قوله : { وشروه } أي : باعوه ، { بثمن بخس } ، قال الضحاك ، ومقاتل ، والسدي : حرام لأن ثمن الحر حرام ، وسمي الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة . وعن ابن عباس وابن مسعود : بخس أي زيوف . وقال عكرمة والشعبي : بثمن قليل . { دراهم } ، بدل من الثمن ، { معدودة } ، لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان أقل من أربعين درهما إنما كانوا يعدونها عدا ، فإذا بلغت أوقية وزنوها . واختلفوا في عدد تلك الدراهم : فقال ابن عباس وابن مسعود وقتادة : عشرون درهما ، فاقتسموها درهمين درهمين . وقال مجاهد : اثنان وعشرون درهما . وقال عكرمة : أربعون درهما .
قوله تعالى : { وكانوا } ، يعني : إخوة يوسف ، { فيه } ، أي : في يوسف { من الزاهدين } لأنهم لم يعلموا منزلته عند الله . وقيل : كانوا في الثمن من الزاهدين ، لأنهم لم يكن قصدهم تحصيل الثمن ، إنما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه . ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف ، فتبعهم إخوته يقولون : استوثقوا منه لا يأبق ، قال : فذهبوا به حتى قدموا مصر ، وعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير قاله ابن عباس . وقيل : إظفير صاحب أمر الملك ، وكان على خزائن مصر يسمى العزيز ، وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها الريان بن الوليد بن شروان من العمالقة . وقيل : إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ، ثم مات ويوسف حي . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما دخلوا تلقى قطفير مالك بن ذعر فابتاع منه يوسف بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين أبيضين . وقال وهب بن منيه : قدمت السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع ، فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا وحريرا ، وكان وزنه أربعمائة رطل ، وهو ابن ثلاث عشرة سنة فابتاعه قطفير من مالك بن ذعر بهذا الثمن .
وقوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } يقول تعالى : وباعه إخوته بثمن قليل ، قاله مجاهد وعِكْرِمة .
والبخس : هو النقص ، كما{[15096]} قال تعالى : { فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا } [ الجن : 13 ] أي : اعتاض عنه إخوته بثمن دُونٍ قليل ، وكانوا مع ذلك فيه من الزاهدين ، أي : ليس لهم رغبة فيه ، بل لو سألوه{[15097]} بلا شيء لأجابوا .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : إن الضمير في قوله : { وَشَرَوْهُ } عائد على إخوة يوسف .
وقال قتادة : بل هو عائد على السيارة .
والأول أقوى ؛ لأن قوله : { وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } إنما أراد إخوته ، لا أولئك السيارة ؛ لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة ، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه ، فيرجح من هذا أن الضمير في { وَشَرَوْهُ } إنما هو لإخوته .
وقيل : المراد بقوله : { بَخْسٍ } الحرام . وقيل : الظلم . وهذا وإن كان كذلك ، لكن ليس هو المراد هنا ؛ لأن هذا معلوم يعرفه كل أحد أن ثمنه حرام على كل حال ، وعلى كل أحد ، لأنه نبي ابن نبي ، ابن نبي ، ابن خليل الرحمن ، فهو الكريم ، ابن الكريم ، ابن الكريم ، ابن الكريم ، وإنما المراد هنا بالبخس الناقص أو الزيوف أو كلاهما ، أي : إنهم إخوته ، وقد باعوه ومع هذا بأنقص الأثمان ؛ ولهذا قال : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } فعن ابن مسعود باعوه بعشرين درهما ، وكذا قال ابن عباس ، ونَوْف البَكَالي ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وعطية العَوْفي وزاد : اقتسموها درهمين درهمين .
وقال مجاهد : اثنان وعشرون درهما .
وقال محمد بن إسحاق وعِكْرِمة : أربعون درهمًا .
وقال الضحاك في قوله : { وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } وذلك أنهم لم يعلموا نبوته
وقال مجاهد : لما باعوه جعلوا يتبعونهم ويقولون لهم : استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر ، فقال : من يبتاعني وليبشر ؟ فاشتراه الملك ، وكان مسلمًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ( 20 ) } .
