ثم ينتقل الخطاب إلى الرسول [ ص ] يعرفه طريقه حين يتولى عنه من يتولى ، ويصله بالقوة التي تحميه وتكفيه :
( فإن تولوا فقل : حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ) .
فإليه تنتهي القوة والملك والعظمة والجاه ، وهو حسب من لاذ به وحسب من والاه .
إنه ختام سورة القتال والجهاد : الارتكان إلى الله وحده ، والاعتماد على الله وحده ، واستمداد القوة من الله وحده . .
وبعد فإن هذه السورة المحكمة تحتوى بيان الأحكام النهائية في العلاقات الدائمة بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله - كما بينا في خلال عرضها وتقديمها - ومن ثم ينبغي أن يرجع إلى نصوصها الأخيرة بوصفها الكلمة الأخيرة في تلك العلاقات ؛ وأن يرجع إلى أحكامها بوصفها الأحكام النهائية المطلقة ، حسبما تدل عليها نصوص السورة . كما ينبغي ألا تقيد هذه النصوص والأحكام النهائية بنصوص وأحكام وردت من قبل - وهي التي سميناها أحكاما مرحلية - مستندين في هذه التسمية : أولا وبالذات إلى ترتيب نزول الآيات . ومستندين أخيرا إلى سير الأحداث في الحركة الإسلامية ، وإدراك طبيعة المنهج الإسلامي في هذه الحركة . . هذه الطبيعة التي بيناها في التقديم للسورة وفي ثناياها كذلك . .
وهذا هو المنهج الذي لا يدركه إلا الذين يتحركون بهذا الدين حركة جهادية لتقرير وجوده في واقع الحياة ؛ برد الناس إلى ربوبية الله وحده ، وإخراجهم من عبادة العباد !
إن هنالك مسافة شاسعة بين فقه الحركة ، وفقه الأوراق ! إن فقه الأوراق يغفل الحركة ومقتضياتها من حسابه ، لأنه لا يزاولها ولا يتذوقها ! أما فقه الحركة فيرى هذا الدين وهو يواجه الجاهلية ، خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة ، وموقفا موقفا . ويراه وهو يشرع أحكامه في مواجهة الواقع المتحرك ، بحيث تجيء مكافئة لهذا الواقع وحاكمة عليه ؛ ومتجددة بتجدده كذلك
وأخيرا فإن تلك الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة ؛ إنما جاءت وواقع المجتمع المسلم ، وواقع الجاهلية من حوله كذلك ، كلاهما يحتم اتخاذ تلك الإجراءات وتنفيذ تلك الأحكام . . فأما حين كان واقع المجتمع المسلم وواقع الجاهلية من حوله يقتضي أحكاما أخرى . . مرحلية . . فقد جاءت في السور السابقة نصوص وأحكام مرحلية . .
وحين يوجد المجتمع المسلم مرة أخرى ويتحرك ؛ فإنه يكون في حل من تطبيق الأحكام المرحلية في حينها . ولكن عليه أن يعلم أنها أحكام مرحلية ، وأن عليه أن يجاهد ليصل في النهاية إلى تطبيق الأحكام النهائية التي تحكم العلاقات النهائية بينه وبين سائر المجتمعات . .
وهذه{[14041]} الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : تولوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة ، { فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } أي : الله كافيَّ ، لا إله إلا هو عليه توكلت ، كما قال تعالى : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل : 9 ] .
{ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي : هو مالك كل شيء وخالقه ، لأنه رب العرش العظيم ، الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى ، وعلمه محيط بكل شيء ، وَقَدَره نافذ في كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل .
{ فإن تولّوا } عن الإيمان بك . { فقل حسبي الله } فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم . { لا إله إلا هو } كالدليل عليه . { عليه توكّلت } فلا أرجو ولا أخاف إلا منه . { وهو رب العرش العظيم } الملك العظيم ، أو الجسم العظيم المحيط الذي تنزل منه الأحكام والمقادير . وقرئ { العظيم } بالرفع . وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه : أن آخر ما نزل هاتان الآيتان .
ثم خاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد تقريره عليهم هذه النعمة فقال : { فإن تولوا } يا محمد أي أعرضوا بعد هذه الحال المتقررة التي من الله عليهم بها { فقل حسبي الله } معناه وأعمالك بحسب قولك من التفويض إلى الله والتوكل عليه والجد في قتالهم ، وليست بآية موادعة لأنها من آخر ما نزل ، وخصص { العرش } بالذكر إذ هو أعظم المخلوقات ، وقرأ ابن محيصن «العظيمُ » برفع الميم صفة للرب ، ورويت عن ابن كثير ، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت{[5990]} ، ووقع في البخاري أو أبي خزيمة ، فلما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة ، وقد كان زيد يعرفهما ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئاً أم لا ، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده ، أسند الطبري في كتابه قال : كان عمر لا يثبت آية في المصحف إلا أن يشهد عليها رجلان ، فلما جاء خزيمة بهاتين الآيتين قال : والله لا أسألك عليهما بينة أبداً فإنه هكذا كان صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي تضمنتها الآية ، وهذا والله أعلم قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وفي مدة أبي بكر حين الجمع الأول وحينئذ فقدت الآيتان ولم يجمع من القرآن شيء في خلافة عمر ، وخزيمة بن ثابت هو المعروف بذي الشهادتين ، وعرف بذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمضى شهادته وحده في ابتياع فرس وحكم بها لنفسه صلى الله عليه وسلم{[5991]} ، وهذا خصوص لرسول الله صلى الله عليه وسلم{[5992]} وذكر النقاش عن أبيّ بن كعب أنه قال أقرب القرآن عهداً بالله تعالى هاتان الآيتان { لقد جاءكم رسول } إلى آخر السورة{[5993]} .
والفاء في قوله : { فإن تولوا } للتفريع على إرسال النبي صلى الله عليه وسلم صاحب هذه الصفات إليهم فإن صفاته المذكورة تقتضي من كل ذي عقل سليم من العرب الإيمان به واتباعه لأنه من أنفسهم ومحب لخيرهم رؤوف رحيم بمن يتبعه منهم ، فتفرع عليه أنهم محقوقون بالإيمان به فإن آمنوا فذاك وإن لم يؤمنوا فإن الله حسيبه وكافيه . وقد دل الشرط على مقابله لأن { فإن تولوا } يدل على تقدير ضده وهو إن أذعنوا بالإيمان .
وبعد التفريع التفت الكلام من خطاب العرب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بما كان مقتضى الظاهر أن يخاطَبُوا هُم به اعتماداً على قرينة حرف التفريع فقيل له : { فإن تولوا فقل حسبي الله } . والتقدير : فإن توليتم عنه فحسبه الله وقل حسبي الله . فجيء بهذا النظم البديع الإيجاز مع ما فيه من براعة الإيماء إلى عدم تأهلهم لخطاب الله على تقدير حالة توليهم .
والتولي : الإعراض والإدبار : وهو مستعار هنا للمكابرة والعناد .
والحسْب : الكافي ، أي كافيك شر إعراضهم لأنهم إن أعرضوا بعد هذا فقد أعرضوا عن حسد وحنق . وتلك حالة مظنة السعي في الكيد والأذى .
ومعنى الأمر بأن يقول : { حسبي الله } أن يقول ذلك قولاً ناشئاً عن عقد القلب عليه ، أي فاعلم أن حسبك الله وقُل حسبي الله ، لأن القول يؤكد المعلوم ويرسخه في نفس العالم به ، ولأن في هذا القول إبلاغاً للمعرضين عنه بأن الله كافيه إياهم .
والتوكل : التفويض . وهو مبالغة في وَكَل .
وهذه الآية تفيد التنويه بهذه الكلمة المباركة لأنه أمر بأن يقول هذه الكلمة بعيْنِها ولم يؤمَر بمجرد التوكل كما أمر في قوله : { فتوكل على الله إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] . ولا أخبر بأن الله حسبه مجردَ إخبار كما في قوله : { فإن حسبك الله } [ الأنفال : 62 ] .
وجملة : { لا إله إلا هو } مستأنفة للثناء ، أو في موضع الحال وهي ثناء بالوحدانية .
وعطفت عليها جملة : { وهو رب العرش العظيم } للثناء بعظيم القدرة لأن من كان رباً للعرش العظيم ثبت أنه قدير ، لأنه قد اشتهر أن العرش أعظم المخلوقات ، ولذلك وصف بالعظيم ، فالعظيم في هذه الآية صفة للعرش ، فهو مجرور .
وفي هاتين الآيتين إشعار بالإيداع والإعذارِ للناس ، وتنبيه إلى المبادرة باغتنام وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ليتشرفوا بالإيمان به وهم يشاهدونه ويقتبسون من أنوار هديه ، لأن الاهتداء بمشاهدته والتلقي منه أرجى لحصول كمال الإيمان والانتفاع بقليل من الزمان لتحصيل وافر الخير الذي لا يحصل مثله في أضعاف ذلك الزمان .
وفيهما أيضاً إيماء إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم لأن التذكير بقوله : { لقد جاءكم } يؤذن بأن هذا المجيء الذي مضى عليه زمن طويل يوشك أن ينقضي ، لأن لكل وارد قفولاً ، ولكل طالع أفولاً . وقد روي عن أبَيْ بن كعب وقتادة أن هاتين الآيتين هما أحدث القرآن عهداً بالله عز وجل ، أي آخرُ ما نزل من القرآن . وقيل : إن آخر القرآن نزولاً آية الكلالة خاتمةُ سورة النساء . وقيل آخره نزولاً قوله : { واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم تُوفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } من سورة البقرة ( 281 ) .
في « صحيح البخاري » من طريق شعيب عن الزهري عن ابن السباق عن زيد بن ثابت في حديث جمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنه قال زيد : « حتى وجدتُ من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم } إلى آخرهما . ومن طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري مع أبي خزيمة الأنصاري . ومعنى ذلك أنه بحث عن هاتين الآيتين في ما هو مكتوب من القرآن فلم يجدهما وهو يعلم أن في آخر سورة التوبة آيتين خاتمتين أو هو يحفظهما ( فإن زيداً اعتنى في جمع القرآن بحفظه وبتتبع ما هو مكتوب بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم وبقراءة حفاظ القرآن غيره ) فوجد خزيمة أو أبا خزيمة يحفظهما . فلما أمْلاهما خزيمة أو أبو خزيمة عليه تذكّر زيد لفظهما وتذكّرهما مَن سمعهما من الصحابة حين قرأوهما ، كيف وقد قال أبَيّ بن كعب : إنهما آخر ما أنزل ، فلفظهما ثابت بالإجماع ، وتواترهما حاصل إذ لم يشك فيهما أحد وليس إثباتهما قاصراً على إخبار خزيمة أو أبي خزيمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن تولوا} عنك يعني فإن لم يتبعوك على الإيمان يا محمد، {فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت}، يعني به واثق، {وهو رب العرش العظيم} يعنى بالعظيم العرش، فنزلت هاتان الآيتان بمكة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فإن تولى يا محمد هؤلاء الذين جئتهم بالحقّ من عند ربك من قومك، فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله وما دعوتهم إليه من النور والهدى، "فقل حسبي الله": يكفيني ربي "لا إلَهِ إلاّ هُوَ": لا معبود سواه، "عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ "وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت، وإليه وإلى نصره استندت، فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس. "وَهُوَ رَبّ العَرْشِ العَظِيم" الذي يملك كل ما دونه، والملوك كلهم مماليكه وعبيده. وإنما عني بوصفه جلّ ثناؤه نفسه بأنه ربّ العرش العظيم، الخبر عن جميع ما دونه أنهم عبيده وفي ملكه وسلطانه لأن العرش العظيم إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه ذو العرش دون سائر خلقه، وأنه الملك العظيم دون غيره، وأن من دون في سلطانه وملكه جار عليه حكمه وقضاؤه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (فإن تولوا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ) أي يكفيني الله (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ). ويحتمل قوله: (فإن تولوا) عنك، وردوا إجابتك والطاعة لك والانقياد، وهموا أن يكيدوك، ويمكروا بك (فقل حسبي الله لا إله إلى هو عليه توكلت) أي على ما وعدني من النصر والظفر، "توكلت "أي اتكلت على وعده، ووكلت أمري إلى الله. ويحتمل وقوله (فإن تولوا) عن نصرتك ومعونتك على الأعداء (فقل حسبي الله) في النصر والمعونة على الأعداء، ويكفيني عليهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" حسبي الله "ومعناه كفاني الله وهو من الحساب لأنه تعالى يعطي بحسب الكفاية التي تغني عن غيره، ويزيد من نعمه مالا يبلغ إلى حد ونهاية، اذ نعمه دائمة ومننه متظاهرة.
وقوله "إله إلا هو "جملة في موضع الحال، وتقديره حسبي الله مستحقا لإخلاص العبادة والإقرار بأن لا إله إلا هو...
... قيل: تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة، وقيل: تولوا عن نصرتك في الجهاد.
واعلم أن المقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف، لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف، لأن الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء، وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء..
{لا إله إلا هو} وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدئ لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو، وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة، وأمرني بهذا التبليغ كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه.
ثم قال: {عليه توكلت} وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم..والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم، كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم، ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أقبل عليه مسلياً له مقابلاً لإعراضهم إن أعرضوا بالإعراض عنهم والبراءة منهم ملتفتاً إلى أول السورة الآمر بالبراءة من كل مخالف، قائلاً مسبباً عن النصيحة بهذه الآية التي لا يشك عاقل في مضمونها: {فإن تولوا} أي اجتهدوا في تكليف فطرهم الأولى أو ولوا مدبرين عنك بالانصراف المذكور أو غيره بعد النصيحة لهم بهذه الآية {فقل} أي استعانة بالله تفويضاً إليه {حسبي} أي كافي؛ قال الرماني: وهو من الحساب لأنه جل ثناه يعطى بحسب الكفاية التي تغني عن غيره، ويزيد من نعمته مالا يبلغ إلى حد ونهاية إذ نعمه دائمة ومننه متظاهرة {الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له، وإنما كان كافياً لأنه {لا إله إلا هو} فلا مكافئ له فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه.
ولما قام الدليل على أنه لا كفؤ له، وجب قصر الرغائب عليه فقال: {عليه} أي وحده {توكلت} لأن أمره نافذ في كل شيء {وهو رب} أي مالك ومخترع ومدبر؛ ولما كان في سياق القهر والكبرياء بالبراءة من الكفار والكفاية للأبرار، كان المقام بالعظمة أنسب كآية النمل فقال: {العرش العظيم} أي المحيط بجميع الأجسام الحاوي لسائر الأجرام الذي ثبت بآية الكرسي وغيرها أن ربه أعظم منه لأن عظمته على الإطلاق فلا شيء إلا وهو في قبضته وداخل في دائرة مملكته، وإذا كان كافي فأنا بريء ممن تولى عني وبعد مني كائناً من كان في كل زمان ومكان فقد عانق آخر السورة أولها وصافح منتهاها مبتدأها وتأكد ما فهمته من سر الالتفات في {فسيحوا} وفي {فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله} والله تعالى أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فَإِن تَولَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ} هذا التفات عن خطاب أمة الرسول أو قومه الذين امتن الله تعالى عليهم بمجيئه رسولا إليهم من أنفسهم وبفضائله العائدة عليهم، إلى خطابه صلى الله عليه وسلم وبيان ما يجب عليه في حال إعراضهم عن الاهتداء والانتفاع بما خاطبهم به ربهم في شأنه، يقول: فإن تولوا وانصرفوا عن الإيمان بك والاهتداء بما جئتهم به، فقل: حسبي الله، أي هو محسبي الذي يكفيني أمر توليهم وإعراضهم، وما يعقبه من عداوتهم لي وصدهم عن سبيله، وقد بلغت وما قصرت.
