قوله تعالى : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } قرأ العامة بضم الجيم ، وقرأ أبو جعفر بفتح الجيم ، وهما لغتان ، وهي جمع الحجر ، والحجر جمع الحجرة فهي جمع الجمع . قال ابن عباس : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري ، فلما علموا أنه توجه نحوهم هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة بن حصن وقدم بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري ، فقدموا وقت الظهيرة ، ووافقوا النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً في أهله ، فلما رأتهم الذراري اجهشوا إلى آبائهم يبكون ، وكان لكل امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم حجرة ، فعجلوا قبل أن يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا ينادون : يا محمد اخرج إلينا ويصيحون حتى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم فقالوا : يا محمد نادنا عيالنا ، فنزل جبريل عليه السلام فقال : إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو ، وهو على دينكم ؟ فقالوا : نعم ، فقال سبرة : أني لا أحكم بينكم ، وعمي شاهد ، وهو الأعور بن بشامة ، فرضوا به ، فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد رضيت ، ففادى نصفهم وأعتق نصفهم ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } وصفهم بالجهل وقلة العقل .
ثم أشار إلى حادث وقع من وفد بني تميم حين قدموا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في العام التاسع . الذي سمي " عام الوفود " . . لمجيء وفود العرب من كل مكان بعد فتح مكة ، ودخولهم في الإسلام ، وكانوا أعرابا جفاة ، فنادوا من وراء حجرات أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] المطلة على المسجد النبوي الشريف : يا محمد . اخرج لنا . فكره النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هذه الجفوة وهذا الإزعاج . فنزل قوله تعالى :
( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ، والله غفور رحيم ) . .
فوصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون . وكره إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وحرمة رسول الله القائد والمربي .
{ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } من خارجها خلفها أو قدامها ، ومن ابتدائية فإن المناداة نشأت من جهة الوراء ، وفائدتها الدلالة على أن المنادي داخل الحجرة إذ لا بد وأن يختلف المبتدأ والمنتهى بالجهة ، وقرئ " الحجرات " بفتح الجيم ، وسكونها وثلاثتها جمع حجرة وهي القطعة من الأرض المحجورة بحائط ، ولذلك يقال لحظيرة الإبل حجرة . وهي فعلة بمعنى مفعول كالغرفة والقبضة ، والمراد حجرات نساء النبي عليه الصلاة والسلام وفيها كناية عن خلوته بالنساء ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها ، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له ، فأسند فعل الأبعاض إلى الكل . وقيل إن الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد اخرج إلينا ، وإنما أسند إلى جميعهم لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به ، أو لأنه وجد فيما بينهم . { أكثرهم لا يعقلون } إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة سيما لمن كان بهذا المنصب .
قوله تعالى : { إن الذين ينادونك } إلى قوله { رحيم } نزلت في وفد بني تميم حيث كان الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وغيرهم ، وذلك أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي تسعة ، فجعلوا ولم ينتظروا ، فنادوا بجملتهم : يا محمد اخرج إلينا يا محمد اخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير ، فتربص رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم ، فقال له الأقرع بن حابس : يا محمد ، إن مدحي زين وذمي شين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ويلك ، ذلك الله تعالى » واجتمع الناس في المسجد ، فقام خطيبهم وفخر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس فخطب وذكر الله والإسلام ، فأربى على خطيبهم ، ثم قام شاعرهم فأنشد مفتخراً ، فقام حسان بن ثابت ففخر بالله وبالرسول وبالبسالة ، فكان أشعر من شاعرهم ، فقال بعضهم لبعض : والله إن هذا الرجل لمؤتى له ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا ، ثم نزلت فيهم هذه الآية{[10451]} .
هذا تلخيص ما تظاهرت به الروايات في هذه الآية ، وقد رواه موسى بن عقبة عن أبي سلمة عن الأقرع بن حابس ، وفي مصحف ابن مسعود : «أكثرهم بنو تميم لا يعقلون » ، و : { الحجرات } : جمع حجرة .