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : { وشروه } به : وباع إخوة يوسف يوسف .
فأما إذا أراد الخبر عن أنه ابتاعه ، قال : " اشتريته " ، ومنه قول ابن مفرّغ الحميري :
وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي*** مِنْ قَبْلِ بُرْدٍ كنْتُ هَامَهْ
يقول : " بعت بردًا " ، وهو عبدٌ كان له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، أنه كره الشراء والبيع للبدويّ . قال : والعرب تقول : " اشر لي كذا وكذا " ، أي : بع لي كذا وكذا ، وتلا هذه الآية : { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } ، يقول : باعوه ، وكان بيعه حرامًا .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إخوة يوسف أحد عشر رجلا باعوه حين أخرجَه المدلي بدلوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد ،
وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
. . . . قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : { وشروه } ، قال : قال ابن عباس : فبيع بينهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { وشروه بثمن بخس } ، قال : باعوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فباعه إخوته بثمن بخس .
وقال آخرون : بل عنى بقوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } : السيارة أنهم باعوا يوسف بثمن بخس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } ، وهم السيارة الذين باعوه .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : تأويل ذلك : وشرى إخوة يوسف يوسف بثمن بخس ، وذلك أن الله عزّ وجلّ قد أخبر عن الذين اشتروه أنهم أسرّوا شراء يوسف من أصحابهم خيفة أن يستشركوهم بادعائهم أنه بضاعة ، ولم يقولوا ذلك إلا رغبة فيه أن يخلص لهم دونهم ، واسترخاصا لثمنه الذي ابتاعه به ، لأنهم ابتاعوه ، كما قال جلّ ثناؤه ، { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } . ولو كان مبتاعوه من إخوته فيه من الزاهدين لم يكن لقيلهم لرفقائهم : " هو بضاعة " ، معنى ، ولا كان لشرائهم إياه وهم فيه من الزاهدين وجه ، إلا أن يكونوا كانوا مغلوبا على عقولهم ؛ لأنه محال أن يشترى صحيح العقل ما هو فيه زاهد من غير إكراه مكره له عليه ، ثم يكذب في أمره الناس بأن يقول : هو بضاعة لم أشتره مع زهده فيه ، بل هذا القول من قول من هو بسلعته ضنين لنفاستها عنده ، ولما يرجو من نفيس الثمن لها وفضل الربح .
وأما قوله : { بَخْسٍ } ، فإنه يعني : نقص ، وهو مصدر من قول القائل : بَخِسْتُ فلانا حقه : إذا ظلمته ، يعني : ظلمه فنقصه عما يجب له من الوفاء ، أبْخَسُهُ بخسا ومنه قوله : { وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ } . وإنما أريد بثمن مبخوس : منقوص ، فوضع البخس وهو مصدر مكان مفعول ، كما قيل : { بِدَمٍ كَذِبٍ } ، وإنما هو بدم مكذوب فيه .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : قيل : { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } ؛ لأنه كان حراما عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } ، قال : البخس : الحرام .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عليّ بن عاصم ، عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : كان ثمنه بخسا : حراما ، لم يحلّ لهم أن يأكلوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } ، قال : باعوه بثمن بخس ، قال : كان بيعه حراما ، وشراؤه حراما .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } ، قال : حرام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } ، يقول : لم يحلّ لهم أن يأكلوا ثمنه .
وقال آخرون : معنى البخس هنا : الظلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } ، قال : البخس : هو الظلم ، وكان بيع يوسف وثمنه حراما عليهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال قتادة : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } ، قال : ظلم .
وقال آخرون : عُني بالبخس في هذا الموضع : القليل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس ، عن جابر ، عن عامر ، قال : البخس : القليل .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن جابر ، عن عكرمة ، مثله .
وقد بيّنا الصحيح من القول في ذلك .
