فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

{ أتأمرون الناس بالبر } الهمزة للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين ، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر فإنه فعل حسن مندوب إليه ، بل سبب ترك فعل البر المستفاد من قوله { وتنسون أنفسكم } تتركونها فلا تأمرونها به مع تزكية النفس والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاما للناس وتلبيسا عليهم ، نزلت في علماء اليهود ، والبر : الطاعة والعمل الصالح وسعة الخير والمعروف والصدق .

فالبر : اسم جامع لجميع أعمال الخير والطاعات ، والنسيان هو هنا بمعنى الترك ، وفي الأصل خلاف الذكر والحفظ أي زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة والحافظة ، وإنما عبر عن الترك بالنسيان لأن نسيان الشيء يلزمه تركه فهو من استعمال الملزوم في اللازم أو السبب في المسبب ، وسر هذا التجوز الإشارة إلى أن ترك ما ذكر لا ينبغي أن يصدر عن العاقل إلا نسيانا ، والنفس الجسد ، والمعنى وتعدلون عما لها فيه نفع .

{ وأنتم تتلون الكتاب } جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع وأشد توبيخ وأبلغ تبكيت ، أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أهل العلم العارفين بقبح هذا الفعل ، وشدة الوعيد عليه كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه وتدرسونه ، والآيات التي تقرؤونها من التوراة والتلاوة : القراءة وهي المراد هنا وأصلها الاتباع .

{ أفلا تعقلون } استفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم ، وهو أشد من الأول وأشد ، ولشد ما قرع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ولا يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم ، فاستنكر عليهم أولا أمرهم للناس بالبر مع نسيان أنفسهم من ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع ، ونادوا به في المجالس إيهاما للناس بأنهم مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه ، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه ، وهم أترك الناس لذلك وأبعدهم من نفعه وأزهدهم فيه .

ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى جعلها مبينة لحالهم وكاشفة لعوارهم وهاتكة لأستارهم ، وهي أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة ، والخصلة الفظيعة ، على علم منهم ومعرفة بالكتاب الذي عليهم وملازمة لتلاوته وهم في ذلك كما قال المعري :

وإنما حمل التوراة قارئها كسب الفوائد لا حب التلاوات

ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع ، ومن توبيخ إلى توبيخ ، فقال : إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم وحملة الحجة وأهل الدراسة لكتب الله لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلا بينكم وبين ذلك ذائدا لكم عنه ، زاجرا لكم منه ، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم ؟ والعقل في أصل اللغة المنع ومنع عقال البعير لأنه يمنعه عن الحركة ومنه العقل في الدية لأنه يمنع الولي عن قتل الجاني ، والعقل نقيض الجهل .

ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو أصل معنى العقل عند أهل اللغة أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية ، ويصح أن يكون معنى الآية أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم ، والعقل قوة تهيئ قبول العلم ، ويقال العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة العقل .

وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسرى بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت فقلت لجبريل من هؤلاء قال هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون .

وثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان مالك ؟ ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه ) .

وفي الباب أحاديث معناها أن يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم بم دخلتم النار ، وإنما دخلنا الجنة بتعليمكم ، قالوا إنا كنا نأمركم ولا نفعل ، وأخرج الطبراني والخطيب في الاقتضاء والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب ابن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ) {[92]} .


[92]:صحيح الجامع الصغير /5707 برواية {وينسى نفسه}