وقرأ جمهور القراء : «الحُجُرات » بضم الحاء والجيم ، وقرأ أبو جعفر القاري وحده : «الحُجَرات » بضم الحاء وفتح الجيم .
هذه الجملة بيان لجملة { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } [ الحجرات : 2 ] بياناً بالمثال وهو سبب النزول . فهذا شروع في الغرض والذي نشأ عنه ما أوجب نزول صدر السورة فافتتح به لأن التحذير والوعد اللذين جعلا لأجله صالحان لأن يكونا مقدمة للمقصود فحصل بذلك نسج بديع وإيجاز جليل وإن خالف ترتيب ذكره ترتيبَ حصوله في الخارج ، وقد صادف هذا الترتيب المحز أيضاً إذ كان نداؤهم من وراء الحجرات من قبيل الجهر للرسول صلى الله عليه وسلم بالقول كجهر بعضهم لبعض فكان النهي عن الجهر له بالقول تخلصاً لذكر ندائه من وراء الحجرات .
والمراد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات جماعة من وفد بني تميم جاؤوا المدينة في سنة تسع وهي سنة الوفود وكانوا سبعين رجلاً أو أكثر . وكان سبب وفود هذا الوفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن بني العنبر منهم كانوا قد شهروا السلاح على خزاعة ، وقيل كانوا منعوا إخوانهم بني كعب بن العنبر بن عمرو بن تميم من إعطاء الزكاة ، وكان بنو كعب قد أسلموامن قبلُ ولم أقف على وقت إسلامهم ، والظاهر أنهم أسلموا في سنة الوفود فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بن سفيان ساعياً لقبض صدقات بني كعب ، فمنعهم بنو العنبر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عُيينة بنَ حصن في خمسين من العرب ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلاً وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبياً . فجاء في أثرهم جماعة من رؤسائهم لفدائهم فجاؤوا المدينة . وكان خطيبهم عطارد بن حاجب بن زراره ، وفيهم سادتهم الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، والأقْرع بن حابس ، ومعهم عيينة بن حصن الفزاري الغَطفاني وكان هذان الأخيران أسلما من قبل وشهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، ثم جاء معهم الوفد فلما دخل الوفد المسجد وكان وقت القائلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في حجرته ، نَادوا جميعاً وراء الحجرات : يا محمد اخرُج إلينا ثلاثاً ، فإن مَدحَنا زَين ، وإن ذمنا شَيْن ، نحن أكرم العرب سلكوا في عملهم هذا مسلك وفود العرب على الملوك والسادة ، كانوا يأتون بيت الملك أو السيد فيطيفون به يُنادون ليؤذن لهم كما ورد في قصة ورود النابغة على النعمان بن الحارث الغسَاني .
وقولهم : إن مدحنا زيْن ، طريقة كانوا يستدرون بها العظماء للعطاء فإضافة : مدحنا وذمنا إلى الضمير من إضافة المصدر إلى فاعله . فلما خرج إليهم رسول الله قالوا : جئناك نفاخرك فَاذَنْ لشاعرنا وخطِيبنا إلى آخر القصة . وقولهم : نفاخرك ، جروا فيه على عادة الوفود من العرب أن يذكروا مفاخرهم وأيامهم ، ويذكرَ الموفُودُ عليهم مفاخرَهم ، وذلك معنى صيغة المفاعلة في قولهم : نفاخرك ، وكان جمهورهم لم يزالوا كفاراً حينئذٍ وإنما أسلموا بعد أن تفاخروا وتناشدوا الأشعار .
فالمراد ب { الذين ينادونك } رجال هذا الوفد . وإسناد فعل النداء إلى ضمير { الذين } لأن جميعهم نادوه ، كما قال ابن عطية . ووقع في حديث البراء بن عازب أن الذي نادى النداء هو الأقرع بن حابس ، وعليه فإسناد فعل { ينادونك } إلى ضمير الجماعة مجاز عقلي عن نسبة فعل المتبوع إلى أتباعه إذ كان الأقرع بن حابس مقدَّم الوفد ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً . وإنما قتله واحد منهم ، قال تعالى : { وإذ قتلتم نفساً } [ البقرة : 72 ] .