وأما قوله : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } ، فإنه يعني عز وجلّ : أنهم باعوه بدراهم غير موزونة ناقصة غير وافية لزهدهم كان فيه . وقيل : إنما قيل معدودة ليعلم بذلك أنها كانت أقلّ من الأربعين ، لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقلّ من أربعين درهما ، لأن أقلّ أوزانهم وأصغرها كان الأوقية ، وكان وزن الأوقية أربعين درهما . قالوا : وإنما دلّ بقوله : { مَعْدُودَةٍ } ، على قلة الدراهم التي باعوه بها ، فقال بعضهم : كان عشرين درهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : إن ما اشتري به يوسف عشرون درهما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } ، قال : عشرون درهما .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف البكالي ، في قوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } ، قال : عشرون درهما .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع : وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف البكالي : { بَخْسٍ دَرَاهِمَ } ، قال : كانت عشرين درهما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحِمّانيّ ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن نوف ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : { بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } ، قال : عشرون درهما .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } ، قال : كانت عشرين درهما .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أنه بيع بعشرين درهما ، وكانوا فيه من الزاهدين .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي إدريس ، عن عطية ، قال : كانت الدراهم عشرين درهما اقتسموها درهمين درهمين .
وقال آخرون : بل كان عددها اثنين وعشرين درهما ، أخذ كلّ واحد من إخوة يوسف وهم أحد عشر رجلاً درهمين درهمين منها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } ، قال : اثنين وعشرين درهما .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } ، قال : اثنان وعشرون درهما لإخوة يوسف أحد عشر رجلاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَة }ٍ .
قال : وثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
وقال آخرون : بل كانت أربعين درهما . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن جابر ، عن عكرمة : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } ، قال : أربعين درهما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : باعوه ولم يبلغ ثمنه الذي باعوه به أوقية ، وذلك أن الناس كانوا يتبايعون في ذلك الزمان بالأواقي ، فما قصر عن الأوقية فهو عدد ، يقول الله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } ، أي : لم يبلغ الأوقية .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة ، ولم يحَدّ مبلغ ذلك بوزن ولا عدد ، ولا وضع عليه دلالة في كتاب ولا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد يحتمل أن يكون كان عشرين ، ويحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين ، وأن يكون كان أربعين ، وأقلّ من ذلك وأكثر ، وأيّ ذلك كان فإنها كانت معدودة غير موزونة وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في ديِن ولا في الجهل به دخول ضرّ فيه ، والإيمان بظاهر التنزيل فرض ، وما عداه فموضوع عنا تكلّف علمه .
وقوله : { وكانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ } ، يقول تعالى ذكره : وكان إخوة يوسف في يوسف من الزاهدين ، لا يعلمون كرامته عند الله ، ولا يعرفون منزلته عنده ، فهم مع ذلك يحبون أن يحولوا بينه وبين والده ليخلو لهم وجهه منه ، ويقطعوه عن القرب منه لتكون المنافع التي كانت مصروفة إلى يوسف دونهم مصروفة إليهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي مرزوق ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وكانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ } ، قال : لم يعلموا بنبوّته ومنزلته من الله .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، في قوله : { وَجاءَتْ سَيّارَةٌ } ، فنزلت على الجبّ ، { فأرْسَلُوا وَارِدَهُمْ } ، فاستقى من الماء ، فاستخرج يوسف ، فاستبشروا بأنهم أصابوا غلاما لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربه ، فزهدوا فيه ، فباعوه ، وكان بيعه حراما ، وباعوه بدراهم معدودة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { وكانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ } ، قال : إخوته زهدوا ، فلم يعلموا منزلته من الله ونبوّته ومكانه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : إخوته زهدوا فيه ، لم يعلموا منزلته من الله عزّ وجلّ .
و { شروه } - هنا - بمعنى باعوه ، وقد يقال : شرى ، بمعنى اشترى ، ومن الأول قول يزيد بن مفرغ الحميري : [ مجزوء الكامل ]
وشريتُ برداً ليتني*** من بعد بردٍ كنتُ هامَهْ{[6614]}
برد : اسم غلام له ندم على بيعه ، والضمير يحتمل الوجهين المتقدمين ؛ و { البخس } مصدر وصف به «الثمن » وهو بمعنى النقص - وهذا أشهر معانيه - فكأنه القليل الناقص ، وهو قول الشعبي - وقال قتادة : «البخس » هنا بمعنى الظلم ، ورجحه الزجاج من حيث الحر لا يحل بيعه ، وقال الضحاك : وهو بمعنى الحرام ، وهذا أيضاً بمعنى لا يحل بيعه .