{لا إِلَهَ إِلاَّ هُو} أي لا معبود غيره ألجأ إليه بالدعاء والاستعانة كما يلجؤون إلى آلهتهم المنتحلة.
{عَلَيْهِ تَوكَّلْتُ} وحده، فلا أكل أمري فيما أعجز عنه إلى غيره، وكيف لا أخصه بالتوكل {وهُو رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي هو مركز تدبير أمور الخلق كلها، كما قال في الآية الثالثة من السورة التالية {ثم استوى على العرش يدبر الأمر} [يونس: 3].
قرأ جمهور القراء العظيم بالخفض على أنه صفة للعرش، وقرئ بالرفع على أنه صفة لرب، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير.
وعظمة العرش بعظمة الرب الذي استوى عليه، وعظمة الملك الكبير الذي هو مركز تدبيره ووحدة النظام فيه، وعظمتهما في الملأ الأعلى وفيما دونه هي المظهر الوجودي لعظمة هذا الرب التي لا تحد، ولا يدرك كنهها أحد، ودليل على أنه الإله الحق الذي لا يصح أن يعبد غيره ولا يتوكل على سواه، وكيف يعبد غيره بالدعاء أو غيره أو يتوكل على سواه من يعلم أنه هو الرب المالك للعالم كله، والمدبر لأموره، ويراجع هنا تفسير {يا أيها النبي حسبك الله} [الأنفال: 64] (في ج 10)، وفسر بعضهم العرش هنا بالمُلك (بالضم) لأنه يطلق عليه تجوزا، وهو خطأ منهم؛ لأن هذا التجوز لا مسوغ له، ولا يصح في كل الآيات التي ورد فيها اللفظ، والمعنى الحقيقي أبلغ منه وأعم، فإنه يدل على المعنى المجازي وزيادة؛ إذ ليس لكل ملك في الأرض عرش حقيقي هو المركز الوحيد لتدبير كل شيء فيه. فالعرش العظيم يدل على الملك العظيم وعلى وحدة النظام والتدبير فيه، ولفظ: الملك العظيم لا يدل على هذا، لاحتمال وجود الخلل فيه، وكون تدبيره ليس له مرجع وحدة تكفل النظام، وتمنع الخلل والفساد، ونظار المتكلمين ومفسروهم يتأولون العرش والاستواء عليه فرارا من التشبيه الذي يستلزمه بزعمهم المبني على قياس عالم الغيب على عالم الشهادة، وقياس الخالق على المخلوق، وهو قياس باطل بإجماعهم، وقال ابن عباس: سمي العرش عرشا لارتفاعه، وفي الدر المنثور روايات في وصف العرش ومادته هي من الإسرائيليات لا يصح فيها شيء مرفوع...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ينتقل الخطاب إلى الرسول [صلى الله عليه وسلم] يعرفه طريقه حين يتولى عنه من يتولى، ويصله بالقوة التي تحميه وتكفيه: (فإن تولوا فقل: حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم). فإليه تنتهي القوة والملك والعظمة والجاه، وهو حسب من لاذ به وحسب من والاه. إنه ختام سورة القتال والجهاد: الارتكان إلى الله وحده، والاعتماد على الله وحده، واستمداد القوة من الله وحده.. (وهو رب العرش العظيم)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والفاء في قوله: {فإن تولوا} للتفريع على إرسال النبي صلى الله عليه وسلم صاحب هذه الصفات إليهم فإن صفاته المذكورة تقتضي من كل ذي عقل سليم من العرب الإيمان به واتباعه لأنه من أنفسهم ومحب لخيرهم رؤوف رحيم بمن يتبعه منهم، فتفرع عليه أنهم محقوقون بالإيمان به فإن آمنوا فذاك وإن لم يؤمنوا فإن الله حسيبه وكافيه. وقد دل الشرط على مقابله لأن {فإن تولوا} يدل على تقدير ضده وهو إن أذعنوا بالإيمان.
وبعد التفريع التفت الكلام من خطاب العرب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بما كان مقتضى الظاهر أن يخاطَبُوا هُم به اعتماداً على قرينة حرف التفريع فقيل له: {فإن تولوا فقل حسبي الله}. والتقدير: فإن توليتم عنه فحسبه الله وقل حسبي الله. فجيء بهذا النظم البديع الإيجاز مع ما فيه من براعة الإيماء إلى عدم تأهلهم لخطاب الله على تقدير حالة توليهم.
والتولي: الإعراض والإدبار: وهو مستعار هنا للمكابرة والعناد.
والحسْب: الكافي، أي كافيك شر إعراضهم لأنهم إن أعرضوا بعد هذا فقد أعرضوا عن حسد وحنق. وتلك حالة مظنة السعي في الكيد والأذى.
ومعنى الأمر بأن يقول: {حسبي الله} أن يقول ذلك قولاً ناشئاً عن عقد القلب عليه، أي فاعلم أن حسبك الله وقُل حسبي الله، لأن القول يؤكد المعلوم ويرسخه في نفس العالم به، ولأن في هذا القول إبلاغاً للمعرضين عنه بأن الله كافيه إياهم. والتوكل: التفويض. وهو مبالغة في وَكَل. وهذه الآية تفيد التنويه بهذه الكلمة المباركة لأنه أمر بأن يقول هذه الكلمة بعيْنِها ولم يؤمَر بمجرد التوكل كما أمر في قوله: {فتوكل على الله إنك على الحق المبين} [النمل: 79]. ولا أخبر بأن الله حسبه مجردَ إخبار كما في قوله: {فإن حسبك الله} [الأنفال: 62].
وجملة: {لا إله إلا هو} مستأنفة للثناء، أو في موضع الحال وهي ثناء بالوحدانية.
وفي هاتين الآيتين إشعار بالإيداع والإعذارِ للناس، وتنبيه إلى المبادرة باغتنام وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ليتشرفوا بالإيمان به وهم يشاهدونه ويقتبسون من أنوار هديه، لأن الاهتداء بمشاهدته والتلقي منه أرجى لحصول كمال الإيمان والانتفاع بقليل من الزمان لتحصيل وافر الخير الذي لا يحصل مثله في أضعاف ذلك الزمان. وفيهما أيضاً إيماء إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم لأن التذكير بقوله: {لقد جاءكم} يؤذن بأن هذا المجيء الذي مضى عليه زمن طويل يوشك أن ينقضي، لأن لكل وارد قفولاً، ولكل طالع أفولاً.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم عقب على ذلك بما يفيد أنه إذا ضل المسلمون طريقهم، وهجروا كتابهم، وأهملوا شريعتهم، وعادوا إلى الجاهلية الأولى، مولين الأدبار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرأ من أعمالهم، ويكلهم إلى أنفسهم، ولا يغني عنهم من الله شيئا، وذلك قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز {فإن تولوا} أي أدبروا ورجعوا عن التمسك بالإسلام وشريعته – {فقل حسبي الله} مصداقا لقوله تعالى في آية ثانية {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [الفرقان: 30]، وقوله تعالى في آية ثالثة: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 124]، وقوله تعالى في آية رابعة: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين، فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون، فتوكل على العزيز الرحيم} [الشعراء: 215، 216، 217].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لا يضر الرسالة إعراض الناس عنها:
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا عن الاستماع إلى دعوتك، والسير في خط رسالتك، بالرغم من كل الأجواء الحميمة الحلوة التي تحيط بها في عمق المشاعر وروعة الأحاسيس، فلا تتعقد من ذلك، ولا تتراجع عن دعوتك في شعورٍ بالخذلان والسقوط، بل انطلق في طريقك انطلاقة الرسول الواثق بربّه، المؤمن برسالته، الذي يرى أن من واجبه أداء الرسالة بحسب ما يستطيع، من دون أن يكون مسؤولاً عن النتائج السلبيّة إن حدثت لأنها لا تكون ناشئةً عن فعل تقصير، بل عن ظروفٍ وأوضاعٍ وأسبابٍ خارجةٍ عن إرادته، وتحرّك بقوّة، بعيداً عن كل مشاعر الضعف، {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فهو ربّ القوّة وخالقها، وهو الذي يكفي الإنسان من كل عدوٍّ ومن كل شر، ويوحي إليه بالثقة المطلقة، وبذلك يكون التوكل عليه حركةً داخليّةً وخارجيةً في خطّ الشعور بالأمن والطمأنينة بسلامة الاتجاه وفاعليته وروحيّته.
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ومن يتوكل على الله فهو حسبه في كل شيء. وتلك هي نقطة القوّة لدى المؤمنين عندما يتحركون في خط الرسالة، فلا يشعرون بالضعف إذا خذلهم الناس، بل يجدون الله معهم في كل موقف، فيحسون معه بالقوة التي يستريحون إليها وينطلقون معها ويستمرون من خلالها على الخط المستقيم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
خلاصة سورة براءة (التوبة) وهي خمسة أبواب وفيها فصول:
(هذه السورة آخر السور المدنية الطول نزولا، فيقل فيها ذكر أصول الدين وما يناسبها من الحجج العقلية والسنن الكونية وكذا أحكام العبادات البدنية. راجع مقدمة خلاصة سورة الأنفال والتناسب بين السورتين في ج 10).
الباب الأول في صفات الله تعالى وأفعاله وشؤونه في خلقه وأحكامه وسننه فيها، وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول في الأسماء والصفات الإلهية والإضافات إليه تعالى:
الأسماء والصفات في هذه السورة من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى: الغفور الرحيم، الرؤوف الرحيم، العليم الحكيم، العزيز الحكيم، السميع العليم، عالم الغيب والشهادة. ومنها المكرر مرتين وثلاثا أو أكثر، وكل منها موضوع في موضعه المناسب لمعناه في السياق أو الآية. وأما الفائدة العامة لذكر أسماء الله تعالى وصفاته وتكرارها في المواضع المختلفة فهي تذكير تالي القرآن وسامعه المرة بعد المرة بربه وخالقه، وما هو متصف به من صفات الكمال الذي يثمر له زيادة تعظيمه وحبه، والرجاء في رحمته وإحسانه، والخوف من عقابه لمن أعرض عن هداية كتابه، أو خالف حكمته وسننه في خلقه، وهذا أعلا مقاصد القرآن، في إكمال الإيمان، وإعلاء شأن الإنسان (فراجعه في ج 10). ومما ورد فيها في العلم الإلهي قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ وأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [التوبة:78] وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ ولَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} [التوبة: 16] إلى قوله {والله خبير بما تعملون} [التوبة: 16] وهما أعظم ما يجدد في القلب مراقبته عزّ وجلّ عند كل قول وعمل، وحسبك بهما وازعا ورافعا.
المعية الإلهية في هذه السورة من المعية العليا قوله تعالى في آية الغار عن رسوله صلى الله عليه وسلم {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وهي معية النصر والمعونة، والحفظ والعصمة، والتأييد والرحمة، كما يقتضيه المقام في حال الهجرة، وهذه المعية أفضل من كل ما ورد في معناها، ومن أعظمه قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون عليهما السلام: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] فراجع (ج 10) وفي الآية 123 {واعلموا أن الله مع المتقين}، وهذه معية النصر؛ لأنها معطوفة على الأمر بالقتال، ويقال في كل منها مع العلم بمعناها أنها معية تليق به تعالى.
الدرجة والعندية الإلهية وسكينته تعالى قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وهَاجَرُواْ وجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ} [التوبة:20]، وقد قلنا في تفسير هذه العندية [ج 10] أنها حكمية [بضم الحاء] شرعية، ومكانية جزائية، أي هم أعظم درجة في الفضل والكمال في حكم الله، وأكبر مثوبة في جوار الله. وقال بعد بشارتهم بالرحمة والرضوان والجنات والنعيم المقيم والخلود فيها من الآية {إن الله عنده أجر عظيم} [التوبة: 22]، وهو استئناف بياني، فالعندية فيه مفسرة لما قبلها. وقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوات والأَرْضَ} [التوبة: 36]، فالعندية هنا يفسرها ما بعدها وهو كتاب الله الذي كتب فيه مقادير السماوات والأرض ونظام الأيام والليالي والشهور والسنين. وقيل: كتابه المنزل الذي فيه حكمه التشريعي في الشهور، وهو قوله بعدما ذكر [منها أربعة حرم] الخ. وفي الآية {ونَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] فعندية العذاب عبارة عن كونه بفعله تعالى دون كسب للمؤمنين، وهو ما يسمى بالمصائب السماوية، بدليل مقابلته بقوله: {أو بأيدينا}، والإضافة في العندية الحكمية للتوقيف والتعريف، وفي العندية المكانية للتشريف، ومثلها إضافة السكينة إليه تعالى.
حب الله ورضاه وكرهه وسخطه وغضبه قال تعالى: {إن الله يحب المتقين} [التوبة: 7]، وقال في المهاجرين والأنصار {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة: 100]، وقال في جزاء المهاجرين المجاهدين {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72]، ويدخل في معناه ما صح في الأحاديث من مقام الرؤية كما بيناه في تفسيرها، وقال في شأن المنافقين {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96]، أسند الله تعالى إلى نفسه الحب والرضى في هذه الآيات وفي سور أخرى، كما أثبت لنفسه الكره في قوله من هذه السورة {ولكن كره الله انبعاثهم} [التوبة: 47]، والسخط والغضب في سور أخرى. والمتكلمون يتأولون هذه الصفات بالإثابة والإحسان من لوازم الحب والرضى، وبالعقاب من لوازم السخط والكره والغضب، فرارا من تشبيه الخالق بعبيده الذين تعد هذه الصفات انفعالات نفسية لهم يتنزه الله عنها. ومذهب السلف الصالح إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، فيقولون: إن حب الله تعالى وكرهه ورضاه وغضبه صفات تليق به تترتب عليها آثارها، وهي لا تماثل ما سمي باسمها من صفات البشر، كما أن ذاته ونفسه وعلمه وقدرته لا تماثل ذوات البشر وعلمهم وقدرتهم بلا فوق. بل نقول: إن من خلق الله في عالم الغيب من الجن والملائكة لا يماثل في إدراكاته ولا في غيرها ما في عالم الشهادة؛ بل روي في ثمر الجنة أنه يشبه ثمر الدنيا وليس مثله، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء. وقال تعالى في نعيم الآخرة: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيره له: "قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، وأمر بقراءة الآية، متفق عليه.