ونفي العقل عنهم مراد به عقل التأدب الواجب في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أو عقل التأدب المفعول عنه في عادتهم التي اعتادوها في الجاهلية من الجفاء والغلظة والعنجهية ، وليس فيها تحريم ولا ترتب ذنب . وإنما قال الله تعالى : { أكثرهم لا يعقلون } لأن منهم من لم يناد النبي صلى الله عليه وسلم مثلَ ندائهم ، ولعل المقصود استثناء اللذيْن كانا أسلما من قبل . فهذه الآية تأديب لهم وإخراج لهم من مذام أهل الجاهلية .
والوراء : الخلف ، وهو جهة اعتبارية بحسب موقع ما يضاف إليه .
والمعنى : أن الحجرات حاجزة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يرونه فعبر عن جهة من لا يرى بأنها وراء .
و { من } للابتداء ، أي ينادونك نداء صادراً من وراء الحجرات فالمنادون بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وراء حجراته فالذي يقول : ناداني فلان وراء الدار ، لا يريد وراء مفتح الدار ولا وراء ظهرها ولكن أيَّ جهة منها وكان القوم المنادون في المسجد فهم تجاه الحجرات النبوية ، ولو قال : ناداني فلان وراء الدار ، دون حرف { مِن } ، لكان محتمِلاً لأن يكون المنادي والمنادَى كلاهما في جهة وراء الدار ، وأنَّ المجرور ظرف مستقر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ولهذا أوثر جلب { مِن } ليدل بالصراحة على أن المنادَى كان داخل الحجرات لأن دلالة { مِن } على الابتداء تستلزم اختلافاً بين المبدإ والمنتهَى كذا أشار في « الكشاف » ، ولا شك أنه يعني أن اجتلاب حرف { مِن } لدفع اللبس فلا ينافي أنه لم يُثبت هذا الفرق في قوله تعالى : { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم } في سورة الأعراف ( 17 ) وقوله : { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض } في سورة الروم ( 25 ) . وفيما ذكرنا ما يدفع الاعتراضات على صاحب « الكشاف » .
فلفظ { وراء } هنا مجاز في الجهة المحجوبة عن الرؤية .
والحُجُرات ، بضمتين ويجوز فتح الجيم : جمع حُجْرة بضم الحاء وسكون الجيم وهي البقعة المحجورة ، أي التي منعت من أن يستعملها غير حاجرها فهي فُعلة بمعنى مفعولة كغُرفة ، وقُبضة . وفي الحديث : أيقظوا صواحب الحجر يعني أزواجه ، وكانت الحجرات تفتح إلى المسجد .
وقرأ الجمهور { الحجرات } بضمتين . وقرأه أبو جعفر بضم الحاء وفتح الجيم .
وكانت الحجرات تِسعاً وهي من جريد النخل ، أي الحواجز التي بين كل واحدة والأخرى ، وعلى أبوابها مُسوح من شعر أسود وعَرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحو سبعة أذرع ، ومساحة البيت الداخل ، أي الذي في داخل الحجرة عشرة أذرع ، أي فتصير مساحة الحجرة مع البيت سبعة عشر ذراعاً . قال الحسن البصري : كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سُقْفها بيدي . وإنما ذكر الحجرات دون البيوت لأن البيت كان بيتاً واحداً مقسماً إلى حجرات تسع .
وتعريف { الحجرات } باللام تعريف العهد ، لأن قوله : { ينادونك } مؤذن بأن الحجرات حجراته فلذلك لم تعرف بالإضافة . وهذا النداء وقع قبل نزول الآية فالتعبير بصيغة المضارع في { ينادونك } لاستحضار حالة ندائهم .