيمان، نسي أنه هو الذي يزعم الإيمان، وصاحب هذا النسيان يمضي في العمل القبيح من غير فكر ولا روية بل انبعاثا مع الحظوظ والشهوات التي حكمها في نفسه، وملكها زمام عقله وحسه، ولكنه لا يلاحظها في غيره عند ما يعرض عليه عمله السيء أو يراه معرضا عن عمل البر ولذلك يعظه ويذمه.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} أي: بالإيمان والخير {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي: تتركونها عن أمرها بذلك، والحال: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وسمى العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه، دل على عدم عقله وجهله، خصوصا إذا كان عالما بذلك، قد قامت عليه الحجة.

وهذه الآية، وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما، لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل، فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين بصفة خاصة، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل.

إن آفة رجال الدين -حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة- أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه؛ ويدعون إلى البر ويهملونه؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه؛ ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود!

والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها. وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولا جميلا، ويشهدون فعلا قبيحا؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة؛ وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها...

والمطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك، ليست مع هذا أمرا هينا، ولا طريقا معبدا. إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة. وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والاستفهام هنا للتوبيخ لعدم استقامة الحمل على الاستفهام الحقيقي فاستعمل في التوبيخ مجازاً بقرينة المقام وهو مجاز مرسل لأن التوبيخ يلازم الاستفهام لأن من يأتي ما يستحق التوبيخ عليه من شأنه أن يتساءل الناس عن ثبوت الفعل له ويتوجهون إليه بالسؤال فينتقل من السؤال إلى التوبيخ ويتولد منه معنى التعجيب من حال الموبخ وذلك لأن الحالة التي وبخوا عليها حالة عجيبة لما فيها من إرادة الخير للغير وإهمال النفس منه فحقيق بكل سامع أن يعجب منها، وليس التعجب بلازم لمعنى التوبيخ في كل موضع بل في نحو هذا مما كان فيه الموبخ عليه غريباً غير مألوف من العقلاء فإذا استعمل الاستفهام في لازم واحد فكونه مجازاً مرسلاً ظاهر وإذا استعمل في لازمين يتولد أحدهما من الآخر أو متقاربين فهو أيضاً مجاز مرسل واحد لأن تعدد اللوازم لا يوجب تعدد العلاقة ولا تكرر الاستعمال لأن المعاني المجازية مستفادة من العلاقة لا من الوضع فتعدد المجازات للفظ واحد أوسع من استعمال المشترك...

والنسيان ذهاب الأمر المعلوم من حافظة الإنسان لضعف الذهن أو الغفلة ويرادفه السهو وقيل السهو الغفلة اليسيرة بحيث يتنبه بأقل تنبيه، والنسيان زواله بالكلية وبعض أهل اللغة فسر النسيان بمطلق الترك وجعله صاحب « الأساس» مجازاً وهو التحقيق وهو كثير في القرآن. والنسيان هنا مستعار للترك عن عمد أو عن التهاون بما يذكر المرء في البر على نحو ما.

قيل في قوله تعالى: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 5] أي وتتركون أنفسكم من ذلك أي من أمرها بالبر أو وتنسون أن تأمروا أنفسكم بالبر وفي هذا التقدير يبقى النسيان على حقيقته لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون بمثل ما ينهون عنه فإذا تصدوا إلى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه وقد يرى الإنسان عيب غيره لأنه يشاهده ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهدها ولأن العادة تنسيه حاله. ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس فيكون البر راجعاً إلى جميع ما تضمنته الأوامر السابقة من التفاصيل فهم قد أمروا غيرهم بتفاصيلها ونسوا أنفسهم عند سماعها وذلك يشمل التصديق بدين الإسلام لأنه من جملة ما تضمنته التوراة التي كانوا يأمرون الناس بما فيها.

جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :

وما أكثر علماء السوء وأحبار الضلال في هذه الأمة، وما أعظم بلاءهم وأشد فتنتهم على الناس، فهم يتقمصون الدين لأجل أن يأكلوا به أموال الناس، ويرتقوا على أكتافهم إلى المناصب التي يتطلعون إليها، يأمرون الناس بالخير ولا يأتمرون، وينهونهم عن الشر ولا ينتهون، يتباكون في مواعظهم ولا يبكون، كل همهم جمع حطام الدنيا ونيل ما يشتهونه من ملذاتها، والارتقاء إلى أوج مناصبها ليست في نفوسهم على حرمات الله غيرة، ولا لدينه حمية، يتجاذبون الدنيا كما تتجاذب الكلاب الجيف، ويغار بعضهم من بعض إذا نال منها نيلا كما تغار الضرة من ضرتها إذا استأثرت عليها بمودة الزوج أو عطائه، ويتقربون إلى الحكام بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، وإبطال الحق، وإحقاق الباطل، تتقلب فتاواهم بين عشية وضحاها بحسب ما يملي عليهم الهوى، ويقتضيه رضى ساداتهم الذين يؤثرون طاعتهم على طاعة الله. وإن دعوا يوما الى الحق أو أرشدوا إلى الهدى ناقضت أعمالهم أقوالهم، وكذبت أحوالهم دعوتهم، ورأى الناس فجوة سحيقة بين ما هم فيه وما يدعون إليه، فبقوا حائرين بين اتباع القول أو الاقتداء بالعمل، فلا تلبث دعوتهم أن تتطاير هباء في الفضاء، ولا يكون لها أي أثر في نفوس ساميعها، بل كثيرا ما تكون دعوة هؤلاء الحق الى الحق أعمل المعاول في هدم صرحه لأن الفجوة بين القول والعمل تجعل الناس يستخفون بالدعوة من اساسها إذ لا تقف سخريتهم عند الداعية بل تتجاوزه إلى ما يدعو إليه فيصبح أثر دعوته عكسيا، فلربما ظن الناس أنه لم يرد بدعوته إلا شغلهم بما يأمرهم به والاستئثار بما ينهاهم عنه، كما لو نهى عن أكل الربا وكان آكله، أو حذرهم من الرشوة وعُرف عنه الارتشاء، أو حض على ملازمة الجماعة وهو لا يأتي المساجد. أما الدعوة النافعة التي تحول الناس من الضلال الى الهدى ومن الفساد إلى الصلاح، فهي الدعوة التي يصدقها فعل الداعية، ويترجمها واقعه، ويزكيها إخلاصه، واذا لم يتفاعل الداعية مع دعوته فكيف يتفاعل معها غيره؟ وهل أمكن لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أن يخرجوا الأمم الضالة الحائرة في أرجاء الأرض مما كانت فيه وعليه من الغي والانحراف والفساد والظلمات، الى الرشد والاستقامة والصلاح والنور -في ذلك العصر الذي لم تكن توجد فيه وسائل إعلام ولا دور نشر- إلا بتجسيد ما كانوا يدعون إليه من الحق، ويبينونه من الهدى في واقع أنفسهم بحيث كانوا صورة حية ومثالا واقعيا للإِيمان العميق والإسلام الخالص، وبهذا أخذ الناس يتسابقون إلى تلبية هذا النداء، واتباع هذه الحق. لقد خبر أولئك الصحابة رضوان الله عليهم ومن كان على هديهم الدعوة فعرفوا أنها دين وعقيدة وتضحية وفداء وبذل وعطاء، ليست حرفة ولا صناعة، فبذلوا كل ما في وسعهم من جهد مال ووقت في سبيلها، وكانوا أحرص ما يكونون على دعوة أنفسهم أولا، فلم يكونوا يتساهلون فيها أو يتهاونون في محاسبتها.

وقد أدركوا قيمة الدعوة من خلال معرفتهم بقيمة ما يدعون إليه، والهدف المنشود منها، فرأوا الحياة بجانبها رخيصة، فلم يكن أحدهم يتردد في التضحية بحياته من أجلها، وقد سجل لنا التاريخ من مآثرها التابعين وتابعيهم -بله الصحابة- ما تتطأطأ أمامه الرؤوس وتخضع الرقاب، وتمتلئ به النفوس إعجابا كقصة سلمة بن سعد رضي الله عنه الذي خرج من موطنه بجنوبي الجزيرة العربية ليلتحق بمدرسة جابر وأبي عبيدة بالبصرة، وعندما عرض عليه أبو عبيدة -رحمه الله- الاتجاه نحو بلاد المغرب لنشر دعوة الحق لم يتردد في الاستجابة لذلك بل قال قولته المشهورة:"وددت لو ظهر هذا الأمر يوما واحدا بالمغرب ثم لا أبالي أن تضرب عنقي"، ولم تكن هذه القولة مجرد كلمات يثرثر بها اللسان ولكنها كانت عقيدة راسخة متمكنة في نفسه وشعورا عميقا ينبض به قلبه، وقد صدقها عمله إذ خرج بين رصد عملاء بني أمية وتحت ضغط إرهابهم الرهيب، وما كاد يطأ تراب المغرب الأدنى حتى أخذ يغشى مجتمعات أقوام لا يعرف لغتهم، ولا يتصور عاداتهم يبث بينهم دعوة الحق ويشرح لهم حقيقة الإسلام، وأخذ يواصل سيره مضطلعا بهذه المهمة إلى أن وصل إلى المغرب الأقصى. إن هذا المنهج هو منهج رجال الدعوة وحملة الرسالة الذين لا يجعلون من دعوتهم فخا يصطادون به المال، ولا سلما يرقون عليه إلى المناصب. أما الدعاة الذين لا يهمهم من الدعوة إلى ما يكسبونه من المال وينالونه من الجاه، فهم أحرى بالمثل الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه عنه الخطيب والطبراني من طريق جندب ابن عبدالله رضي الله عنه "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه "وضرب قطب الأئمة -رحمه الله- في هيميان الزاد لهؤلاء أمثالا عدة منها أنهم كمن يشفق على غيره أن يسقط في هوة أو يقع في نار ويغفل عن نفسه وهو مشرف على ذلك. ومثلهم صاحب المنار برجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى بحيث لا يضل سالكه ثم هو يسلك طريقا آخر مظلما طامس الأعلام، وكلما لقى في طريقه شخصا نصح له أن لا يمشي معه وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه، وساغب يدعو الناس إلى المائدة الشهية ويبيت على الجوع والطوى، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم.