قوله تعالى : { وكيف تأخذونه } . على طريق الاستعظام .
قوله تعالى : { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } . أراد به المجامعة ولكن الله حيي يكني ، وأصل الإفضاء الوصول إلى الشيء من غير واسطة .
قوله تعالى : { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } . قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة : وهو قول الولي عند العقد : زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان . وقال الشعبي وعكرمة : هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله تعالى ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى ) .
ومن ثم لمسة وجدانية عميقة ، وظل من ظلال الحياة الزوجية وريف ، في تعبير موح عجيب :
( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقا غليظا ؟ ) . .
ويدع الفعل : " أفضى " بلا مفعول محدد . يدع اللفظ مطلقا ، يشع كل معانيه ، ويلقي كل ظلاله ، ويسكب كل إيحاءاته . ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته . بل يشمل العواطف والمشاعر ، والوجدانات والتصورات ، والأسرار والهموم ، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب . يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة إناء الليل وأطراف النهار ، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان . . وفي كل اختلاجة حب إفضاء . وفي كل نظرة ود إفضاء . وفي كل لمسة جسم إفضاء ، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء . وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء . وفي كل شوق إلى خلف إفضاء . وفي كل التقاء في وليد إفضاء . .
كل هذا الحشد من التصورات والظلال والانداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب : ( وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) . . فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ، ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع ، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي ، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف !
ثم يضم إلى ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملا آخر ، من لون آخر :
( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) . .
هو ميثاق النكاح ، باسم الله ، وعلى سنة الله . . وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن ؛ وهو يخاطب الذين آمنوا ، ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ .
أي : وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضَتْ إليك .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وغير واحد : يعني بذلك الجماع .
وقد ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما : " الله يعلم أن أحدكما كاذب . فهل منكما تائب " ثلاثًا . فقال الرجل : يا رسول الله ، مالي - يعني : ما أصدقها{[6878]} - قال : " لا مال لك إن كنت صدَقْت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها{[6879]} .
وفي سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم{[6880]} أنه تزوج امرأة بكرًا في خدرها ، فإذا هي حامل{[6881]} من الزنا ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقضى لها بالصداق وفرَق بينهما ، وأمر بجلدها ، وقال : " الولد عبد لك " {[6882]} .
فالصداق في مقابلة البُضْع ، ولهذا قال تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }
وقوله : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } روي عن ابن عباس ومجاهد ، وسعيد بن جبير : أن المراد بذلك العَقْد .
وقال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا [ غَلِيظًا ]{[6883]} } قال : قوله : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، ومجاهد ، وأبي العالية ، والحسن ، وقتادة ، ويحيى بن أبي كثير ، والضحاك والسدي - نحو ذلك .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس في الآية{[6884]} هو قوله : أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فإن " كلمة الله " هي التشهد في الخطبة . قال : وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به قال له : جعلت أمتك لا تجوز لهم خُطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي . رواه ابن أبي حاتم .
وفي صحيح مسلم ، عن جابر في خُطبة حِجة الوداع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها : " واستوصوا بالنساء خيرًا ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فُروجهن بِكَلِمَة الله " {[6885]} .
{ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } إنكار لاسترداد المهر والحال أنه وصل إليها بالملامسة ودخل بها وتقرر المهر . { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } عهدا وثيقا ، وهو حق الصحبة والممازحة ، أو ما أوثق الله عليهم في شأنهن بقوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } أو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله .
ثم وعظ تعالى عباده مذكراً لهم بالمودة التي بين الزوجين الموجبة لحياطة مال المرأة ، إذ قد أخذ منها العوض عما أعطيته ، { وكيف } في موضع نصب على الحال و { أفضى } معناه : باشر وجاوز أقصى المجاوزة ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
بِلىً وَثَأىً أفْضَى إلى كُلّ كتْبَةٍ . . . بَدا سَيْرُهَا مِنْ ظَاهِرٍ بَعْدَ بَاطِنِ{[3919]}
وفي المثل :_ الناس فوضى فضاً_أي مختلطون يباشر أمر بعضهم بعضاً{[3920]} وتقول أفضَتْ الحال إلى كذا أي صارت إليه ، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم : الإفضاء في هذه الآية الجماع ، قال ابن عباس : ولكن الله كريم يكني ، واختلف الناس في المراد بالميثاق الغليظ ، فقال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم : وهو قوله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] وقال مجاهد وابن زيد : الميثاق الغليظ عقدة النكاح ، وقول الرجل : نكحت وملكت النكاح ونحوه ، فهذه التي بها تستحل الفروج ، وقال عكرمة والربيع : الميثاق الغليظ يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( استوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلام الله ){[3921]} ، وقال قوم : الميثاق الغليظ الولد ، ومن شاذ الأقوال في هذه الآية ، أن بكر بن عبد الله المزني قال : لا يجوز أن يؤخذ من المختلعة قليل ولا كثير ، وإن كانت هي المريدة للطلاقة ، ومنها أن ابن زيد قال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله }{[3922]} قال القاضي أبو محمد : وليس في شيء من هذه الآيات ناسخ ولا منسوخ ، وكلها ينبني بعضها مع بعض .