وأما الكلام مع أهل التأويل من ناحية الأدلة العقلية التي يزعمون الانفراد بها دون علماء السلف فهو أن حب الحق والخير كالإيمان والعدل وأهلهما، وكراهة الباطل كالكفر، والشر كالظلم ومجترحيهما، كلاهما من صفات الكمال المحض، وكل ما كان كمالا محضا فالعقل يوجبه لواجب الوجود بأعلا مما يكون منه للوجود الممكن، فقد اتفق العقل مع النقل على إثبات هذه الصفات لله بمعنى أكمل مما هي في خيار الناس، ولكن لا يمكن وضع أسماء لها من كلام الناس تدل على الفرق بين مسمياتها في الخالق والمخلوق، فوجب الرجوع في ذلك إلى الوحي الفاصل، وهو قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]، فالتنزيه في الجملة الأولى السالبة أزال ما يستلزمه التشبيه في الجملة الثانية الموجبة، بل قال الشيخ محيي الدين بن عربي في تفسير هذه الآية: إن الإيمان الصحيح هو الجمع بين التنزيه والتشبيه.
الفصل الثاني: أفعال الله في تصرفه وتدبير لأمور خلقه بمقتضى سننه، لا بجعلهم مجبرين بقدرته قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ ويُخْزِهِمْ ويَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14] الآية، يتوهم أهل الجبر أنها تدل على نحلتهم، ويرده أنه تعالى أمرهم بقتال المشركين، ولو كانوا مجبرين لكان أمرهم لغوا وعبثا، وقوله: {يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ} معناه يعذبهم بتمكين أيديكم من رقابهم قتلا، ومن صدورهم ونحورهم طعنا، ويؤكده الوعد بعده بنصرهم، وفي معناه قوله: {ونَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52]. وقال تعالى: {واللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] وقال في آيتي 24 و80 {واللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وقال: {واللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين} [التوبة:37]، وليس معنى هذه الآيات أن الله تعالى منعهم من الهداية بقدرته فصاروا عاجزين عنها ومجبرين على الفسق والظلم والكفر إجبارا، وإنما معناها ما بيناه في تفسيرها وهو أن هذه الصفات التي رسخت في أنفسهم بكسبهم منافية لهدى الله تعالى الذي بعث به رسله بحسب سنته تعالى في الأسباب والمسببات (راجع ج 10)، ويقابله قوله تعالى قبل الآية الأولى من هذه اٍٍلآيات، فيمن ترجى لهم الهداية بحسب سنن الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وأَقَامَ الصَّلاَةَ وآتَى الزَّكَاةَ ولَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
ويدخل في هذا الباب من بيان السنن وطبائع البشر قوله في خوالف المنافقين {وطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 87]، ثم قوله فيهم {وطُبِعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يعلمون} [التوبة: 93]، فهو بيان لسنة الله في تأثير أعمالهم التي منها رضاهم بخطة الخسف والذل وهو التخلف عن الجهاد أن قلوبهم كالمطبوع عليها التي لا تفقه كنه حالها ولا تعلم سوء مآلها (ج10)، وفي معناه قوله في الذين ينصرفون منهم متسللين من مجلس القرآن {ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} [التوبة: 127]، أي بسبب أنهم قوم فقدوا صفة الفقاهة الفطرية وفهم الحقائق وما يترتب عليها من الأعمال لعدم استعمال عقولهم فيها الخ ما فصلناه في تفسيرها (ج 11)، وبهذه المرآة ترى حقيقة المراد من قوله تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} [التوبة: 46]، وراجعه في ج 10 وقوله: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] وراجعه في ج 10.
الفصل الثالث: في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه وسننه فيهما
ترى تعليل الأمر بإتمام العهود الموقتة بقوله تعالى: {إن الله يحب المتقين} [التوبة: 4].
ترى تعليل الأمر بتخلية سبيل التائبين من المشركين بقوله تعالى: {إن الله غفور رحيم} [التوبة: 5].
ترى تعليل الأمر بإجازة المشرك المستجير لسماع كلام الله بقوله: {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} [التوبة: 6].
ترى تعليل الأمر بقتال المشركين الناكثين للعهد بقوله: {لعلهم ينتهون} [التوبة: 12].
ترى تعليل عدم قبول صدقات المنافقين بفسقهم ثم بكفرهم في آيتي 53 و54. 6 ترى تعليل عدم المغفرة لهم بكفرهم بالله ورسوله وفسقهم في الآية 79.
ترى تعليل النهي عن الصلاة على موتاهم بكفرهم بالله ورسوله في الآية 84.
ترى تعليل الأمر بأخذ الصدقة من المؤمنين بتطهيرهم وتزكيتهم بها 103.
ترى تعليل فتنة المنافقين في كل عام بأمل التوبة والتذكر 126.
فيعلم من كل تعليل أن حكمته تعالى في أفعاله وأحكامه منفعة عباده ومصلحتهم وخيرهم. سننه تعالى في أفراد البشر وأقوامهم وأممهم. بيّنا سنن الله تعالى في تأثير العقائد والصفات النفسية في الأعمال وترتب الأعمال عليها في مواضع منها إخزاء الكافرين في الآية الأولى، ومنها نفي هداية الله تعالى للظالمين والفاسقين والكافرين في الآيات 19 و24 و37 و80، ومنها كراهته تعالى انبعاث المنافقين للقتال وتثبيطه لهم، وقوله: {اقعدوا مع القاعدين} في الآية 46، ومنها طبعه على قلوبهم في الآيتين 87 و93، وفي معناه صرف قلوبهم عن الإيمان بالقرآن في الآية 127، وتقدم بيان هذا في الفصل الذي قبل هذا. ومن بيان سننه تعالى في الأمم قوله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ويَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39]، فبقاء الأمم وعزتها يتوقفان على قوة الدفاع الحربية (راجع تفسيرها)، ومنها قوله: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] فراجع تفسيرها، ومنها قوله: {ومَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يتُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 47].
الفصل الرابع: في قضاء الله وقدره وولايته للمؤمنين وتوكلهم عليه هذه عدة عقائد من أصول الإيمان، وكمال التوحيد والإيقان، جمعت كلها في آية واحدة من هذه السورة، أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد بها على المنافقين الذين أخبره عنهم بأنهم تسوءهم كل حسنة تصيبه كالنصر والغنيمة في غزوة بدر، وتفرحهم كل مصيبة تصيبه كالنكبة التي وقعت في غزوة أحد، وهي {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُو مَوْلاَنَا وعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]، فتصور حال مؤمن يوقن أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأنه إن لم يكن يعرف هذا المكتوب له بعينه فهو يعتقد أنه لا يعدو في جملته وعده تعالى له من حيث هو مؤمن من الخير والنصر والشهادة في سبيل الله، المعبر عنهما بالحسنيين في الآية التي بعد هذه أي آية 52، ويعتقد أن الله تعالى هو مولاه الذي يتولى نصره وتوفيقه، فهو بمقتضى إيمانه يتوكل عليه ويفوض أمره إليه، تصور حال مؤمن تمكنت هذه العقائد من نفسه، وملكت عليه وجدانه، هل يخاف من غير الله؟ هل ييأس من روح الله؟ هل يمنعه أي خطب من الخطوب عن الجهاد لإعلاء كلمة الله، وإقامة دين الله، وبذل الجهد، في إقامة الحق والعدل، ومد بساط البر والفضل؟ وتصور حال أمة يغلب على أفرادها ما ذكر ألا تكون أعز الأمم نفسا، وأشدها بأسا؟ ويؤيد هذه العقائد ويزيدها رسوخا في قلب تالي هذه السورة ختمها بقوله عزّوجلّ: {فَإِن تَولَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُو عَلَيْهِ تَوكَّلْتُ وهُو رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]، فينبغي للمؤمن أن يتأمل معناها ويطالب نفسه بالتحقق به، فإنه يجد به من حلاوة الإيمان وعزة النفس ما يحتقر به خسائس المادة التي يتكالب الماديون عليها، ويبخعون أنفسهم انتحارا إذا فاتهم أو أعياهم شيء منها، وقد ورد في ذلك عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه من قال إذا أصبح وإذا أمسى: "حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُو عَلَيْهِ تَوكَّلْتُ وهُو رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ "سبع مرات كفاه الله ما أهمه "وقد تقدم هذا في تفسير الآية.
الباب الثاني: في مكانة محمد رسول الله وخاتم النبيين عند ربه، وفي هداية دينه، وحقوقه على أمته، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في اقتران اسمه باسم ربه، وحقه صلى الله عليه وسلم بحقه عزّ وجلّ، وفيه أربعة عشر شاهدا:
و 2 افتتحت هذه السورة بقوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ ورَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} وعطف عليها قوله تعالى: {وأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ ورَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَر} الخ، فقرن تعالى اسم نبيه باسمه في تبليغ أحكامه وتنفيذها.
قال تعالى في وصف كلمة المؤمنين من الآية {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ ولاَ رَسُولِهِ ولاَ الْمُؤْمِنِينَ ولِيجَةً} [التوبة: 16]، أي دخيلة وبطانة من غيرهم يطلعونهم على الأسرار، ولهذا أشرك المؤمنين في هذا لأنه يتعلق بحقوقهم في ولاية بعضهم لبعض دون أعدائهم، ويضرهم أن يكون بينهم ولائج ودخائل من غيرهم. دون ما قبله الذي هو تشريع هو حق الله تعالى وتبليغ وتنفيذ: هما حق رسوله صلى الله عليه وسلم في عهده، وورثته من بعده.
قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأبناؤكم وإِخْوانُكُمْ وأَزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]، فجعل كمال الإيمان مشروطا بتفضيل حب الله تعالى ورسوله على كل ما يحب في هذا العالم من الناس والمصالح والمنافع، ولكنه جعل الجهاد في سبيل الله وحده دون رسوله لأنه عبادة يتقرب بها إلى الله وحده، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم أدنى حق ولا شركة مع الله عزّ وجلّ في عبادته.
قوله تعالى في صفات أهل الكتاب الذين شرع قتالهم من الآية [29] {ولاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ ورَسُولُهُ} على القول بأن "رسوله" في الآية هو الفرد الأكمل خاتم النبيين، وهو قول للمفسرين يقابله أن المراد به رسوله تعالى إليهم وهو موسى (11 عليه السلام) لليهود، وعيسى (عليه السلام) للنصارى. وهل العطف في الآية يدل على أن الرسول قد أعطاه الله حق التحريم من تلقاء نفسه أم حظه منه التبليغ عن الله تعالى نصا ولو في غير القرآن أو استنباطا؟ اختلف علماؤنا في التشريع الدنيوي في هذه المسألة دون الدين المحض، فذهب بعضهم إلى الأول، وجعلوا منه تحريمه صلى الله عليه وسلم للمدينة كمكة أن يصاد صيدها، أو يختلى خلاها الخ، وذهب آخرون إلى الثاني، ومنهم الإمام الشافعي، وقد بينا هذه المسألة في موضع آخر بالتفصيل.
قوله تعالى في سبب منع المنافقين أن تقبل منهم نفقاتهم من الآية 54 {أنهم كفروا بالله ورسوله}، ومثله في سبب عدم انتفاعهم باستغفار النبي صلى الله عليه وسلم من الآية 79 {ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله}، وهذا ظاهر، فإن الدين إنما يكون بالجمع بين الإيمان برسوله وما جاء به، وأنى يعرف الله وما يرضيه من عبادته إلا من طريق رسله وما أوحاه إليهم؟
قوله تعالى في الذين لمزوا النبي صلى الله عليه وسلم- أي عابوه- في قسمة الصدقات، وكانوا يرضون إذا أعطوا ويسخطون إذا منعوا: {ولَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ وقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ ورَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59] والجمع فيها بين اسم الله واسم رسوله في موضعين أحدهما الرضاء بما آتيا وأعطيا بالفعل، والثاني الرجاء فيما يؤتيان من بعد، فأما العطاء من الله تعالى فهو أنه هو الذي أنعم وينعم بالغنائم في الحرب، وهو الذي شرع قسمتها بين الغانمين، وجعل خمسها فيما تقدم في أول الجزء العاشر في مصالح المسلمين، ومنها مواساة الفقراء والمساكين، وهو المنعم بسائر الأموال، والذي فرض فيها ما تقدم تفصيله من الصدقات، وأما الرسول الله فهو القاسم للغنائم والصدقات بإعطائها لمستحقيها بالحق والعدل، ولذلك خص الله تعالى في الآية بالفضل، وفيها من أصول التوحيد، والتمييز بين ما لله وحده وما له وللرسول أمران:
أحدهما: أن المحسب الكافي للعباد هو الله وحده، وهذا أرشدهم أن يقولوا: "حسبنا الله"، ولم يقل ورسوله كما قال في الإيتاء.
وثانيهما: أن توجه المؤمن فيما يرغبه ويرجوه من الرزق وغيره يجب أن ينتهي إلى الله تعالى وحده، وهو نص قوله: {إنا إلى الله راغبون} [التوبة: 59]، ومنه {وإلى ربك فارغب} [الشرح: 8]، أي دون غيره، (راجع ج 10).
قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ واللّهُ ورَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] فمقتضى الإيمان الذي لا يصح بدونه تحري المؤمن إرضاء الله ورسوله في المرتبة الأولى، وإرضاء المؤمنين بما يتعلق بمعاملتهم في المرتبة الثانية التابعة للأولى، ذلك بأن كل ما يرضي الله عز وجل يرضي رسوله، وكل ما يرضي رسوله صلى الله عليه وسلم يرضيه، فهما متلازمان، وأما المؤمنون فقد يرضي بعضهم ما لا يرضي الله ورسوله لجهله بما يرضيهما، أو غفلته عنه، أو اتباعه لهواه فيه. ومنه في موضوع الآية أن بعض المؤمنين من الصحابة الكرام ربما كانوا يصدقون أولئك المنافقين الذين يحلفون لهم بأنهم صادقون في اعتذارهم عما اتهموا به في غزوة تبوك، لأنهم لا يعلمون ما يعلمه الله تعالى من باطن أمرهم، وما أعلم به رسوله منه، ولذلك قال في آية أخرى {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96].
قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ ورَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] الآية وهذه مقابلة لما قبلها، فإن من يحادد الله -أي يعاديه- يعادي رسوله، كما أن من يرضي أحدهما يرضي الآخر، ومن ثم كان الجزاء واحدا.
قوله تعالى في المنافقين الذين كانوا يخوضون في مسألة غزوة تبوك، ويهزؤون بمحاولة غزو الروم، ورجاء الرسول صلى الله عليه وسلم النصر عليهم، وبما كان وعد به أصحابه من الظفر بملكهم {ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تستهزئون} [التوبة: 65]، فحكم الاستهزاء بالله وآياته الكفر، وهو حكم الاستهزاء برسوله، لأن الله تعالى هو الذي وعد رسوله بالنصر، وأمره بالغزو، ورسوله إنما بلغ عنه آياته، ووعده في ذلك.
