نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

ولما أمر علماءهم بما تركوا من معالي الأخلاق{[2194]} من الإيمان والشرائع بعد أمرهم بذكر ما خصهم به من النعم ، ونهاهم عما ارتكبوا من سفسافها{[2195]} من كفر النعم{[2196]} ونقض العهود وما تبع ذلك{[2197]} وكانوا يأمرون غيرهم بما يزعمون أنه تزكية وينهونه{[2198]} عما يدعون{[2199]} أنه تردية ، أنكر عليهم{[2200]} ترغيباً فيما ندبهم إليه وحثهم عليه وتوبيخاً على تركه بقوله : { أتأمرون } من الأمر وهو الإلزام بالحكم{[2201]} - قاله الحرالي { الناس بالبر } وهو التوسع في أفعال الخير { وتنسون } {[2202]}والنسيان السهو الحادث بعد حصول العلم ، { أنفسكم } أي تتركون حملها على ذلك {[2203]}ترك الناسي ، ولعله عبر به زيادة في التنفير عن هذا الأمر الفظيع الذي دلّ العقل دلالة بينة على فحشه ، لأن المقصود من أمر الغير بالبر النصيحة أو الشفقة ، وليس من العقل أن يشفق الإنسان على غيره أو ينصح غيره وينسى نفسه ، والظاهر أن المراد{[2204]} به حكم التوراة ، كانوا يحملون عوامهم عليه وهم يعلمون دون العوام أن من حكم التوراة{[2205]} اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد نسوا أنفسهم من الأمر بأساس البر الذي لا يصح{[2206]} منه شيء إلاّ به .

وقال الحرالي : ولما كان فيهم من أشار على من استهداه بالهداية لاتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولم يهدوا أنفسهم لما أرشدوا إليه غيرهم أعلن تعالى عليهم بذلك{[2207]} نظماً لما{[2208]} تقدم من{[2209]} نقض عهدهم ولبسهم وكتمهم بما {[2210]}ظهر من{[2211]} نقص عقولهم في أن يظهر طريق الهدى لغيره ولا يتبعه فأخرجهم بذلك عن حد العقل الذي هو أدنى أحوال المخاطبين ، و{[2212]}زاد في تبكيتهم بجملة حالية حاكية{[2213]} تلبسهم بالعلم والحكمة الناهية عما هم عليه فقال : { وأنتم تتلون الكتاب }{[2214]} من التلاوة ، وهو تتبع قول قائل أول من جهة أوليته - قاله الحرالي . وهذه الجملة الحالية أعظم منبّه على أن من حكم التوراة اتباعه صلى الله عليه وسلم ، ومشير إلى أن المعصية من العالم أقبح . قال {[2215]}الحرالي : فيه إشعار بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في منطوق تلاوته ليس في خفي إفهامه ، فكان في ذلك خروج عن حكم نور العقل - انتهى .

ولما كان هذا{[2216]} في كتابهم وهم به يأمرون وعنه معرضون سبب سبحانه عنه الإنكار في قوله : { أفلا } {[2217]}أي أتتلونه فلا{[2218]} { تعقلون } إشارة إلى أن ما هم عليه من هذا لا يفعله ذو {[2219]}مسكة ، والعقل إدراك حقائق ما نال الحس ظاهره - قاله الحرالي . {[2220]}سمي عقلاً لأنه يعقل عن التورّط في الهلكة .


[2194]:العبارة من هنا إلى "النعم" ليست في ظ.
[2195]:العبارة من هنا على "ذلك" ليست في ظ.
[2196]:زيدت في م: ونهاهم عما ارتكبوا من – مكررة.
[2197]:قال المهائمي: ثم أشار إلى أنهم لا يأتون بأصل أعمال البر من كتابهم فضلا عن فضائل كتابكم فقال: "أتأمرون الناس بالبر" وهو التوسع في الخيرات أو مراعاة الأقارب أو حسن معاملة الناس "وتنسون أنفسكم" أي تتكرونها ترك المنسي فلا تأتون بشيء من الخيرات فضلا عن الفضائل. وفي التفسير المظهري: قال البغوي: نزلت في علماء اليهود وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا سأله عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم: أثبتت على دينه فإن أمره حق وقوله صدق. وكذا أخرج الواحدي عن ابن عباس، وقيل: هو خطاب لأحبارهم حيث أمروا أتباعهم بالتمسك بالتوراة وهم خالفوا التوراة وغيروا نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيه. وقال البيضاوي: "أتأمرون" تقرير مع توبيخ وتعجيب، والبر التوسع في الخير من البر وهو الفضاء يتناول كل خير، لذلك قيل: البر ثلاثة: بر في عبادة الله، وبر في مراعاة الأقارب، وبر في معاملات الأجانب.
[2198]:في م: تنهونه.
[2199]:"عما يدعون" ليس في م.
[2200]:العبارة من هنا إلى "تركه" ليست في ظ.
[2201]:في م: بالمحكم.
[2202]:العبارة من هنا إلى "العلم" ليست في ظ.
[2203]:العبارة من هنا على "وينسى نفسه" ليست في ظ.
[2204]:من م وظ، وفي الأصل: للمراد.
[2205]:ليس في ظ.
[2206]:في م: لا يصلح.
[2207]:وقال أبو حيان: وقال السلمي: أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها وقال القشيري: أتحرضون الناس على البدار وترضون بالتخلف، وقال: أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا وألفاظا من هذا المعنى. والأنفس هنا ذواتهم وقيل: جماعتهم وأهل ملتهم – انتهى.
[2208]:ليست في ظ.
[2209]:ليست في ظ.
[2210]:ليست في ظ.
[2211]:ليست في ظ.
[2212]:العبارة من هنا إلى "فقال" ليست في ظ.
[2213]:ليس في م.
[2214]:قال المهائمي: "وأنتم تتلون الكتاب" أي التوراة فحقكم أن تسبقوا الناس بالعمل بما فيه ليقتدي الناس بكم ويعتمدوا على أقوالكم "ا" رضيتم بهلاك أنفسكم مع صلاح غيركم. وقال البيضاوي: تبكيت كقوله تعالى "وأنتم تعلمون" أي تتلون التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البر ومخالفة القول العمل "أفلا تعقلون" قبح صنيعكم فيصدكم عنه، أو أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون وخاصة عاقبته؛ والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ نفسه سوء صنيعه وخبث نفسه وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل، فإن الجامع بينهما يأبى عنه شكيمته، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل ليقوم فيقيم، لا منع الفاسق عن الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بها لا يوجب الإخلال بالآخر – انتهى.
[2215]:في م: قاله.
[2216]:ليس في ظ.
[2217]:ليست في ظ. وفي م: تتلون – مكان: تتلونه.
[2218]:ليست في ظ. وفي م: تتلون – مكان: تتلونه.
[2219]:في ظ: ذوا.
[2220]:العبارة من هنا إلى "الهلكة" ليست في ظ.