وقوله : { دراهم معدودة } عبارة عن قلة الثمن لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها ، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية ، وهي أربعون درهماً ، واختلف في مبلغ ثمن يوسف عليه السلام : فقيل باعوه بعشرة دراهم ، وقال ابن مسعود : بعشرين ، وقال مجاهد : باثنين وعشرين أخذ منها إخوته درهمين درهمين {[6615]} وقال عكرمة : بأربعين درهماً دفعت ناقصة خفافاً ، فهذا كان بخسها .
وقوله : { وكانوا فيه من الزاهدين } وصف يترتب في «ورّاد » الماء ، أي كانوا لا يعرفون قدره ، فهم لذلك قليل اغتباطهم به ، لكنه أرتب في إخوة يوسف إذ حقيقة الزهد في الشيء إخراج حبه من القلب ورفضه من اليد ، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف ، وأما الورّاد فتمسكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز .
وقوله { فيه } ليست بصلة ل { الزاهدين } - قاله الزجاج وفيه نظر لأنه يقتضي وصفهم بالزهد على الإطلاق وليس قصد الآية هذا ، بل قصدها الزهد الخاص في يوسف ، والظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في سائر الصلات ، وقد تقدم القول في عود ضمير الجماعة الذي في قوله : { وشروه } .
معنى { شروه } باعوه . يقال : شرى كما يقال : باع ، ويقال : اشترى كما يقال : ابتاع . ومثلهما رَهن وارتهن ، وعاوض واعتاض ، وكَرى واكترى .
والأصل في ذلك وأمثاله أن الفعل للحدث والافتعال لمطاوعة الحدث .
ومن فسر { شروه } باشتروه أخطأ خطأ أوقعه فيه سوء تأويل قوله : { وكانوا فيه من الزاهدين } . وما ادّعاه بعض أهل اللغة أن شرى واشترى مترادفان في معنييهما يغلب على ظني أنه وَهَم إذ لا دليل يدل عليه .
والبخس : أصله مصدر بَخَسه إذا نقصه عن قيمة شيئه . وهو هنا بمعنى المبخوس كالخلق بمعنى المخلوق . وتقدم فعل البخس عند قوله تعالى : { ولا يَبخس منه شيئاً } في سورة البقرة ( 282 ) .
و { دراهم } بدل من { ثمن } وهي جمع درهم ، وهو المسكوك . وهو معرّب عن الفارسية كما في « صحاح الجوهري » .
وقد أغفله الذين جمعوا ما هو معرب في القرآن كالسيوطي في « الإتقان » .
و { معدودة } كناية عن كونها قليلة لأن الشيء القليل يسهل عدّه فإذا كثر صار تقديره بالوزن أو الكيل . ويقال في الكناية عن الكثرة : لا يعدّ .
وضمائر الجمع كلها للسيّارة على أصح التفاسير .
والزهادة : قلة الرغبة في حصول الشيء الذي من شأنه أن يرغب فيه ، أو قلة الرغبة في عوضه كما هنا ، أي كان السيارة غير راغبين في إغلاء ثمن يوسف عليه السّلام . ولعل سبب ذلك قلة معرفتهم بالأسعار .
وصوغ الإخبار عن زهادتهم فيه بصيغة { من الزاهدين } أشد مبالغة مما لو أخبر بكانوا فيه زاهدين ، لأن جعلهم من فريق زاهدين ينبىء بأنهم جَروا في زهدهم في أمثاله على سنَن أمثالهم البسطاء الذين لا يقدرون قدر نفائس الأمور .
و { فيه } متعلق ب { الزاهدين } و ( أل ) حرف لتعريف الجنس ، وليست اسم موصول خلافاً لأكثر النحاة الذين يجعلون ( أل ) الداخلة على الأسماء المشتقة اسم موصول ما لم يتحقق عهد وتمسكوا بعلل واهية وخالفهم الأخفش والمازني .
وتقديم المجرور على عامله للتنويه بشأن المزهود فيه ، وللتنبيه على ضعف توسمهم وبصارتهم مع الرعاية على الفاصلة .