قوله تعالى: {وجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ ورَسُولَهُ} [التوبة: 90] الآية، معنى كذبهم إياها إظهار الإيمان بهما كذبا وخداعا، ومن كذب الرسول في دعوى الإيمان فقد كذب الله وإن لم يشعر بذلك واستحق الجزاء الذي في الآية.
قوله تعالى في أصحاب الأعذار الصادقة في التخلف عن الجهاد الواجب {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ ورَسُولِهِ} [التوبة: 91]، فاشترط لقبول عذرهم في القعود عن القتال النصح لله ورسوله في كل قول وعمل يقدرون عليهما في مقاومة الأعداء ومساعدة المؤمنين وغير ذلك، فالنصح من أعظم شعب الإيمان، وراجع تفسير الآية.
قوله تعالى في المعتذرين من المنافقين عن الخروج إلى تبوك {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ} [التوبة: 94] الآية، والمراد من ذكر رؤية الرسول لها إعلامهم أنه هو الذي سيعاملهم بمقتضاها في الدنيا، دون أقوالهم في الاعتذار عن تخلفهم وغيره من سيئاتهم. وأما رؤية الله تعالى لها فهي التي عليها مدار الجزاء في الآخرة كما صرح به في تتمة الآية (ج 11)، وفي معناها قوله تعالى: {وقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] هذه الآية حث على العمل النافع للدنيا والآخرة، وإنما ذكر المؤمنون هنا بعد ذكر الله ورسوله لتذكير العاملين بأن الله يرى أعمالهم، وهو الذي يجازيهم عليها، فيجب عليهم الإحسان والإخلاص له، والوقوف عند حدود شرعه فيها. وبأن رسوله يراها ويعاملهم بمقتضاها وهذا خاص بحال حياته صلى الله عليه وسلم وهو الشهيد عليهم فيها عند الله تعالى ليتحروا أن يشهد لهم لا عليهم، ثم لتذكيرهم بأن المؤمنين يرونها، فينبغي لهم أن يتبعوا فيها سبيلهم، ويتحروا فيها ما يوافق المصلحة العامة التي يشتركون فيها وجماعة المؤمنين شهداء بعضهم على بعض وشهادتهم مقبولة عند الله تعالى (راجع تفسير الآية ج 11).
قوله تعالى: {ومِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ويَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وصَلَواتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99] فهذا ضرب من اقتران اسم الرسول صلى الله عليه وسلم باسم الله تعالى في موضوع واحد مع الفصل فيه بين ما له تعالى وما لرسوله. فالذي لله عزّ وجلّ من هذه العبادة هو قصد القربة وابتغاء المرضاة والمثوبة، والذي للرسول صلى الله عليه وسلم هو طالب صلواته أي أدعيته، إذ كان يدعو للمتصدقين كما بيناه في تفسير الآية (ج11). وكل هذه الآِيات مما يفند دعوى بعض الملاحدة أن دين الإسلام هو القرآن وحده دون سنة رسوله، وكذلك ما ترى في الفصلين اللذين بعده.
الفصل الثاني: في علو مكانته، وعناية الله تعالى به، وتكريمه وتأديبه، تكميله إياه وفيه 11 منقبة بالإجمال، وأضعاف ذلك بالتفصيل:
المنقبة الأولى: جعل الإيمان به وطاعته وحبه وإرضائه مقرونة في المرتبة والثناء والثواب بما له عزّ وجلّ من ذلك على عباده، وجعل ما يقابل ذلك من الكفر به وعصيانه وبغضه وإغضابه وإيذائه مقرونة في الحظر والكفر والوعيد واستحقاق العذاب الأليم بالكفر بالله وعصيانه الخ، وتجد ما في السورة من الأمرين مفصلا في الفصل الأول الذي قبل هذا، فهي بضع عشرة لا منقبة واحدة.
الثانية: إنزال الله سكينته عليه، وتأييده بجنوده من الملائكة في يوم حنين حين انهزم المؤمنون وولوا مدبرين، كما هو مبين في الآيتين 25 و26 (ويراجع تفسيرهما في ج 10).
الثالثة: نصر الله له عند خروجه للهجرة مع صاحبه الصديق، ومعيته الخالصة لهما، وإنزال سكينته عليهما، وتأييدهما بجنوده من الملائكة، وفيها عدة مناقب كما تراه في آية الغار (40) وتفسيرها البديع.
الرابعة: إتمام الله تعالى نوره به كما تراه في الآية 32، وقال بعض المفسرين: إنه هو صلى الله عليه وسلم نور الله المراد من الآية، فانظر تفسيرها في ج 10. الخامسة: قوله تعالى بعدها {هُو الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ودِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] الآية وهي مشتملة على عدة مناقب فانظر تفسيرها في ج 10.
السادسة: قوله تعالى له {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] الآية، وفيها من لطفه تعالى به وتكريمه إياه أن أعلمه بعفوه عنه قبل إعلامه بخطأ الاجتهاد في إذنه لبعض المنافقين بالتخلف عن الخروج معه إلى تبوك، وتجد في تفسيرها تحقيق الكلام في ذنوب الأنبياء عليهم السلام ص 464.
السابعة: إعلامه تعالى إياه بأن استغفاره للمشركين وعدمه سيان في جانب حكم الله فيهم، وهو أنه لا يغفر للمصرين على نفاقهم، وذلك في الآية 70، وهذا تقييد لنفع الدعاء والشفاعة.
الثامنة: إعلامه تعالى بأنه ليس من شأن النبي -من حيث هو نبي- ولا من شأن المؤمنين أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى بعد العلم بموتهم على كفرهم بعد أن فعلوا ذلك، وهذا نص اٍلآية 113، وهي إرشاد من الله لهم فيها يجب أن يقفوا عنده من مودة القرابة والنسب (راجع ج 11).
التاسعة: نهيه تعالى إياه عن الصلاة على المنافقين أو القيام على قبورهم عند الدفن بعد صلاته على زعيمهم الأكبر الأكفر عبد الله بن أبي بن سلول، والقيام على قبره عند دفنه، تكريما لنجله المؤمن الصادق، وتأليفا لقومه، وكان أكثر المنافقين منهم، وهذا النهي يتضمن الإنكار والتأديب والحد الذي يجب الوقوف عنده في معاملة المنافقين، وسيأتي تفصيله.
العاشرة: نهيه عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم، وإعلامه بأن الله يعذبهم في الدنيا قبل الآخرة، وهو في الآيتين 55 و85 على القول بأن الخطاب فيهما له صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون عاما لكل من يسمع القرآن أو يقرؤه، وهو على كل تقدير تأديب من الله تعالى وتكميل للنبي والمؤمنين بالسمو بأنفسهم عن تعظيم شأن قوة الأموال وعزة الأولاد وزينتها يكونان للمحرومين من قوة الإيمان وعزته وهما اللتان لا يعلوهما شيء، وتعليمهم ما لم يكونوا يعلمون من أن النعم الصورية الدنيوية لا تتم لأهلها النعمة بها إلا باطمئنان القلوب بنعمة الإيمان، وتزكي الأنفس بأعمال الإسلام، وأن السعادة الحقيقية إنما هي سعادة النفس بالعلم والعرفان وعلو الأخلاق، ومن متمماتها الدنيوية كثرة الأموال والأولاد، وأن هؤلاء المنافقين بفقدهم لهذه النعم الباطنة لا سعادة لهم بتلك النعم الظاهرة، وإنما هي منغصات لهم في الدنيا نفسها بما بيناه في تفسير الآيتين (في ج 10). الحادية عشرة: توبته تعالى عليه وعلى خيار أصحابه المؤمنين، وهذا منتهى التطهير والتزكية لهم من ربهم عزّ وجلّ في أثر غزوة تبوك التي أرهقوا فيه أشد العسر، وقاسوا أعظم الجهد، من الجوع والظمأ والنصب، ومفارقة موسم الرطب، في شدة الحر، وقلة الزاد والظهر (الرواحل)، فكان لا بد أن يعرض لهم بعض الهفوات الجديرة برأفة الله ورحمته في جانب تلك الحسنات، التي أشير إلى مضاعفة أجرها فيما يلي الإخبار بالتوبة عليهم من الآيات، وهو قوله عزّ وجلّ: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ والْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 117]، ثم ذكر فيما يليها توبته على الذين خلفوا من هؤلاء الصادقين عن تبوك بغير عذر {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم} الخ. والتوبة من العبد إلى ربه هي رجوعه إليه عن كل ما لا يرضيه، وتحريه ما يرضيه، وهي تختلف باختلاف حال التائبين فيما يتوبون عنه، حتى إن منهم من يتوب إليه ويستغفره من الغفلة، ومن التقصير في استكمال الجهد في الطاعة. وأما التوبة من الرب على عبده فهي قبول توبته، والتجاوز عن ذنبه أو هفوته، أو عن تقصيره في عبادته، والخطأ في الاجتهاد في إقامة سنته، وتنفيذ شريعته، وعطفه عليه بما يكون مزيد كمال في إعلاء درجته، ولذلك قال بعض المحققين: إن التوبة هي أول درجات الطاعة والمعرفة، وهي آخر درجات الكمال في الإيمان وثمراته، وإنها كالطهارة في الصلاة، لا بد من استمرارها من أول سن التكليف إلى آخرها (راجع ج 11). الفصل الثالث: في فضله صلى الله عليه وسلم على أمته، وحقوقه الواجبة عليها، وحكم إخلالها بها وتقصيرها، فيها وهي ثلاثة أقسام:
القسم الأول: في صفاته الخاصة، وفيه بضع مزايا وفضائل:
الأولى: وصف الله تعالى إياه بأنه صلوات الله وسلامه عليه في الآية 61 {أذن خير} في الرد الحكيم على قول بعض المنافقين هو أذن، يعنون أنه يصدق كل ما يقال له، فيسهل عليهم خداعه، وقد فسر وصفه بأنه أذن خير بقوله تعالى: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين}، ووجه الرد عليهم بهذا أنه صلى الله عليه وسلم إنما يؤمن بالله ويصدق ما يوحيه إليه في شأن المنافقين وغيرهم، وهو التصديق القطعي اليقيني، ويليه أنه يصدق المؤمنين بالله تعالى وبرسالته تصديق ثقة بهم وائتمان لهم فيها هو خير في نفسه، وخير للناس حتى المنافقين منهم، لأنه لا يسمع سماع قبول إلا ما كان حقا وخيرا، دون الكذب والغيبة والنميمة. راجع تفسيرها في ج 10.
الثانية: وصفه تعالى إياه بعد ما ذكر بقوله: {ورحمة الذين آمنوا منكم} [التوبة: 61] أي بما كان سببا لهدايتهم، وإسباغ الله عليهم سعادة الدنيا والآخرة بإيمانهم به وعملهم بما دعاهم إليه من أسبابها، دون المنافقين المكذبين أو المرتابين فيها، وأما قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] فهو في معنى إرساله للناس كافة بما هو سبب الرحمة والسعادة. وما يأتي قريبا من وصفه بأنه رحيم بالمؤمنين فهو معنى آخر، وستعرف الفرق بينهما.
الثالثة: وصفه في آية 103 بتطهير المؤمنين وتزكيتهم بما يأخذه منهم من الصدقات، وذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يكن مثله في تبليغه لفرض الصدقات والنفقات، وفي أخذه لها، وقسمتها على مستحقيها، كمثل الملوك والحكام الذين يجعلون المفروض على الناس من الأموال أتاوات وضرائب قهرية يؤدونها كما يؤدون سائر المغارم، ويعتقدون أنها تنفق بحسب أهواء الملوك والحكام، ويكون لهم منها أكبر نصيب بغير استحقاق، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يبين للمؤمنين حكمة ما فرضه الله تعالى عليهم، وأن فيه خير الدنيا وسعادة الآخرة لهم في أفرادهم وجماعتهم، وكان يقسمه بين مستحقيه بالعدل، ويحرم بإذن الله على نفسه وعلى أهل بيته أخذ شيء منه، فبهذا وذاك أسند الله تعالى إليه فعل التطهير والتزكية لهم، وهو داخل في حكمة بعثته في قوله: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} وتجد التفصيل في تفسير الآية (ج 11).
الرابعة: وصف دعائه للمتصدقين بعد ما ذكر بأنه سكن لهم تطمئن به قلوبهم، وترتاح إليه أنفسهم، ويثقون بقبول الله لصدقاتهم، ونقول: إن كل مؤمن متصدق مخلص يناله حظ من دعائه صلى الله عليه وسلم للمتصدقين إلى يوم القيامة، ولكن لم يرد في القرآن ولا في السنة ولا في سيرة الصحابة والتابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه بعد وفاته الدعاء لأحد.
الخامسة: وصفه تعالى إياه بما امتن به على قومه من قوله في خاتمة السورة {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} فأثبت له شدة الحب لهم والحرص على هدايتهم وسعادتهم، وأنه يعز ويشق عليه أن يصيبهم العنت والإرهاق في دينهم أو دنياهم.
السادسة: وصفه بعد ما تقدم بقوله: {بالمؤمنين رءوف رحيم} وهاتان الصفتان من أعظم صفات الربوبية غير الخاصة بالله عزّ وجلّ إلا في كمالهما، ورأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين غير إرسال الله تعالى إياه رحمة لهم خاصة، وغير إرساله رحمة للناس كافة، فإن رحمته بهم من صفات نفسه الشريفة القدسية التي ظهر أثرها في سياسته ومعاشرته لهم، وتأديبه إياهم، وتنفيذ حكم الله تعالى فيهم، كما ترى في هذه السورة كغيرها، وشواهد سيرته صلى الله عليه وسلم في تفسيرها، فتأمل خطبته صلى الله عليه وسلم في الأنصار في أثر إنكار بعض شبانهم وعوامهم حرمانه إياهم من غنائم حنين (ج 10)، فهي العجب العجاب، والكمال الذي لم يتم لبشر كما تم له عليه الصلاة والسلام. وأما إرساله رحمة للعالمين وللمؤمنين فهو بيان لحكمة رسالته وفوائدها فيما اشتملت عليه من الحق والعدل والخير التي هي أسباب رحمة الله ومثوبته ورضوانه لمن اهتدى بها، كما تقدم بيانه في محله.
القسم الثاني: فيما يجب له على أمته، وفيه خمس واجبات:
الأول: وجوب حبه صلى الله عليه وسلم بالتبع لحب الله تعالى، وفي الدرجة التي تلي درجته في ثمرة الإيمان، وتفضيل نوع حبها على كل ما يحب بمقتضى الفطرة ومصالح الدنيا، فراجع بيان ذلك في تفسير الآية 25 تجد فيه ما لا تجد مثله في تفسير آخر (ج 10).
الثاني: وجوب تحري مرضاته بالتبع لمرضاة الله عزّ وجلّ في الآية 62.
الثالث: وجوب طاعته بالتبع لطاعة الله في صفات المؤمنين من الآية 71.
