فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (4)

{ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } هم جفاة بني تميم ، كما سيأتي بيانه ، ووراء الحجرات خارجها وخلفها ، أو قدامها ، والحجرات جمع حجرة كالغرفات جمع غرفة ، والظلمات جمع ظلمة ، وقيل جمع حجر والحجر جمع حجرة فهو جمع الجمع ، والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، قرأ الجمهور الحجرات بضم الجيم ، وقرئ بفتحها تخفيفا وقرئ بإسكانها ، وهي لغات ومناداتهم من وراء الحجرات إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها ، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له ، فنادى كل واحد على حجرة و ( من ) في ( من وراء ) لابتداء الغاية ، ولا وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى .

{ أكثرهم لا يعقلون } لغلبة الجهل عليهم ، وكثرة الجفاء في طباعهم ، والمراد بالأكثر الكل ، لأن العرب قد تفعل هكذا .

عن الأقرع بن حابس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا محمد أخرج إلينا فلم يجبه فقال : يا محمد إن حمدي زين ، وإن ذمي شين ، فقال : ذلك الله ، ، فأنزل الله { إن الذين } الخ " {[1520]} أخرجه أحمد وابن جرير والبغوي والطبراني وابن مردويه ، قال السيوطي بسند صحيح ، قال ابن منيع : لا أعلم روى الأقرع مسندا غير هذا .

وعن البراء بن عازب في الآية ، قال : جاء رجل فقال يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ذاك الله أخرجه الترمذي وحسنه .

وعن زيد بن أرقم قال : " اجتمع ناس من العرب فقالوا : انطلقوا إلى هذا الرجل ، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكا نعش بجناحه ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا فجاؤوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه : يا محمد فأنزل الله هذه الآية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإدني وجعل يقول لقد صدق الله قولك يا زيد " أخرجه ابن راهويه ؛ ومسدد وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه قال السيوطي :بإسناد حسن ، وفي الباب أحاديث .

قال النسفي : وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منها التسجيل على الصائحين به السفه والجهل ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ، ومقيله مع بعض نسائه ومنها التعريف باللام دون الإضافة .

ولو تأمل متأمل من أول هذه السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك ، فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد ، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر . كأن الأول بساط للثاني ، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظم موقعه عند الله ، ثم عقبه بما هو أطم ، وهجنته أتم ، من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدرا لينبه على فظاعة ما جسروا عليه لأن من رفع الله_ قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغا انتهى .


[1520]:رواه أحمد.