غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

40

ثم إنه سبحانه لما أمرهم بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم رغبهم في ذلك بناء على مأخذ آخر ، وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول . والهمزة في { أتأمرون } للتقرير مع التقريع ، والتعجيب من حالهم . والبر اسم جامع لأعمال الخير ، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وعمل مبرور مرضي . واختلف في البر ههنا . قال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله ثم يتركونها وينهونهم عن معصية الله ويرتكبونها . وقال ابن جريج . تأمرون الناس بالصلاة والزكاة وتتركونهما . أبو مسلم : كانوا قبل مبعث النبي يخبرون مشركي العرب أن رسولاً سيظهر منكم ويدعو إلى الحق ويرغبونهم في أتباعه ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسدوه وأعرضوا عن دينه . الزجاج : يأمرون الناس بالصدقة ويشحون بها . وقيل : يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه . وقيل : يأمرون غيرهم باتباع التوراة وهم يخالفونها لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ثم ما آمنوا به . وقيل : لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباعه في الظاهر وينكرونه صلى الله عليه وسلم في الباطن ، فوبخهم الله على ذلك . والنسيان هو السهو الحادث بعد حصول العلم ، والناسي غير مكلف فكيف يتوجه الذم على ما صدر عنه ؟ فإذن المراد وتغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع { وأنتم تتلون الكتاب } أي التوراة وتدرسونها وتعلمون ما فيها من أعمال البر ومن نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومن الوعيد على ترك البر ومخالفة القول العمل { أفلا تعقلون } ؟ وهو تعجيب للعقلاء من أفعالهم . وكثيراً ما يحذف الفعل بعد همزة الاستفهام للعلم به والتقدير : أفعلتم ذلك فلا تعقلون . وقس على هذا نظائره في القرآن فإنها كثيرة . وللتعجيب وجوه : منها أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى المصالح وتحذيره عن المفاسد ، وإرشاد النفس إليها وتحذيرها منها أهم بشواهد العقل والنقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بما لا يقبله العقل الصحيح . ومنها أن مثل هذا الوعظ يصير سبباً للمعصية لأن الناس يقولون لولا أن هذا الواعظ مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المناهي ، فيكون داعياً لهم إلى التهاون بالدين والجرأة على المعاصي ، وهذا مناف للغرض من الوعظ فلا يليق بالعقلاء . ومنها أن غرض الواعظ ترويج كلامه وتنفيذ مرامه ، فلو خالف إلى ما نهى عنه صار كلامه بمعزل عن القبول وهذا خلاف المعقول . قال بعضهم : ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر استدلالاً بهذه الآية ، وبقوله تعالى { لم تقولون ما لا تفعلون } [ الصف : 2 ] وبأن الزاني بامرأة يقبح منه أن ينكر عليها ، وأجيب بأن المكلف مأمور بشيئين : ترك المعصية ، ومنع الغير عنها ، والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر . والذم في الآية مترتب على الشق الثاني وهو نسيان النفس لا على مجموع الأمرين ، قالوا : وحديث القبح ممنوع . قلت : والحق أنه مكابرة ، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار . فقلت : يا أخي يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم " وقال صلى الله عليه وسلم " إن في النار رجلاً يتأذى أهل النار بريحه " فقيل : من هو يا رسول الله ؟ قال : " عالم لا ينتفع بعلمه " وقال صلى الله عليه وسلم " مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه " وعن الشعبي : يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون : لم دخلتم النار فإنا دخلنا الجنة بفضل تعليمكم ؟ فقالوا : إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله . وقيل : من وعظ بقوله ضاع كلامه ، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه . وقيل : عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل . روي أن يزيد بن هارون مات - وكان واعظاً زاهداً مات - فرؤي في المنام فقيل : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، وأوّل ما سألني منكر ونكير فقالا : من ربك ؟ فقلت : أما تستحيان من شيخ دعا الناس إلى الله كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك . وقيل للشبلي عند النزع : قل لا إله إلا الله . فقال :

إن بيتاً أنت ساكنه *** غير محتاج إلى سرج