الرابعة: وجوب النصح له بالتبع للنصح لله عزّ وجلّ في صفات المعذورين في التخلف عن القتال من الآية 91. وهذه الواجبات له قد ذكرت في الفصل الأول من هذا الباب في سياق آخر. الخامس: وجوب نصره كما يؤخذ من آية {إلا تنصروه فقد نصره الله} [التوبة: 40]، ويؤيدها ما يأتي في القسم الثالث من حظر التخلف عنه.
القسم الثالث: فيما يحظر عليهم من إيذاء وتقصير في حقه، وهو خمسة محظورات: الأول: حظر إيذائه -فداؤه أبي وأمي ونفسي- والوعيد عليه في الآية 61.
الثاني: حظر محادته- أي معاداته -والوعيد عليها في الآية 63.
الثالث: الكفر الصريح بالاستهزاء به في الآية 65.
الرابع: حظر القعود عن الخروج معه للجهاد في الآيتين 81 و90.
الخامس: حظر تخلفهم عنه والرغبة بأنفسهم عن نفسه في الآية 120، وهذا تعبير بليغ جدا يتضمن أن كل من يصون نفسه عن جهاد وعمل بذل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه فيه فهو مفضل لنفسه على نفسه الكريمة في عهده، ويمكن أن يقال ذلك فيمن بعده، وإن كان الفرق بين الحالين ظاهرا من ناحية ملاحظة ذلك وعدمها، ومن ناحية قيام الحجة على من كان معه بما لا تقوم به على من لم يكن معه فضلا عمن بعده، وإنما نعني بالإمكان أنه ينبغي لكل مؤمن أن يتأسى به صلى الله عليه وسلم في بذله ماله ونفسه لله والجهاد في سبيل الله بقدر إمكانه {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} فراجع تفسير الآية (ج 11).
الباب الثالث: في دين الإسلام وما في السورة من حججه وأصوله وصفات أهله، وفيه 3 فصول:
الفصل الأول: في حجج الإسلام من البشارات والنذر والإخبار بالغيب، وهي عشر: الأولى: قوله تعالى للمشركين في الآية الأولى {واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين}.
الثانية: قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ ويُخْزِهِمْ ويَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14].
الثالثة: قوله للمؤمنين {وإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 28].
الرابعة: بشارته بخذل اليهود والنصارى فيما يحاولون من إطفاء نوره تعالى (الإسلام)، ووعده بإتمامه، وإظهار دينه على الدين كله، وذلك في الآيتين {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ} إلى قوله: {ولَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32، 33]. الخامسة: قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} [التوبة: 64].
السادسة: قوله: {ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ} [التوبة: 65] الآية ولذلك كله ولما سيأتي قال: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ وأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 78].
السابعة والثامنة والتاسعة: قوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94] الآية وقوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} [التوبة: 96] وقوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} [التوبة: 96] الآيات وهي أظهر في خبر الغيب من قوله: {ويَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} [التوبة: 56] وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62] لاحتمال أن يكون الإخبار بهذين الحلفين بعد وقوعهما لبيان غرضهم، وما في باطنهم، وهو عين تعليل حلفهم في الآية 96.
العاشرة: قوله: {ومِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ومِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] أي في الدنيا. وقد تم كل ذلك وصدق وعد الله ووعيده وخبره. وفي السورة أخبار أخرى بالغيب يحتمل أن تكون من باب طبيعة العمران وسنن الله في البشر، وترى مثاله في الفصل الثالث من الباب الأول.
الفصل الثاني: في صفة الإسلام ومدخله وأعم أصول التشريع فيه، وفيه عشرة أصول:
الأصل الأول: أن دين الإسلام هو نور الله تعالى العام، وهداه الكامل التام، الذي نسخ به ما تقدمه من الأديان، ووعد الله عزّ وجلّ بإتمامه، وخذلان مريدي إطفائه، وذلك نص الآيتين (32 و 33)، وتجد في تفسيرهما (في ج 10) ما لا تجد مثله في شيء من كتب التفسير الأخرى، من إظهاره على جميع الأديان بالحجة والبرهان، والهداية والعرفان، والعلم والعمران، والسيادة والسلطان.
الأصل الثاني: مدخل الإسلام ومفتاحه وما يتحقق به، وهو قوله تعالى في المشركين {فَإِن تَابُواْ وأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ويؤكدها قوله: {فَإِن تَابُواْ وأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، والمراد التوبة من الشرك وتحصل بالإقرار بالشهادتين، وتجد في تفسيرهما خلاف العلماء في كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة من أفراد المسلمين (ج 10).
الأصل الثالث: بناء الإسلام على العلم الصحيح دون التقليد الذي ذمه القرآن في آيات كثيرة، وشنع به على المشركين. ودليله في هذه السورة قوله تعالى في تعليل الأمر بإجازة المشرك الحربي في دار الإسلام ليسمع القرآن {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}، وقوله في الآية 11 {ونفصل الآيات لقوم يعلمون}، وأصرح منهما قوله في مقلدة أهل الكتاب {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}، مع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ذلك باتباعهم إياهم فيما يحلون لهم ويحرمون عليهم (ج 10).
الأصل الرابع: أن التكليف العام من العبادات والحلال والحرام الديني لا يثبت إلا بنص قطعي، وهو ما كان عليه السلف الصالح وأصل مذهب الحنفية، وشاهده في هذه السورة قوله تعالى: {ومَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وبيانه في تفسيرها (ج 11).
الأصل الخامس: جهاد المشركين في سبيل الله وعدم السماح لهم بالإقامة في بلاد العرب أو يدخلوا في الإسلام، وهو في آيات منها الآية التي سموها آية السيف وهي الخامسة {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ}، وهي غير ناسخة لآٍيات العفو والصفح والإعراض عن المشركين كما قيل، وترى في تفسيرها تحقيق الآيات الناسخة والمنسوخة (ج10)، وستأتي أحكام القتال وقواعده في الباب الرابع الآتي.
الأصل السادس: جعل الغاية من قتال أهل الكتاب أداء الجزية لنا بشرطها إلا أن يدخلوا في الإسلام، وهو في الآية 29، وستذكر في أحكام القتال.
الأصل السابع: المساواة بين الرجال والنساء في ولاية الإيمان المطلقة وصفاته الشخصية والعامة المشتركة في قوله: {والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللّهَ ورَسُولَه} [التوبة: 71]، ويدخل في إطلاق الولاية ولاية النصر والدفاع عن الأمة والبلاد، إلا أنه لا يجب على النساء القتال إلا في حال النفير العام (ج 10). الأصل الثامن: المساواة بين الرجال والنساء في جميع نعيم الآخرة تبعا للمساواة في التكليف، وهو نص قوله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات} [التوبة: 72] الخ.
الأصلان التاسع والعاشر: وجوب طلب العلم والتفقه في الدين، ووجوب بث العلم مقرونا بالوعظ والإنذار الذي يرجى تأثيره النافع، وهما في الآية 116، وفي السورة من أصول الإيمان عقيدة البعث، وجزاء المؤمنين والكافرين والمنافقين في آيات كثيرة كسائر القرآن (تراجع الآيات 3 و 17 و 18 و 19 و 21 و 22 و31 و 44 و 45 و 49 و 61 و 63 و 68 و 69 و 74 و 81 و 95). وفائدة هذا التكرار أن ترسخ هذه العقيدة في قلوب المتعبدين بتلاوة القرآن بكثرة تذكرها في المواضع المختلفة من ذكر الأعمال التي يترتب عليها ذلك الجزاء، وأن من ضروب إعجاز القرآن أن يرد فيه المعنى الواحد في العشرات أو المئات من المواضع، ولا يمل تكراره القارئ ولا السامع.
الفصل الثالث: في آيات الإيمان الصادق وصفات أهله وطبقاتهم، وفيه 32 شاهدا: الشاهد الأول: آية صدق الإيمان -المميزة بين الصادقين والمنافقين ومرضى القلوب- التي تظهر بالامتحان وهو الجهاد وحفظ أسرار الملة والدولة أن يفضى بها إلى وليجة أو بطانة من دون المؤمنين، ومنهم جواسيس الأعداء. وهو نص الآية 16 (ج 10). 2 آية صدق الإيمان وما ينافيه من ولاية الآباء والإخوان الذين يستحبون الكفر على الإيمان في الآية 23 (ج10).
آية صدق الإيمان تفضيل حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة والمال والتجارة والمساكن المرضية، وذلك مفصل في الآية 24، وتجد من بيان معانيها في تفسيرها ما لا تجد مثله في شيء من كتب التفسير.
أخوة الإسلام الدينية في الآية 11 وتفسيرها في ج 10.
و 6 عمارة مساجد الله حسا ومعنى، وعدم خشية أحد إلا الله في الآية 18.
ولاية بعض المؤمنين لبعض ذكورا وآناثا.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
صفات المؤمنين المميزة لهم من المنافقين في المقابلة بين الآيتين 44 و45 وبين الآية 68 وما بعدها، والآية 71 وما بعدها، والآية 86 وما بعدها، والآية 88 وما بعدها، وبين الآيتين 98 و99 (ج 11) وبين الآيات 124 127.
طبقات خيار المؤمنين الثلاث: المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان في الآية المتممة للمائة وفي الآية 117.
المؤمنون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا في الآية 102، والمؤمنون الذين أرجأ الله قبول توبتهم في الآية 106.
الإخلاص في الإنفاق في سبيل الله ابتغاء القربات عند الله، وصلوات الرسول -أي أدعيته- الآية 99.
العمل النافع للدنيا والدين الذي يرضي الله ورسوله والمؤمنين، الآية 105. 15 حب التطهر من الأدران الحسية والأرجاس المعنوية، 108.
بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم لله تعالى بالجنة في الآية 111.
25 صفات هؤلاء المؤمنين: التوبة، العبادة الخالصة، الحمد لله على كل حال، السياحة، ركوع الخضوع، سجود الخشوع، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحفظ لحدود الله في الآية 112.
آية المؤمنين عدم الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى، الآية 113.
إنذار الناس وتعليمهم، الآية 122.
الغلظة في القتال على الكفار المحاربين، الآية 123.
زيادة الإيمان بنزول القرآن في الآيتين 124 و125.
الباب الرابع: في المسائل المالية والعسكرية والسياسية، وما فيها من أحكام القتال والعهود، وفيه 3 فصول:
الفصل الأول: في أحكام الأموال؛ تقدم في سورة الأنفال أحكام الغنائم، وما في معناها من أموال الحرب، وفرض الخمس فيها، ومصارفه، وحق آل الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، وحكمته، وما للأمة فيه من المصلحة، وبيان أنواع الأموال الشرعية في الإسلام، وأمهات مقاصدها في الدولة الإسلامية. فما في هذه السورة متمم لما قبله في الأموال، كما أنها متممة لما فيها من أحكام القتال وشؤون المنافقين والكفار. والكلام في هذا الموضوع ثلاثة أقسام:
المسائل الدينية والاجتماعية في الأموال.
فوائد إصلاح الإسلام المالي للبشر.
القسم الأول: في مكان إنفاق المال من الإيمان، والبخل به من النفاق وفيه 10 مسائل:
المسألة الأولى: كون الزكاة المعينة أحد أركان الإسلام، لا تقبل دعواه من الكفار بدون التزامها، ولا تحصل أخوته الدينية إلا بأدائها، واعتبار مانعيها من الجماعات مرتدين تجب مقاتلتهم. وفي الأفراد خلاف تقدم تحقيق الكلام فيه. ونص ذلك في قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وقوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين} [التوبة: 11]، ويؤكده عد الزكاة كالصلاة من صفات المؤمنين الراسخة في آية {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71] الخ.
المسألة الثانية: كون بذل الأموال في سبيل الله آية الإيمان الصحيح وقوام الدين، ومن شواهده الآيتان المشار إليهما آنفا في فريضة الزكاة، ومنها الآية {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ} [التوبة: 20] إلى قوله في الآية (22) {إن الله عنده أجر عظيم}، ومنها الوعيد الشديد لمن أمواله وتجارته وسائر حظوظه أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله، وهو في الآية (24)، ومنها قوله تعالى في آية النفير العام {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} [التوبة: 41]، وقوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [التوبة: 44]، ويتم معناها الآيتان بعدها. ومنها قوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في حياة الدنيا} [التوبة: 55].
المسألة الثالثة: كون البخل والامتناع عن الإنفاق في سبيل الله آية الكفر والنفاق، فمن شواهده عدم قبول نفقة المنافقين، وكون أموالهم بلاء ووبالا عليهم في الدنيا والآخرة في الآيات 53 و 54 و 55، ومنها لمز المنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات للطمع في المال في الآية 58، ومنها وصف المنافقين بالبخل وقبض الأيدي عن الإنفاق في قوله: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} [التوبة: 68] إلى قوله: {ويقبضون أيديهم} [التوبة:68]، ويؤكدها ضرب المثل لهم في الآية 70 بعدها بالذين من قبلهم من المغرورين بالقوة والمال، ووصف المؤمنين بعدها بصفات منها (إيتاء الزكاة)، ومنها قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] الآية، والوعيد الشديد على البخل في الآيات التي بعدها، ومنها لمز المنافقين للمتطوعين من المؤمنين في الصدقات في الآية 76، ومنها {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} [التوبة: 81].
المسألة الرابعة: وصف كثير من رؤساء الدين من أهل الكتاب بأكل أموال الناس بالباطل تحذيرا من فعلتهم، ورفعا لقدر كل مسلم أن يسفّ ويسفل إلى دركتهم. المسألة الخامسة: الوعيد على كنز الأموال وعدم إنفاقها في سبيل الله في الآيتين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} إلى قوله: {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35].
المسألة السادسة: آية {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما} [التوبة: 98]، وهم منافقوهم كبني أسد وغطفان، كانوا يعطون الصدقات رياء وخوفا لا يرجون منها نفعا بتأييد الإسلام ولا ثوابا في الآخرة لعدم إيمانهم، فهي في نظرهم مغارم يلتزمونها ليصدقوا بما يظهرون من إسلامهم، وهكذا شأن المنافقين في الدين وفي القومية والوطنية، لا يبذلون شيئا من مالهم لأجل المصلحة العامة، بل للرياء والسمعة، وهو في نظرهم غرامة.
المسألة السابعة: آية {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99]، وهم بنو أسلم وغفار وجهينة وحسبك شهادة الله تعالى لهم بصدق وحسن نيتهم في نفاقاتهم، وحكمها عام. المسألة الثامنة: الترغيب في الصدقات بالتعبير عن قبولها والإثابة عليها بأخذ الله عز وجل لها كما في الآية (104).
المسألة التاسعة: الترغيب فيها بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: 111] الآية.
المسألة العاشرة: فضل النفقة في الجهاد قلت أو كثرت، وكون الجزاء عليها أحسن الجزاء، وهو نص الآية (121) و تفسيرها في ج 11.
القسم الثاني: أنواع الأموال الشرعية وأحكامها بالإجمال ومصارفها، وفيه 14 مسألة:
مال الجزية، وقد بينا معناها وتاريخها وأحكامها وشروطها في تفسير آية الجزية (29) وهو في ج 10.
أنواع الصدقات الواجبة المقدرة الموقوتة، وهي النقدان من الذهب والفضة والتجارة في استغلالهما، والأنعام والزرع الذي عليه مدار الأقوات والركاز، وهو المدفون في الأرض يعثر عليه والمعدن (ج 10).
سهم الفقراء والمساكن وهل هما صنفان أو صنف واحد ينقسم بالوصف إلى قسمين؟ (راجع ج 10).
سهم العاملين على الصدقات من جباة وخزنة وكتبة.
سهم المؤلفة قلوبهم وهم ستة أصناف.
سهم الرقاب، أي تحرير الرقيق، بإعانته على شرائه لنفسه المعبر عنه بالكتابة، أو شرائه من مالكه وعتقه.
سهم الغارمين الذين ركبتهم ديون تعذر عليهم أداؤها، والذين يغرمون عمدا ما ينفقونه لإصلاح ذات البين، ومنع الفتن الثائرة.
سهم الإنفاق في سبيل الله على الغزاة والمرابطين الذين لا نفقة لهم من بيت المال، وما يدخل في عموم ذلك من المصالح العامة.
سهم ابن السبيل، وهو المنقطع عن بلده في سفر، لا يتيسر له فيه الوصول إلى ماله إن كان له مال فيعطى لفقره العارض ما يتعين به على إتمام سياحته والعود إلى بلده وأهله.
الدليل على كون عروض التجارة مما تجب فيه الزكاة.
توزيع الصدقات على الأصناف كلهم أو بعضهم.
الزكاة المطلقة والمعينة ومكانتها في الدين وحكم دار الإسلام ودار الكفر فيها والبلاد المذبذبة بين الدارين.
لا تعطى الزكاة للمرتدين ولا للإباحيين والملاحدة.
إلتزام أداء الزكاة كاف لإعادة مجد الإسلام. فصل في فوائد الزكاة المفروضة والصدقات وإصلاح الإسلام المالي للبشر وامتياز الإسلام بذلك على جميع الأديان وفيه مقدمة في منافع المال، وارتباط جميع مصالح البشر الدنيوية والدينية به، وشأنهم في حبه وكسبه وإنفاقه وإمساكه، وإرشاد الدين فيه، وكون الإسلام وسطا بين اليهودية والمادية فيه، وغلو عباده من اليهود والإفرنج في جمعه واستغلاله، وبين بدعة البلشفية الاشتراكية في مقاومة الشعوب والدول المالية وغلوها في ذلك وفي هدم الأديان. وتلخيص الإصلاح الإسلامي المالي في أربعة عشر أصلا (فتراجع في ج 11).
الفصل الثاني: في أحكام القتال والمعاهدات والصلح، وهي 20 حكما:
الحكم الأول: البراءة من المشركين ونبذ عهود المعاهدين منهم، ذلك أن مشركي مكة ناصبوا النبي صلى الله عليه وسلم العداوة منذ دعا إلى التوحيد وتبعهم سائر العرب فكانوا حربا له ولمن آمن به، يقتلون كل من ظفروا به منهم، أو يعذبونه إذا لم يكن له من يحميه من المشركين، ولما هاجروا من مكة صاروا يقاتلونهم في دار هجرتهم، وكان الله ينصر رسوله والمؤمنين عليهم كما وعده. حتى إذا ما كثروا وصارت لهو شوكة اضطر المشركون إلى عقد أول صلح معهم في الحديبية، فعاهدوهم سنة ست للهجرة على السلم والأمان مدة عشر سنين، ولم تلبث قريش مع أحلافها من بني بكر أن غدروا ونقضوا العهد، فكان ذلك سببا لفتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة سنة ثمان، ثم جمع المشركون جموعهم لقتاله في حنين والطائف فنصره الله عليهم، وأمره في السنة التالية بأن ينبذ للمشركين عهودهم ويتبرأ منهم في موسم الحج (ج 10).
الثاني: أذان المشركين (إعلامهم) بذلك أذانا عاما في يوم الحج الأكبر وهو عيد النحر الذي تجتمع به وفود الحاج من جميع القبائل في منى، بحيث يعم هذا البلاغ جميع قبائل العرب في أقرب وقت، لأن الإسلام يحرم الغدر وأخذ المعاهدين على غرة، فكان لا بد من إعلامهم بذلك بما ينتشر في جميع قبائلهم، وكانت تلك الوسيلة الوحيدة لعلم كل فرد منهم بعود حالة الحرب بينهم وبين المسلمين، وهذا من عدل الإسلام ورحمته؛ لأن المشركين لم تكن لهم دولة ولا رئيس عام يبلغهم ما يتعلق بشؤونهم ومصالحهم العامة فيكتفي بإبلاغه مثل هذا كما هو المعهود في الدول الملكية أو الجمهورية المدنية، ولم يكن في عصرهم صحف منشرة عامة ولا آلات للأخبار البرقية تنشر مثل هذا البلاغ.
الثالث: منحهم هدنة أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث شاؤوا آمنين مطمئنين أحرارا في سيرهم وإقامتهم وسائر أعمالهم الدينية والدنيوية ليترووا في أمرهم، ويتشاوروا في عاقبتهم، وفي هذا من رحمة القادر بعدوه ما يفتخر به المسلمون بحق، وهذه الأحكام صريحة في الآيات الثلاث الأولى من السورة (ج 10).
الرابع: وعظهم بأنهم إن تابوا من شركهم وما يغريهم به من عداوة المؤمنين وقتالهم والغدر بهم فهو خير لهم، لأنهم لن يعجزوا الله في الأرض ولن يعجزوه هربا منها، وقد وعد بنصر رسوله عليهم من قبل أن يكثر أتباعه ويبايعه أنصاره، وأنجز له وعده في جملة غزواته معهم، وسبب هذا الوعظ أن الإيمان أمر اختياري طريقه الموصل إليه الدعوة ودلائل الإقناع، وذلك قوله في بقية الآية الثالثة {فإن تبتم فهو خير لكم} الخ، وفيها من الإخبار عن المستقبل ما صدقه الواقع.
الخامس: استثناء بعض المشركين من نبد العهد، وهم الذين عاهدهم المؤمنون عند المسجد الحرام في الحديبية سنة ست، ولم ينقصوهم من شروط العهد ومواده شيئا، ولم يظاهروا ويعاونوا عليهم أحدا من أعدائهم المشركين ولا أهل الكتاب، كما نقض أهل مكة العهد بمظاهرة أحلافهم بني بكر على أحلاف النبي صلى الله عليه وسلم بني خزاعة، والأمر بإتمام عهدهم إلى نهاية مدته، وتعليله بأنه من التقوى التي يحبها الله تعالى، وهذا نص الآية الرابعة بشرط أن يظلوا مستقيمين عليه كما بينه في الآية السابعة.
السادس: الأمر في الآية الثامنة باستعمال جميع أسباب القتال معهم بعد انسلاخ أشهر الهدنة التي ضربت له وحرم فيها، وهي القتل والأسر والحصر والقعود لهم في جميع المراصد لمراقبتهم ومنعهم من التجوال والتقلب في البلاد، وهو يدل على شرعية استعمال ما يتجدد بين البشر من وسائل القتال الموافقة لأصول الإسلام العادلة الرحيمة، فإن استعمل العدو ما هو مخالف لها قابلناه بالمثل لعموم قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ} [البقرة: 194].
السابع: تخلية سبيل من يتوبون من الشرك بالنطق بالشهادتين ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، لأنهم بهذا يدخلون في الإسلام، ومن قبل الصلاة والزكاة والتزامهما فلا بد أن يلتزم غيرهما، وهذا نص الآية الخامسة.
الثامن: إيجاب إجارة من يستجير النبي صلى الله عليه وسلم منهم وفي حكمه الإمام الأعظم ونائبه والقائد العام في حال الحرب لأجل أن يسمع كلام الله ويقف على دعوة الإسلام، وإبلاغه بعد ذلك المكان الذي يأمن فيه على نفسه من سلطان المسلمين.
التاسع: تعليل نبذ عهد المشركين السابق وعدم استئنافه معهم بالأسباب الآتية:
أ أنهم نقضوا عهد الحديبية بالغدر، فلم يخبروا المؤمنين بذلك ليأخذوا أهبتهم. ب أن من دأبهم وشأنهم أنهم إذا ظهروا على المؤمنين برجحان قوتهم لا يرقبون فيهم عهدا ولا ذمة ولا قرابة، بل يفتكون بهم بدون رحمة.
ج أنهم ينافقون ويكذبون عليهم في حال الضعف فيرضونهم بأفواههم، ويقولون بألسنتهم لهم ما ليس في قلوبهم، وأكثرهم -أي السواد الأعظم منهم- فاسقون، أي خارجون من قيود العهود والمواثيق والصدق والوفاء.
د أنهم يصدون عن سبيل الله، ويعادون الإسلام وأهله لأجل منفعة قليلة يتمتعون بها، ويخافون أن تسلب منهم بالتزام شريعته التي تحرم أكل أموال الناس بالباطل كالربا والقمار والغصب والغزو لأجل الكسب، وكانوا يستبيحون كل ذلك.
ه أنهم -على كونهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة في حال القوة ولا في حال الضعف- هم المعتدون على المسلمين بالقتال، فلا يمكن أن يظلوا معهم في كل حال. و أنهم نكثوا عهودهم السابقة، فكذلك ينكثون غيرها، فلا ثقة بها فتراعى. ز أنهم هموا بإخراج الرسول من وطنه، بل هم الذين اضطروه إلى الخروج هو وسائر من آمن معه، وذلك بعد أن تواطؤوا على قتله.
ح أنهم هم الذين بدؤوا المؤمنين بالقتال أول مرة، وبقيت الحرب مستمرة، فلما أنهت معاهدة الحديبية حالة القتال أعادوها بغدرهم فيها ونقضهم لها، وهذه الأسباب الثمانية صريحة في الآيات 7 10.
الحكم العاشر: وجوب قتال مشركي العرب كافة إلا أن يسلموا، وهو نص الآية الخامسة المعروفة بآية السيف، وقوله في الآية {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} ووجهه ما علم من جملة الآيات في قتال مشركي العرب، وهو عدم قبول الجزية منهم، وعدم إقرارهم على السكنى والمجاورة للمسلمين في بلادهم مع بقائهم على شركهم؛ لأنهم لا أمان لهم ولا عهود فيكمن أن يعيش المؤمنون معهم بسلام.
الحكم الحادي عشر: تحريم ولاية الكفار من الآباء والإخوان كغيرهم على المؤمنين، وكونها من الظلم العظيم في الآية 23.
الحكم الثاني عشر: حكم قتال أهل الكتاب بشرطه حتى يعطوا الجزية في الآية 29. ومن فروع هذه المسألة الفرق في القتال بين مشركي العرب وسائر الوثنيين، ومنها أن ما في هذه السورة من قتالهم و قتال أهل الكتاب إنما هو في بيان غايته لا في بدايته، وأن أول ما نزل من التشريع في القتال آيات سورة الحج 39، ثم آيات سورة البقرة التي أولها 190 (راجع ج 10 وما بعدها)، ويليها آيات سورة الأنفال، فسورة آل عمران، فسورة محمد فهذه السورة.
الحكم الثالث عشر: وصف أهل الكتاب الذين بين حكم قتالهم هنا بأربع صفات سلبية هي علة عداوتهم للإسلام، ووجوب خضوعهم لحكمه، ليأمن أهله على أنفسهم وحرية دينهم معهم (فيراجع تفسير آية الجزية). فصل في حقيقة الجزية لغة وشرعا، وتاريخها، وشروطها، وأحكامها، وسيرة الصحابة فيها ج 10. استطراد في حقيقة معنى الجهاد والحرب والغزو وإصلاح الإسلام فيه ج 10. فصل في دار الإسلام والعدل، ودار الحرب والبغي، وحقوق الأديان والأقوام في هذا العصر ج 10.
الحكم الرابع عشر: إبطال النسيء في الأشهر لأجل القتال، وكونه تشريعا جاهليا، وهو نص الآية 37.
الحكم الخامس عشر: النفير العام، وهو ما يكون القتال به واجبا بشرطه على الأعيان، كما فصل في الآيات 38 و39 و41، وأما النفير الخاص فهو في الآية 122. الحكم السادس عشر: الاستئذان في التخلف عن الجهاد بالمال والنفس من علامات النفاق ومنافيات الإيمان بالله واليوم الآخر، كما ترى في الآيتين 44 و45 وما قبلهما وبعدهما من أحوال المنافقين، وتتمة ذلك في الآيات 86 93.
الحكم السابع عشر: وجوب مجاهدة الكفار والمنافقين في المعاملات المدنية والأدبية، وهم الخاضعون لأحكام الإسلام، كما في الآية 73.
الحكم الثامن عشر: الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد في قوله تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} إلى آخر الآية 93.
الحكم التاسع عشر: وجوب بذل الأنفس والأموال في القتال المشروع لإعلاء كلمة الله -وهي الحق والعدل- باشتراء الله إياهما من المؤمنين بأن لهم الجنة، وهو نص الآية 111، وتقدم تحريم الفرار من الزحف في سورة الأنفال.
الحكم العشرون: قتال الأقرب فالأقرب من الكفار الحربيين، وهو نص الآية 123.
الفصل الثالث: في القواعد والأصول السياسية والحربية المأخوذة من المسائل والأحكام السابقة وهي 13 أصلا:
جواز البراءة من العهود ونبذها للمعاهدين لدفع المفاسد المترتبة على بقائها، وهو في الآيتين الأولى والثانية من السورة.
عقد المعاهدات مع الدول والأمم من حقوق الأمة؛ لأن لها غنمها وعليها غرمها، وإنما يعقدها الإمام أو نائبه من حيث إنه هو الممثل لوحدة الأمة، وهو منطوق إسنادها إلى المؤمنين في قوله في الآية الأولى {عاهدتم من المشركين}، مع العلم بأن الذي تولى العقد وكتب باسمه في الحديبية هو النبي صلى الله عليه وسلم.
نبذ المعاهدات يجب أن يذاع وينشر بحيث يعرفه المخاطبون بالعمل به كما أمر الله بالأذان به يوم الحج الأكبر، والإذاعة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وأحوال البشر في حضارتهم وبداوتهم.
وجوب الوفاء بالمعاهدة ما دام الطرف الآخر من الأعداء يفي بها ولا ينقص منها شيئا، كما ترى في الآيات 4 و7 و12 و13 إكمالا لما تقدم في سورة الأنفال.
المعاهدة الموقوتة تنتهي بانتهاء مدتها بنص قوله تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} [التوبة: 4]، وقوله: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7].
إن القبائل والشعوب التي ليس لها دين ولا شرع يحرم عليها نقض العهود وجرب عليها نكثها للأيمان لا يجب التزام معاهداتها السابقة، ولا تجديد ما انتهت مدته منها، كما تراه مفصلا في الآيات الثلاث عشرة الأولى من السورة، ودول الإفرنج تعمل بهذه القاعدة فلا تعقد المعاهدات إلا مع الدول المنظمة التي تلتزم الشرائع والقوانين الدولية.
