مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (4)

قوله تعالى : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون }

بيانا لحال من كان في مقابلة من تقدم فإن الأول غض صوته والآخر رفعه ، وفيه إشارة إلى أنه ترك لأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة عليه ، وأما قول القائل للملك يا فلان من سوء الأدب ، فإن قلت كل أحد يقول يا الله مع أن الله أكبر ، نقول النداء على قسمين ( أحدهما ) لتنبيه المنادى ( وثانيهما ) لإظهار حاجة المنادي مثال ( الأول ) قول القائل لرفيقه أو غلامه : يا فلان ومثال ( الثاني ) قول القائل في الندبة : يا أمير المؤمناه أو يا زيداه ، ولقائل أن يقول : إن كان زيد بالمشرق لا تنبيه فإنه محال ، فكيف يناديه وهو ميت ؟ فنقول قولنا يا الله لإظهار حاجة الأنفس لا لتنبيه المنادى ، وإنما كان في النداء الأمران جميعا لأن المنادي لا ينادي إلا لحاجة في نفسه يعرضها ولا ينادي في الأكثر إلا معرضا أو غافلا ، فحصل في النداء الأمران ونداؤهم كان للتنبيه وهو سوء أدب وأما قول أحدنا للكبير يا سيدي ويا مولاي فهو جار مجرى الوصف والإخبار ( الثاني ) النداء من وراء الحجرات فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المشي والمجيء بل يجيبه من مكانه ويكلمه ولا يطلب المنادي إلا لالتفات المنادى إليه ومن ينادي غيره من وراء الحائل فكأنه يريد منه حضوره كمن ينادي صاحب البستان من خارج البستان ( الثالث ) قوله { الحجرات } إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خلوته التي لا يحسن في الأدب إتيان المحتاج إليه في حاجته في ذلك الوقت ، بل الأحسن التأخير وإن كان في ورطة الحاجة ، وقوله تعالى : { أكثرهم لا يعقلون } فيه بيان المعايب بقدر ما في سوء أدبهم من القبائح ، وذلك لأن الكلام من خواص الإنسان ، وهو أعلى مرتبة من غيره ، وليس لمن دونه كلام ، لكن النداء في المعنى كالتنبيه ، وقد يحصل بصوت ، يضرب شيء على شي وفي الحيوانات العجم ما يظهر لكل أحد كالنداء ، فإن الشاة تصيح وتطلب ولدها وكذلك غيرها من الحيوانات ، والسخلة كذلك فكأن النداء حصل في المعنى لغير الآدمي ، فقال الله تعالى في حقهم { أكثرهم لا يعقلون } يعني النداء الصادر منهم لما لم يكن مقرونا بحسن الأدب كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل وكان نداؤهم كصياح صدر من بعض الحيوان ، وقوله تعالى : { أكثرهم } فيه وجهان ( أحدهما ) أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل ، وإنما تأتي بالأكثر احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام ، لأن الكذب مما يحبط به عمل الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل ، ثم إن الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم ، وفيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله تعالى يقول : أنا مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحسانا لتلك العادة وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها ، واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا قاطعا على رضائي بذلك ( وثانيهما ) أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون ، وتحقيق هذا هو أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني ، مثاله الإنسان يكون جاهلا وفقيرا فيصير عالما وغنيا فيقال في العرف زيد ليس هو الذي رأيته من قبل بل الآن على أحسن حال ، فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ما ذكرنا . إذا علم هذا فهم ، في بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة ، مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها فقال تعالى : { أكثرهم } إشارة إلى ما ذكرناه ، وفيه وجه ثالث وهو أن يقال لعل منهم من رجع عن تلك الأهواء ، ومنهم من استمر على تلك العادة الرديئة فقال أكثرهم إخراجا لمن ندم منهم عنهم .