البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (4)

{ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } : نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم وغيرهم .

وفدوا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة ، والرسول صلى الله عليه وسلم راقد ، فجعلوا ينادونه بجملتهم : يا محمد ، أخرج إلينا .

فاستيقظ فخرج ، فقال له الأقرع بن حابس : يا محمد ، إن مدحي زين وذمي شين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ويلك ذلك الله تعالى » .

فاجتمع الناس في المسجد فقالوا : نحن بني تميم بخطيبنا وشاعرنا ، نشاعرك ونفاخرك ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا » .

فقال الزبرقان لشاب منهم : فخروا ذكر فضل قومك ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه ، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ، من أكثرهم عدداً ومالاً وسلاحاً ، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا ، وفعل هو أحسن من فعلنا .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيبه : «قم فأجبه » ، فقال : «الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً فأجابوه ، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزاً لدينه ، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا أله إلا الله ، فمن قالها منع نفسه وماله ، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هيناً ، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات » .

وقال الزبرقان لشاب : قم فقل أبياتاً تذكر فيها فضل قومك ، فقال :

نحن الكرام فلا حي يعادلنا *** فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع

ونطعم النفس عند القحط كلهم *** من السيف إذا لم يؤنس الفزع

إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد *** إنا كذلك عند الفخر نرتفع

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا حسان بن ثابت ، فقال له : «أعدلي قولك فأسمعه » ، فأجابه :

إن الذوائب من فهر وإخوتهم *** قد شرعوا سنة للناس تتبع

يوصي بها كل من كانت سريرته *** تقوى الإله فكل الخير يطلع

ثم قال حسان في أبيات :

نصرنا رسول الله والدين عنوة *** على رغم غاب من معد وحاضر

بضرب كأنواع المخاض مشاشة *** وطعن كأفواه اللقاح المصادر

وسل أحداً يوم استقلت جموعهم *** بضرب لنا مثل الليوث الخوادر

ألسنا نخوض الموت في حومة الوغا *** إذا طاب ورد الموت بين العساكر

فنضرب هاماً بالذراعين ننتمي *** إلى حسب من جذع غسان زاهر

فلولا حياء الله قلنا تكرماً *** على الناس بالحقين هل من منافر

فأحياؤنا من خير من وطىء الحصا *** وأمواتنا من خير أهل المقابر

قال : فقام الأقرع بن حابس فقال : إني والله لقد جئت لأمر ، وقد قلت شعراً فاسمعه ، وقال :

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا *** إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وإنا رؤوس الناس في كل غارة *** تكون بنجد أو بأرض التهائم

وإن لنا المرباع في كل معشر *** وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان : «قم فأجبه » ، فقام وقال :

بني درام لا تفخروا إن فخركم *** يصير وبالاً عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم *** لنا خول من بين ظئر وخادم

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لقد كنت غنياً يا أخا دارم أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد لتنوه » .

فكان قوله عليه الصلاة والسلام أشد عليهم من جميع ما قاله حسان ، ثم رجع حسان إلى شعره فقال :

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم *** وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا الله نداً وأسلموا *** ولا تفخروا عند النبي بدارم

وإلا ورب البيت قد مالت القنا *** على هامكم بالمرهفات الصوارم

فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولاً ، وتكلم شاعرنا ، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ، ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما يضرك ما كان قبل هذا » ، ثم أعطاهم وكساهم .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب ، والله قد أمر بتوقير رسوله وتعظيمه .

والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام ، ومن لابتداء الغاية ، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان .

وقال الزمخشري : فإن قلت : أفرق بين الكلامين ، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه .

قلت : الفرق بينهما : أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء ، وفي الثاني لا يجوز ، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية ، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد .

والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار ، لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من أقطارها ، كان مطلقاً بغير تعين ولا اختصاص .

انتهى .

وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد ، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما .

وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم : أخذت الدرهم من زيد ، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً .

قالوا : فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع ، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً .

وهذه المناداة التي أنكرت ، ليس إنكارها لكونها وقعت في إدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج ، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير ، كما ينادي بعضهم بعضاً .

والحجرات : منازل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت تسعة .

والحجرة : الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها .

وحظيرة الإبل تسمى حجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة .

وقرأ الجمهور : الحجرات ، بضم الجيم اتباعاً للضمة قبلها ؛ وأبو جعفر ، وشيبة : بفتحها ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها ، وهي لغى ثلاث ، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو .

والظاهر أن من صدر منه النداء كانوا جماعة .

وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، فإن صح ذلك ، كان الإسناد إلى الجماعة ، لأنهم راضون بذلك ؛ وإذا كانوا جماعة ، احتمل أن يكونوا تفرقوا ، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة ، وبعض من وراء هذه ، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة ، أو كانت الحجرة واحدة ، وهي التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجمعت إجلالاً له ؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلاً .

وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم . انتهى .

وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقاً به ، فيحتمل النفي ، وإنما هو مفهوم من قوله : { أكثرهم لا يعقلون } .

والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل ، لا من المفهوم ، فلا يحمل قوله : { ولكن أكثرهم لا يشكرون } النفي المحض للشكر ، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل .

وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل .

وابتدأ أول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها ، ثم على ما نهى عنه من التقديم بالنهي عن رفع الصوت والجهر ، فكان الأول بساطاً للثاني ، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك ، فغضوا أصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى .

ثم جيء على عقبه بما هو أفظع ، وهو الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار ، كما يصاح بأهون الناس ، ليلبيه على فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش .

ومن هذا وأمثاله تقتبس محاسن الآداب .

كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه .