ثم إنه سبحانه لما أمرهم بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم رغبهم في ذلك بناء على مأخذ آخر ، وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول . والهمزة في { أتأمرون } للتقرير مع التقريع ، والتعجيب من حالهم . والبر اسم جامع لأعمال الخير ، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وعمل مبرور مرضي . واختلف في البر ههنا . قال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله ثم يتركونها وينهونهم عن معصية الله ويرتكبونها . وقال ابن جريج . تأمرون الناس بالصلاة والزكاة وتتركونهما . أبو مسلم : كانوا قبل مبعث النبي يخبرون مشركي العرب أن رسولاً سيظهر منكم ويدعو إلى الحق ويرغبونهم في أتباعه ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسدوه وأعرضوا عن دينه . الزجاج : يأمرون الناس بالصدقة ويشحون بها . وقيل : يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه . وقيل : يأمرون غيرهم باتباع التوراة وهم يخالفونها لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ثم ما آمنوا به . وقيل : لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباعه في الظاهر وينكرونه صلى الله عليه وسلم في الباطن ، فوبخهم الله على ذلك . والنسيان هو السهو الحادث بعد حصول العلم ، والناسي غير مكلف فكيف يتوجه الذم على ما صدر عنه ؟ فإذن المراد وتغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع { وأنتم تتلون الكتاب } أي التوراة وتدرسونها وتعلمون ما فيها من أعمال البر ومن نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومن الوعيد على ترك البر ومخالفة القول العمل { أفلا تعقلون } ؟ وهو تعجيب للعقلاء من أفعالهم . وكثيراً ما يحذف الفعل بعد همزة الاستفهام للعلم به والتقدير : أفعلتم ذلك فلا تعقلون . وقس على هذا نظائره في القرآن فإنها كثيرة . وللتعجيب وجوه : منها أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى المصالح وتحذيره عن المفاسد ، وإرشاد النفس إليها وتحذيرها منها أهم بشواهد العقل والنقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بما لا يقبله العقل الصحيح . ومنها أن مثل هذا الوعظ يصير سبباً للمعصية لأن الناس يقولون لولا أن هذا الواعظ مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المناهي ، فيكون داعياً لهم إلى التهاون بالدين والجرأة على المعاصي ، وهذا مناف للغرض من الوعظ فلا يليق بالعقلاء . ومنها أن غرض الواعظ ترويج كلامه وتنفيذ مرامه ، فلو خالف إلى ما نهى عنه صار كلامه بمعزل عن القبول وهذا خلاف المعقول . قال بعضهم : ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر استدلالاً بهذه الآية ، وبقوله تعالى { لم تقولون ما لا تفعلون } [ الصف : 2 ] وبأن الزاني بامرأة يقبح منه أن ينكر عليها ، وأجيب بأن المكلف مأمور بشيئين : ترك المعصية ، ومنع الغير عنها ، والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر . والذم في الآية مترتب على الشق الثاني وهو نسيان النفس لا على مجموع الأمرين ، قالوا : وحديث القبح ممنوع . قلت : والحق أنه مكابرة ، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار . فقلت : يا أخي يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم " وقال صلى الله عليه وسلم " إن في النار رجلاً يتأذى أهل النار بريحه " فقيل : من هو يا رسول الله ؟ قال : " عالم لا ينتفع بعلمه " وقال صلى الله عليه وسلم " مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه " وعن الشعبي : يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون : لم دخلتم النار فإنا دخلنا الجنة بفضل تعليمكم ؟ فقالوا : إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله . وقيل : من وعظ بقوله ضاع كلامه ، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه . وقيل : عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل . روي أن يزيد بن هارون مات - وكان واعظاً زاهداً مات - فرؤي في المنام فقيل : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، وأوّل ما سألني منكر ونكير فقالا : من ربك ؟ فقلت : أما تستحيان من شيخ دعا الناس إلى الله كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك . وقيل للشبلي عند النزع : قل لا إله إلا الله . فقال :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.