الهدنة بين المحاربين مشروعة، وللمسلمين أن يبدؤوا بها إذا اقتضت ذلك المصلحة، ومنها الرحمة بالمشركين فيها لا يضر المؤمنين، وهو نص قوله تعالى في الآية الأولى {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}.
تأمين الحربي بالإذن له بدخول دار الإسلام جائز للمصلحة، فإذا استأمن لأجل سماع كلام الله أو الوقوف على حقيقة الإسلام وجبت إجارته ثم إبلاغه مأمنه عند الخروج من دار الإسلام، وهو في الآية السادسة.
انتهاء قتال مشركي العرب منوط بالدخول في الإسلام، ومفتاحه التوبة من الشرك، والتزام أحكام الإسلام وأهمها ركنا الصلاة والزكاة.
انتهاء قتال أهل الكتاب ومن في معناهم يناط بالإسلام أو بإعطاء الجزية مع الخضوع لأحكام شرعنا، كما ترى في آية الجزية 29، وفي تفسيرها بيان حكم سائر الملل.
النفير العام الذي يكون به الجهاد فرضا على الأعيان في الآية 41، وترى في تفسيرها ما تكون به فرضيته، وما يكون به فرض كفاية.
امتناع نفر المؤمنين كلهم للجهاد في غير حال النفير العام في الآية 116.
العجز عن القتال أو عن الخروج إليه عذر في التخلف عنه، وتجد بيان أنواعه الشخصية والمالية في الآيات الثلاث 91 93، وهي تختلف باختلاف أحوال الزمان والمكان والاستعداد للقتال.
الباب الخامس في شؤون الكفار والمنافقين وحكم الإسلام عليهم وسياسته فيهم وفيه فصول الفصل الأول في ذم القرآن للكفار والمنافقين ونزاهته فيه عن السب والشتم تنبيه وتمهيد الذم الوصف بالقبيح، والسب والشتم ما يقصد به التعيير والتشفي من الذم سواء كان معناه صحيحا واقعا أو إفكا مفترى، والقرآن منزه عن ذلك، قال تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} [الأنفال: 108]، فنهى عن سب آلهة الكفار ومعبوداتهم ومنها الأصنام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان"، رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد من حديث عياض بن حمار بسند صحيح. فما في القرآن من ذم الكفار والمنافقين بيان لحقيقة حالهم وقبح أعمالهم، وما يعقبها من الفساد والضرر بهم وسخط الله تعالى عليهم، واستحقاقهم لعقابه، وبعدهم من رحمته وثوابه، بقصد الإنذار والوعظ، لأجل التنفير والزجر، ولذلك تراها موجهة إليهم بوصفهم أو إلى وصفهم العام: المشركين، الكافرين، المنافقين، الفاسقين، الظالمين، المجرمين، المفسدين. أو الخاص بطائفة منهم كبعض الأحبار والرهبان -لا كلهم- دون الأشخاص المعينين بأسمائهم وألقابهم، مهما يكن من شدة كفرهم وإيذائهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كعبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين الذي كان شرهم وأجرأهم على الضرر، فقد كان ضرره في المدينة أشد من ضرر أئمة الكفر والشرك في مكة (كأبي جهل).
ومن اطلع على شيء من هجاء العرب وسبابهم البذيء وقذعهم الفاحش أدرك نزاهة القرآن، وعلوه عن مثل بذاءتهم في الكلام.
ويستثني من هذه القضية الكلية في ذم الشخص المعين من أعداء الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم ما نزل في ذم أبي لهب وامرأته في سورة وجيزة لما بيناه من حكمة ذلك في قصة إبراهيم مع أبيه آزر، والاستطراد إلى آباء الأنبياء وأولي قرباهم، وما صح في الأحاديث في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وعميه أبي طالب وأبي لهب، لإثبات قاعدة عظيمة في الفرق بين دين الله تعالى على ألسنة أنبيائه ورسله والأديان الوثنية، وهي أن دين الله تعالى مبني على أن مدار السعادة والنجاة من عذاب الآخرة والفوز بنعيمها إنما هو الإيمان الصحيح والأعمال الصالحة التي تتزكى بها الأنفس، وتكون بصفاتها العالية أهلا لجوار الله تعالى ومرضاته. وأن الأديان الوثنية مبنية على أن السعادة والنجاة والفوز إنما تكون بوساطة بعض المخلوقات التي توصف بالولاية والقداسة أو النبوة، ويدعي لها التأثير في النفع والضر بأنفسها، أو بالشفاعة عند الله تعالى، وكونها تحابي بشفاعتها ووساطتها أولي القرابة منها، والمتقربين إليها بالمدح لها، والاستغاثة بها، ودعائها من دون الله أو مع الله عز وجل. وقد كان أبو لهب أغنى بني هاشم، ومن أكثر المشركين غرورا بماله وثروته ونشبه ونسبه، وكان بهذا الغرور أول من جاهر بعداوة ابن أخيه محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه محتقرا له؛ لأنه هو وأبوه الذي لم يدركه وعمه الذي كفله بعد جده أفقر بني هاشم، وقال له حين جمع عشيرته وبلغهم دعوة ربه امتثالا لأمره {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ وكان يقول لقريش: خذوا على يديه، قبل أن تجتمع العرب عليه، وكان أشد المشركين صدا للناس عنه وتكذيبا له كلما دعا أحدا منهم إلى الإسلام، وكان كلامه مقبولا عندهم أكثر من كلام سائر الرؤساء الذين جاهروا بعداوته كأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأبي سفيان بن حرب لقرابته، وكذلك امرأته أم جميل أخت أبي سفيان مسرفة في عداوته وذمه والصد عن دعوته بالنميمة ونقل الأخبار الكاذبة عنه لتبغيضه للناس، وهو المراد من كنيتها "حمالة الحطب" كما هو معروف عند العرب. وروي أنها كانت تجمع الحطب الشائك وتلقيه في طريقه بالفعل، ومع هذا كله لم تكن السورة التي نزلت فيه الادعاء عليه بالتباب -وهو الخسار المفضي إلى الهلاك- أو إخبارا به، وبكونه لا يغني عنه ماله الكثير وما كسبه من الجاه والولد شيئا، في مقابلة قوله للرسول صلى الله عليه وسلم تبا لك سائر اليوم، فهو إخبار بعاقبة أمرهما وموتهما على كفرهما، وخسرانهما سعادة الدنيا والآخرة، وقد صدق خبر الله ووعيده له، فهو قد مات بعد وقعة بدر -التي ساعد عليها بماله- آسفا لعجزه عن الخروج إليها بنفسه، فذاق وبال أمره بخذلان أقرانه من صناديد قريش ورؤوس الشرك، وخسران ماله الذي أنفقه فيها، مصداقا لقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36]، ورأى بمصداقها مبادئ عز الإسلام ونصره. مات بعدها بأيام قليلة بالعدسة شر ميتة، وترك ميتا حتى أنتن، ثم استؤجر بعض السودان حتى دفنوه. وكان فجع بعد نزول السورة بولده عتبة الذي كان يعتز به، افترسه أسد في طريق الشام، ولو أسلم كما أسلم أخوه وثانيه في جمع المال العباس رضي الله عنه لرأى مثل ما رأى هو وذريته من عز الإسلام، وصدق ابن أخيه عليه أفضل الصلاة والسلام، في وعده لهم بأن كلمة "لا إله إلا الله" تجمع عليهم العرب، وتدين لهم بها العجم. ذكرت هذا التنبيه الطويل لبيان غلط بعض العلماء في قولهما: إن القرآن اشتمل على سبهم وسب آلهتهم، وتفنيدا لما يهذي به بعض ملاحدة الكتاب في المقارنة بين أدبه والأدب الجاهلي، وما روي من قول رؤوس المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم لقد سببت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة، فذكر السب والشتم فيه مبالغة في الإنكار، على أنه مرسل ضعيف السند، وفيه رجل مبهم.
وهاك ما وصف الله تعالى به أعداءه وأعداء رسوله والمؤمنين من هؤلاء المنافقين والكافرين في هذه السورة وهو أشده. شواهد ذم القرآن النزيه للكفار والمنافقين:
- 4: وصف المشركين في الآيات (8 و 9 و 10) بأنهم لا يرقبون ولا يراعون في أحد من المؤمنين إلاّ ولا ذمة، حتى قطعوا أرحامهم بهم، خلافا لعادتهم في عصبية النسب، وأنهم يصدون عن سبيل الله، وأن أكثرهم فاسقون، وأنهم هم المعتدون. 5: قوله تعالى في منعهم عن عمارة المسجد الحرام وغيره ومن التعبد فيه {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْر أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17].
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] وكانت نجاستهم معنوية وهي الشرك وخرافاته، وحسية إذ كانوا يأكلون الميتة ولا يدينون بالطهارة من النجاسة ولا الحيض والجنابة. 7- 10 وصف كفار أهل الكتاب في الآية 30 بأنهم باتخاذ ابن لله سبحانه يضاهئون قول الذين كفروا من قبلهم كوثني قدماء الهند والمصريين، وقوله: {قاتلهم الله أنى يؤفكون}، ووصفهم في الآية 31 بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وفي الآية 32 بأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم -أي بكلامهم الباطل في الصد عن الإسلام -وفي الآية 34 بأن كثيرا من أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. وكل هذه الصفات ظاهرة معروفة في تاريخهم الماضي وسيرتهم في هذا الزمان، ومن دقائق الصدق في القرآن الحكم في مثل هذا على الكثير منهم دون الجميع، كما قال في المشركين {وأكثرهم فاسقون}، ولم يعهد مثل هذا التحري في كلام البشر، وأما وصفه لشرور المنافقين وذمهم فيها فنلخصه فيما يأتي تابعا في العدد لما قبله.
ذكر في استئذان المنافقين، واعتذارهم عن الخروج إلى غزوة تبوك، وبيان ما يكون شأنهم لو خرجوا من ابتغاء الفتنة، والإفساد بين المؤمنين بالتثبيط وغيره، ولم يزد فيها على قوله فيهم {والله عليم بالظالمين} وقوله: {إن جهنم لمحيطة بالكافرين} (راجع الآيات 42 49).
و 13 تعليل عدم قبول نفقاتهم في الآية 53 بفسقهم، وقوله بعده {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} .
و 15 وصفهم -بعد إثبات استهزائهم فيما بينهم بالله وآياته ورسله واعتذارهم عنه بقولهم: {إنما كنا نخوض ونلعب}- بأنهم كفروا بعد إيمانهم، وأنهم كانوا مجرمين، ثم قال بعد ذكر صفاتهم العامة من الآية 67 {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي الخارجون من محيط هداية الدين وسلامه الفطرة.
قوله في لمزهم وعيبهم للمتطوعين من المؤمنين في الصدقات وسخريتهم منهم في الآية 79 {سخر الله منهم ولهم عذاب أليم}، وهذا التعبير يسمى بالمشاكلة، أي عاقبهم بمثل جرمهم، فجعلهم سخرية للمؤمنين بما فضح به نفاقهم الذي كانوا يخفونه.
قوله في تعليل عدم غفران الله لهم {ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة:80]، {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]، وقد نزل هذا في زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول ولكن جعل حكم النهي عاما.
و 19 أشد ما وصفهم به في الآية 95 أنهم رجس، وأنه كلما نزلت سورة من القرآن زادتهم رجسا إلى رجسهم، حتى ماتوا على كفرهم كما في الآية 25، وأنهم عند نزوله ينصرفون من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم عند غفلة المؤمنين عنهم، ثم قال: {صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}، أي صرف الله قلوبهم عن الاهتداء بها بسبب أنهم لا يفقهون ما فيها من البينات والهدى بمقتضى سنته في ارتباط الأسباب بمسبباتها، وهذا آخر ما ذكروا به في هذه السورة من الآية 127.
فأنت ترى أن كل ما وصفوا به بيان لحقيقة حالهم بأنزه تعبير يدل عليه، مقرونا بتلك الأعمال القبيحة والأخلاق السافلة والسرائر التي هي شر منها، وأن المراد بوصفهم التنفير منه، لإعداد من فيه استعداد لقبول الحق بالرجوع إليه، وقد تاب أكثرهم ولله الحمد.
