الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (4)

قوله تعالى : " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " قال مجاهد وغيره : نزلت في أعراب بني تميم ، قدم الوفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا ، فإن مدحنا زين وذمنا شين . وكانوا سبعين رجلا قدموا الفداء ذراري لهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نام للقائلة . وروي أن الذي نادي الأقرع بن حابس ، وأنه القائل : إن مدحي زين وإن ذمي شين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ ذاك الله ] . ذكره الترمذي عن البراء بن عازب أيضا . وروى زيد بن أرقم فقال : أتى أناس النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس باتباعه ، وإن يكن ملكا نعش في جنابه{[14063]} . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته : يا محمد ، يا محمد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . قيل : إنهم كانوا من بني تميم . قال مقاتل كانوا تسعة عشر : قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وسويد بن هاشم ، وخالد بن مالك ، وعطاء بن حابس ، والقعقاع بن معبد ، ووكيع بن وكيع ، وعيينة بن حصن وهو الأحمق المطاع ، وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة ، أي يتبعه ، وكان اسمه حذيفة وسمي عيينة لشتر{[14064]} كان في عينيه ذكر عبد الرزاق في عيينة هذا : أنه الذي نزل فيه " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " {[14065]} [ الكهف : 28 ] . وقد مضى في آخر " الأعراف " من قول لعمر رضي الله عنه ما فيه كفاية{[14066]} ، ذكره البخاري . وروي أنهم وفدوا وقت الظهيرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم راقد ، فجعلوا ينادونه : يا محمد يا محمد ، أخرج إلينا ، فاستيقظ وخرج ، ونزلت . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : [ هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم ] . والحجرات جمع الحجرة ، كالغرفات جمع غرفة ، والظلمات جمع ظلمة . وقيل : الحجرات جمع الحجر ، والحجر جمع حجرة ، فهو جمع الجمع . وفيه لغتان : ضم الجيم وفتحها{[14067]} . قال :

ولما رأونا باديًا رُكَبَاتنا *** على موطن لا نخلط الجِدَّ بالهَزْلِ

والحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها . وحظيرة الإبل تسمى الحجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " الحجرات " بفتح الجيم استثقالا للضمتين . وقرئ " الحجرات " بسكون الجيم تخفيفا . وأصل الكلمة المنع . وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه . ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضا من الجملة فلهذا قال : " أكثرهم لا يعقلون " أي إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل .


[14063]:في الطبري:" في جناحه".
[14064]:الشتر(بفتحتين): انقلاب في جفن العين.
[14065]:آية 28 سورة الكهف.
[14066]:راجع ج 7 ص 347.
[14067]:وفيه لغة ثالثة: سكون الجيم.