الفصل الثاني: في المنافقين وصفاتهم وأعمالهم وسياسة الإسلام فيهم:
النفاق خلق رديء ووصف خبيث تتلوث به الأنفس الدنيئة الفاسدة الفطرة، فلا يرى أهلها وسيلة إلى مطامعهم في المال ومطامحهم إلى الجاه إلا الكذب والرياء، ولقاء الناس بالوجوه المختلفة، والتصنع والخداع ولين القول، كما قال تعالى فيهم {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4]، وهم يوجدون في كل شعب وكل قبيلة، لا تخلوا منهم بادية ولا حاضرة. والنفاق قسمان: خاص وعام، فالخاص هو الشخصي الذي يحاول صاحبه لقاء كل أحد بما يرضيه عنه ويجيبه إليه، ولاسيما الحكام وأصحاب الجاه والمناصب والثراء الذين يرجى الانتفاع منهم أو يخشى ضرهم، فهو يلبس للصالحين منهم لباس التقوى والصلاح، ويخلع للفساق جلباب الحياء، ويفرغ على المستكبرين حلل الإطراء، وهو أهون المنافقين. وأما النفاق العام فهو ما يكون في الدين والدولة، وخيانة الأمة والملة، وما وجد النفاق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة، لما صار للإسلام قوة ودولة، إذ أسلم أكثر الأنصار بظهور نور هذا الدين القويم لهم، ولم يكن لهم مصلحة دنيوية تحجب هذا النور عن بصائرهم، أو تحملهم على مكابرة الحق وجحوده، ككبراء قريش المغرورين بثروتهم الواسعة، وجاههم في العرب بسدانة البيت الحرام، واستكبارهم على سائر الناس، وإسرافهم في التمتع بالسكر والزنا وأكل الربا والشهوات، فكانوا يرون أن الإسلام يساوي بينهم وبين سائر الناس في جميع الحقوق، ويفضل الفقير المتقي لله تعالى على الغني المسرف في الفسوق، ويقتص للسوقة من الأمراء والملوك، ويحقر المتكبرين، ويكرم المتواضعين، ويزدري الظالمين والفاسقين، فيسلبهم بهذا جميع ما يمتازون به على دهماء الناس. ولهذا كان أكثر من اهتدى به في مكة الفقراء وبعض أصحاب الفطرة السليمة والعقول الحرة من الطبقة الوسطى، وكان أعلاهم فطرة وأزكاهم نفسا أبو بكر الصديق وسائر العشرة الكرام المبشرين بالجنة. آمن بعض الأوس والخزرج أولا بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج، ودعوا قومهم إلى الإسلام بعد عودتهم إلى المدينة، فصادفت دعوتهم رواجا لقوة المقتضى، وهو التوحيد وفضائل الإسلام، فلما كثروا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، إذ عاهده نقباؤهم في منى على نصره ومنعه، "أي حماية والذب عنه" مما يمنعون أنفسهم وأهليهم، ومن المعقول أن يكون نور الإسلام لم يظهر لكل فرد منهم على سواء، وأن يكون منهم من اضطر إلى الدخول فيما دخل فيه قومهم مواتاة لهم، مع عدم وجود نظام لديانتهم الوثنية يرتبط به بعضهم ببعض فيقيمونه ويذبون عنه، فكان منافقو المدينة من هؤلاء وممن حولهم من قبائل الأعراب الذين لم يعقلوا الإسلام كأسد وغطفان. وكان هنالك يهود كثيرون يقيم أكثرهم في حصون لهم بالقرب من المدينة كبني قريظة وبني النضير، وقد عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على حريتهم في دينهم وأنفسهم وأموالهم، ولكنهم كانوا ينقضون عهده، ويظاهرون عليه المشركين كلما جاؤوا لقتاله، بل كانوا يغرونهم ويحرضونهم عليه، فكانوا في إظهار الوفاء بعهده منافقين، وكان لهم أحلاف من عرب المدينة، فحافظ على مودتهم منافقوها بالسر، كما بينا ذلك كله في محله. فكانت سياسة الإسلام في الفريقين أن من أظهر الإسلام يعامل كما يعامل سائر المسلمين، لأن قاعدة الإسلام أن الحكم على الظواهر، وأن الله تعالى وحده هو الذي يحاسب ويعاقب على السرائر، وأن من حافظ على الوفاء بعهده من أهل الكتاب يوفى له، وكان اليهود ينقضون عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم سرا، فإذا ظهر شيء من خيانتهم وغدرهم اعتذروا عنه، حتى إذا ما افتضح أمرهم حاربهم صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عن البلاد، كما ترى في تفسير الآيات 55 58 من سورة الأنفال (ج 10). وقد قص الله علينا في سورة الحشر ما كان بين اليهود والمنافقين من الإخاء والولاء، وأنه لا خير فيه لأحد منهما، على أن اليهود ظاهروا المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن المنافقين لم يفوا لليهود بما وعدوهم به من نصرهم إذا هم أظهروا عداوتهم؛ لأن المنافق القح دون المتدين الكافر همة وشرفا وخلقا. قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [الحشر: 11، 12]. كان سبب معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود وإقراره إياهم على دينهم أن الإسلام دين حرية وعدل، ودعوته قائمة على البرهان والحجة، ولذلك منع المسلمين من أخذ أولادهم الذين تهودوا وانضموا إلى اليهود بالقوة، وأمرهم بأن يخيروهم إذ نزل فيهم قوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} [البقرة: 256]. وقد تقدم أن سبب معاملة المنافقين بظاهر إسلامهم هو أن أمر السرائر لله وحده، فهو الذي يعلمها، وهو الذي يجازي عليها، ولا يباح لحاكم ولا لنبي أن يحكم على إنسان بأنه يسر الكفر في نفسه، ولا أن يتهمه بذلك، ويعاقبه عليه. ولا يثبت الكفر على من ظاهره الإسلام إلا بإقرار صريح منه، أو صدور قول أو فعل يدل عليه دلالة قطعية لا تحتمل التأويل، كتكذيب القرآن، أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو جحود كونه خاتم النبيين لا نبي بعده، والشرك بالله بدعاء غيره، وغير ذلك مما هو مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة لا يقبل فيه تأويل، كجحود فرضية الصلاة والزكاة والصيام والحج، أو استحلال الزنا والربا وشرب الخمر. وأما حكمة ذلك وفائدته فهي أن من يلتزم شعائر الإسلام وأحكامه -ولو بغير إيمان يقيني- فإنه يرجى له بطول العمل أن ينشرح صدره للإيمان ويطمئن به قلبه، ويوقن به عقله، وإلا كانت استفادته وإفادته للأمة دنيوية فقط. فإن قيل: إن مقتضى حرية الدين التي امتاز بها الإسلام في معاملة أهل الكتاب -إذ أقرهم على العمل بدينهم حتى فيما بين لهم أنهم خالفوا فيه ما جاء به رسلهم- أن يسمح للمنافقين بأن يظهروا كفرهم، قلنا: إن الجمع بين إظهار كفرهم وحسبانهم من المسلمين لهم ما لهم من الحقوق، وليس عليهم ما عليهم من الواجبات، تناقض لا يقول به عاقل، ولا يحكم به عادل، ومثلهم فيه كمثل من يسمح له بحقوق الجنسية السياسية الوطنية ولا يطالب بالخضوع لقوانينها، ولا يعاقب على انتهاكها ومخالفة أحكامها، وإنما تكون حرية الدين المعقولة لأهله في دائره محيطه، بأن لا يحاسب أحدهم أحد على عقيدته ووجدانه فيه، ولا اجتهاده في فهمه، إلا من طريق البحث العلمي، وليس منها أن يخالف أصوله القطعية التي لا يكون المسلم مسلما بدونها ويعد مع ذلك مسلما، وإذا ليس لأحد أن يطالب حكومته المتدينة بالسماح له بالخروج على دينها، كما لا يصح له أن يطالبها بالسماح له بالخروج على قوانينها، فتكون حريته هنا متعارضة مع حريتها هي وحرية أمتها. فإن قيل: إن القرآن قد فضح بعض المنافقين في هذه السورة وحكم بكفرهم، ولم ينفذ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أحكام المرتدين عن الإسلام، بل بقي يعاملهم هو وأصحابه معاملة المسلمين، قلنا: إن ما بينه الله تعالى من حال المنافقين إنما كان وصفا لأناس غير معينين بأشخاصهم، إنذارا وزجرا لهم ليعرفوا حقيقة حالهم، ويخشوا سوء مآلهم، عسى أن يتوب المستعدون للتوبة منهم، وقد تاب الكثيرون منهم، بما ظهر لهم من إخبار القرآن عنهم بما لا يعلمه إلا الله تعالى من أمرهم. وكان الذين عرف النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أشخاصهم قليلين جدا، كالذين هموا باغتياله صلى الله عليه وسلم بتشريد راحلته في عقبة في الطريق منصرفهم من تبوك ليطرحوه منها، وقال بعضهم لبعض: لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير. وفيهم نزل {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} [التوبة: 74]، ولما استأمره أصحابه بقتلهم قال: "أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمدا قد وضع يده في أصحابه"، أي في رقابهم بقتلهم، وهذا أكبر منفر عن الإيمان، فإن كثيرا من الناس كان يستحسن هذا الدين ويفضله على ما كانوا عليه من الشرك في أحكامه وآدابه لذاتها، قبل أن تقوم عندهم الحجة على اليقين بكونه وحيا من الله تعالى، فيدخلون فيه، ثم بعد زمن قليل أو كثير من معرفته التفضيلية تطمئن قلوبهم بالإيمان اليقيني، ومنهم من كان يدخل فيه تبعا لأكثر قومه من غير نظر إلى تفضيله لقلة علمه بدعوته، وكل هؤلاء يقبل إسلامهم ويعتد به شرعا، وفيهم نزل قوله تعالى من سورة الحجرات: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} [الحجرات: 14]، ولو سمع أمثال هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم يقتل بعض من اتبعه وصحبه لظهور شيء يدل على عدم إيمانهم في الباطن، أو لإعلام الله تعالى إياه بما في قلوبهم، لنفروا من الإسلام وخافوا عاقبة الدخول فيه. وثم مفسدة أخرى في هذه الإشاعة وهي أن المنافقين والكفار يذيعون فيها ما شاؤوا من التهم الباطلة والإفك المفترى، كزعمهم أنه إنما قتل من ظهر لهم منه ما دلهم على بطلان دينه بعد أن صدقوه وجاهدوا معه. على أن الله تعالى قال فيهم بعد وصفهم بالكفر بالقول وبالهمّ بشر نتائجه من الفعل: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [التوبة:ٍ74] الآية، فليراجع تفسير الآية وما قبلها من الأمر بجهاد الكفار والمنافقين في (ج 10). ويلي هذا في السورة خبر الذي عاهد الله لئن أتاه من فضله ليصدقن (في الآيات 74 77)، وما رووا في سبب نزولها خاصة، وأنه شخص يقال له ثعلبة، وأنه بعد أن نزلت فيه الآيات تاب وأراد أن يؤدي زكاة ماله فلم يقبلها منه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم يقبلها منه أبو بكر الصديق ولا عمر ولا عثمان من بعده، وأنه هلك في خلافة عثمان. وقد بينا في تفسيرها أن في حديث سبب نزولها إشكالات في سنده وفي متنه، فإنه مخالف لأصل الشريعة القطعي المجمع عليه من العمل بالظاهر، فهو باطل قطعا بما فصلوه به تفصيلا. ويقرب منه في المعنى ما روي في الصحاح من نزول قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] وأنه في عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين الأكبر، وقد بينا في تفسيرها ما في الحديث من التعارض مع القرآن فراجعه. ومن المشكل في هذا الباب قصة مسجد الضرار في الآيات (107 110)، فقد بين الله تعالى فيها أنهم اتخذوه لأربعة أغراض منها الكفر، وسائرها أقبح مقاصد أعداء الله ورسوله والمؤمنين. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه فهدم ولم يأمر بقتلهم، وقد شهد الله بكذبهم فيما حلفوا عليه من حسن نيتهم. وسبب ذلك أن الذين بنوه للمقاصد الأربعة المذكورة في الآيات كانوا -كما قال المفسرون- اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج أتباع أبي عامر الراهب الذي وعدهم بأن يتوسل بنصرانيته إلى قيصر الروم في الشام فيرسل معه جندا يكفيهم أمر الرسول ومن اتبعه من المؤمنين، ولكن صدّقهم في ظاهر عملهم وما زعموه من حسن النية فيه كثيرٌ من المؤمنين وشاركوهم وصلوا معهم فيه، وكان التمييز بينهم متعذرا، فصح أن يأتي في الفريقين قوله تعالى في المسلمين المتسخفين من المشركين في مكة عام الحديبية {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} [الفتح: 25]. والسبب الخاص لعدم عقاب أصحاب مسجد الضرار على الكفر الذي أثبته النص الصريح أمران:
أحدهما: أن الآيات في قصتهم قد بدئت بما يحتمل أن يكون ذكرهم فيها معطوفا على الذين أرجأ الله البت في أمرهم، وجعل التوبة عليهم مرجوة، وهو قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106].
والثاني: ختم قصتهم بقوله تعالى: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:110] فيظهر في معنى تقطع قلوبهم احتمال هو أحد الأقوال في تفسيره، وهو تقطعها من الأسف والحزن على ما فرط منهم، ووقوع هذا الاستثناء محتمل، وإذا يكون أقوى الأدلة على توبتهم وأصدقها، ويكفي الاحتمال لمنع الحكم عليهم بالكفر.
وجملة القول في هذا الباب: إن سياسة الإسلام في المنافقين أن يعاملوا بحسب ظواهرهم وما يبدو من أعمالهم، وأن للإمام الأعظم أو عليه ومثله نوابه من أولياء الأمور أن يعرّض في الخطب العامة والتصريحات الرسمية بتقبيح ما يعلم من سوء أعمالهم والإنذار بسوء عواقبها ليعدهم للتوبة منها، أو الحذر من إظهار ما يضمرونه من الشر الذي يترتب عليه العقاب، وتتضمن هذا السياسة الأصول الآتية:
الأصول الثلاثة في حرية الدين، ومعاملة المنافقين:
إن حرية الاعتقاد والوجدان مرعية لا سيطرة عليها للرؤساء الحاكمين، ولا للمعلمين والمرشدين، وإنما لهؤلاء حق في التربية والتعليم، فليس لأحد أن يتهم إنسانا بإضمار الكفر، ولا بنية الخيانة لملته أو دولته، ولا بإرادة السوء لقومه وأمته، ولا أن يعاقبه على ذلك بعقاب بدني ولا مالي، ولا بحرمانه من الحقوق التي يتمتع بها غيره من أفراد الأمة.
إنه ليس لمن يضمر الكفر بالله أو بما جاءت به رسله أن يكون فتنة للناس بإظهار ذلك لهم ودعوتهم إليه، أو الطعن في عقائدهم، أو إظهار ما ينافيها من قول أو عمل، وإن لم يكن دعوة ولا طعنا، فإن فعل ذلك وكان يدعي الإسلام يحكم بارتداده وخروجه من الملة، إن كان ما أظهره من الكفر صريحا قطعيا مجمعا عليه لا يحتمل التأويل، ويترتب عليه ما هو مقرر في الشرع من استتابته وعقابه إن لم يثب، (ومنه منع التوارث بينه وبين المسلمين، وفسخ نكاحه بالمسلمات، وعدم تشييع جنازته والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين)؛ لأن حرية كل واحد في اعتقاده تقف عند حد حرية غيره، ولاسيما احترام عقائد الملة التي يعيش في ظل شريعتها، وسائر شعائرها وعبادتها. وليعلم القارئ أن كثيرا من الفقهاء قد أسرفوا في أبواب الردة في المسائل التي يحكم فيها بالكفر المخرج من الملة، وبنوا كثيرا منه على اللوازم البعيدة، والمحتملة للتأويلات القريبة، وما ورد في صفات المنافقين في هذه السورة حجة عليهم، وإن قال بعض العلماء المتقدمين: إن ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم نفاقا لا ينافي ظاهر الإسلام هو الآن كفر محض لا تقبل معه دعوى الإيمان، فهذا قول باطل، فكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما الحجة في الدين، والاهتداء بهما هو الواجب إلى يوم الدين، فيجب قبول قول كل من أظهر الإسلام ولم يصرح بما ينافيه بما لا يحتمل التأويل، ومما يحتمل التأويل احتمالا ظاهرا جميع المباحث العلمية المخالفة لظواهر النصوص كما هو مقرر في الأصول.
إن من ظهر منه شيء من أمارات النفاق العملي في الدين، أو الخيانة للأمة والملة بما هو غير صحيح، مما لا يعاقب عليه في الشرع بحد ولا تعزير، فلولي الأمر أن يعظه بالتعريض، ثم بالتصريح والتكشيف، وله أن يعاقبه بما يرجى أن يزعه عن غيه من التأديب، كالحرمان من مظاهر التشريف، أو الازورار والتقطيب، أو التأنيب والتعنيف، كما بيناه في تفسير {جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم} [التوبة: 73]، ومنه حرمان النبي صلى الله عليه وسلم للذين تخلفوا عن غزوة تبوك من الخروج معه إلى غزوة أخرى يقول الله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} [التوبة: 83] الآية، ولكن الملوك المستبدين يقربون إليهم المنافقين فيزيدونهم فسادا، ويُجرِّؤون غيرهم؛ بل يرغبونه في النفاق وخيانة الأمة جهارا، حتى إن المناصب الدينية المحضة صارت تنال بالنفاق، ويذاد عنها أهل الصدق والإخلاص، وإلى الله المشتكي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى بيان ما فتح الله به علينا من خلاصة هذه السورة...